العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي : نابغة الدهر وعبقري الزمان ( الحلقة الثانية الأخيرة )

منهج الإمام أبي الحسن علي الندوي في إصلاح المجتمع وفي تنمية جيل جديد
فبراير 7, 2022
صيغ الأداء في الإجازة وبيان أنواعها
فبراير 7, 2022
منهج الإمام أبي الحسن علي الندوي في إصلاح المجتمع وفي تنمية جيل جديد
فبراير 7, 2022
صيغ الأداء في الإجازة وبيان أنواعها
فبراير 7, 2022

دراسات وأبحاث :

العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي :

نابغة الدهر وعبقري الزمان

( الحلقة الثانية الأخيرة )

الأستاذ الدكتور أختر الواسع *

نقله إلى العربية ، د . قمر شعبان الندوي §

ومن أروع ما قام به الإمام الدهلوي من خدمات علمية هو تطبيق المسائل الفقهية ، وتقريبها إلى الحديث النبوي الشريف ، يتجلى اعتدال الدهلوي ، ووسطيته ، وجامعيته في تطبيقاته بين المذاهب الفقهية ، وتسوية مسائلها ، والتقريب بين الاجتهاد والتقليد ، أنجز الإمام الدهلوي في هذا الموضوع عدة بحوث تراثية ، قدم فيها نتائج دراساته الدقيقة العميقة ، وتتوافر آراؤه الفقهية كلها في العديد من مؤلفاته ، كما وقد خص بهذا الموضوع رسالتين ، إحداهما : ” عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد ” ، وأخراهما : ” الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ” ، ذهب في الرسالة الأولى إلى رأي معتدل ، وقابلٍ للعمل حول الاجتهاد والتقليد ، واستخلص كتابات عديدة حول الموضوع في هذه العجالة ، ففي جانب صرّح الإمام الدهلوي بأن باب الاجتهاد مفتوح ، ويلزم الاجتهاد على كل مسلم حسب قدرته وصلاحيته ، وفي جانب آخر بيّن أن تقليد المذاهب الأربعة مصلحة عظيمة لعامة الناس لكي يسهل لهم الحفاظ على الشريعة الإسلامية ، ولكنه ، بجنب ذلك ، أوضح أنه ليس هناك مذهب فقهي معين لهم ، بل عليهم العمل بما أفتى به المفتي والعالم في المسألة المذكورة ، وذلك هو مذهبه ، ثم قال : إن هناك صواباً في رأيين مختلفين في كثير من الخلافات الفقهية ، وفي رسالة : ” الإنصاف ” عالج أسباب الخلافات العلمية المتوافرة بين الرواة والفقهاء ، وبين أن هذه الخلافات كلها كانت موجودةً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أيد كلا الرأيين في مثل هذه الخلافات ، ومن أجل هذه العوامل والأسباب كانت الآراء مختلفة في عهد الصحابة – رضي الله عنهم جميعاً – ، وبقيت هذه الخلافات حتى عهد الأئمة المجتهدين ، ولكنهم لم يتركوا ذيل الحلم ، والمفاهمة والمرونة في مناقشة هذه الخلافات المذهبية ، لم يقم أحد بالمشاتمة والسباب ، كما لم يترددوا قط في ترك رأيه إلى رأي غيره ، أبدى الإمام الدهلوي عن آرائه الفقهية القيِّمة في العديد من مؤلفاته علاوة على هاتين الرسالتين ، من أمثال :              ” التفهيمات الإلهية ” و ” فيوض الحرمين ” . وأما كتابه الرائع ” حجة الله البالغة ” فتتوافر فيه مباحث فكرية دقيقة وعميقة عن هذا الموضوع ، بلور فيها أهمية المذاهب الفقهية الأربعة .

ومن أهم مجالات خدمات الإمام الدهلوي التصوف ، لم يكتف بمعالجة التصوف في كتبه الرائعة أمثال : اللمعات ، والسطعات ، والقول الجميل ، والخير الكثير ، وفيوض الحرمين ، فحسب ، بل إنما حاول أن يعرّف الفكر الإسلامي بالعلوم الظاهرة والباطنة عن طريق هذه المؤلفات محاولةً جادةً وناجحةً ، فالخلافات حول : ” وحدة الوجود ” و ” وحدة الشهود ” التي كانت في طبقات الصوفية ، ما زال صداها قائماً في عصر الشيخ ولي الله الدهلوي أيضاً ، فطبق الإمام الدهلوي بينهما ، وقال : لا يوجد فرق واضح بينهما ، والفرق في التعبير الذي لا معنى له ، وليس ذاك عنده إلا صراع الألفاظ والتعبير ، وإلا لا فرق في المدلول ، وكلاهما توضيح لوجهة نظر واحدة ( وقد حاول الدهلوي تفهيم انسجامهما   بالأمثلة ) .

وثمة موضوع مهم آخر لعلوم الشريعة ، قلما كتب حوله العلماء والمفكرون طوال التاريخ الإسلامي ، وهو علم أسرار الشريعة ، إن الفراسة التي وهبها الله تعالى للإمام الدهلوي كانت تتقاضى منه أن يتخذ هذا الموضوع عنوان كتاباته ، والتفكير فيه ، وكانت لدى الإمام الدهلوي نفسه أهمية كبرى لهذا الموضوع ، كما وقد أدرك هذه الحقيقة ، وأحس جيداً بأن دور قبول الأحكام الشرعية على أساس العقيدة والإيمان كاد أن ينتهي ، وسيأتي قريباً عصر التعقل ، والمنطقية ، والتكنالوجيا ، ففي هذه الظروف تمثيل الشريعة الإسلامية وفق أسلوب العصر وإطاره هو عين التجديد ، لقد ألقى الإمام الدهلوي الضوء على هذا الموضوع ، فقال :

” إن أدق الفنون الحديثية بأسرها عندي ، وأعمقها محتداً ، وأرفعها مناراً ، وأولى العلوم الشرعية عن آخرها فيما أرى ، وأعلاها منزلةً ، وأعظمها مقداراً ، هو علم أسرار الدين ، الباحث عن حِكم الأحكام ، ولمياتها ، وأسرار خواص الأعمال ونكاتها ، فهو والله أحق العلوم بأن يصرف فيه من أطاقه نفائس الأوقات ، ويتخذه عُدة لمعاده بعدما فرض عليه من الطاعات ، إذ به يصير الإنسان على بصيرة فيما جاء به الشرع ، وتكون نسبته بتلك الأخبار كنسبة صاحب العروض بدواوين الأشعار ، أو صاحب المنطق ببراهين الحكماء ، أو صاحب النحو بكلام العرب العرباء ، أو صاحب أصول الفقه بتفاريع الفقهاء ، وبه يأمن من أن يكون كحاطب ليل ، أو كغائص سيل ، أو يخبط خبط عشواء ” [1] .

وحجة الله البالغة إنجاز علمي شامخ ورائع في هذا الموضوع ، وإثراء عظيم في التراث العلمي الإسلامي ، قدمت منطقية الشريعة الإسلامية ، وعلاقتها بمقتضيات الإنسان في أسلوب علمي وعقلي خالص بالدلائل ، وتلك هي المأثرة التي قلما أنجزها العلماء في التاريخ الإسلامي ، ولم يظهر عمل مع هذه الجامعية والشمول والإسهاب إلا للإمام الدهلوي ، كأن هذا الكتاب إعداد على أساس عقلي واستدلالي للعصور المقبلة ، لكي ينجز كتاب عن الدين الإسلامي الكامل وشريعته الغراء في ثوب عقلي ، وفلسفي حكيم ، ولأهمية هذا العمل الجليل الموفَّق ، سمَّى المؤلف كتابه بـ ” حجة الله البالغة ” .

وحجة الله البالغة كتاب عديم النظير عن أسرار الشريعة الإسلامية من دون ارتياب ، تتبلور فيه عبقرية الإمام الدهلوي ، وإمامته على القمة ، ربما لم يصدر كتاب في المكتبات الإسلامية على هذه الجامعية والشمول عن هذا الموضوع ، يقول الشيخ أبو الحسن الندوي :

” رغم أن التفسير المنطقي للقضايا الإسلامية ، والتطبيق بين العقل والنقل لم يكن موضوعاً جديداً لعالِم القرن الثاني عشر ، لقد ذكر الإمام الدهلوي نفسه أسماء الإمام الغزالي ، والخطابي ، والشيخ عز الدين عبد السلام في مقدمة حجة الله البالغة ، الذين بينوا حِكم الأحكام الشرعية ، ومصالحها ، ولكن هذه حقيقة أن كل ما كتبه هؤلاء الجهابذة لم يكن إلا إشارات ونقاطاً ، ولا نجد التفسير المنطقي الحكيم للنظام الشرعي الكامل للإسلام قبل الإمام ولي الله الدهلوي ، وكما أعلم أن حجة الله البالغة أول تأليف في هذا الموضوع مع هذه الجامعية والشمول والاتساع ” [2] .

وأهم جوانب اجتهاد الإمام الدهلوي وفكره ، وآرائه ووجهات نظره التعليمية ، وهذا الموضوع أيضاً يحتل أهمية أن الانحطاط والتخلف التعليمي باعث أساسي لتدهور الفكر الإسلامي في العالم الإسلامي ، تحدث الإمام الدهلوي عن هذا الموضوع في كتاباته المختلفة بكل صرامة وأهمية ، حتى إنه استرعى الانتباه إلى هذا الموضوع في وصيته بوجه خاص ، وبين فيها المناهج التعليمية للمسلمين ، فما هي الأمور التي تقتضي التركيز الخاص ، وما هي الأشياء التي لابد من غض البصر عنها ، فلنتذكر أنه كان هناك رواج أكثر لتعليم الطلبة فرادى في عصر الإمام ولي الله الدهلوي  ، ستفيد الفقرة الآتية في هذا الصدد ، يقول الإمام الدهلوي :

” لقد ثبت من الاستعراض أنه لابد أن تكون المناهج الدراسية أن يدرس الطالب في البداية ثلاثة أو أربعة كتب دراسية للصرف والنحو حسب قدرة الطالب وذكائه ، ثم يدرس الطالب كتاباً للتاريخ والحكمة باللغة العربية ، وعلى المدرس أن يتابع المعاجم اللغوية أثناء التدريس ، وأن يحل للطالب الكلمات العسيرة ، ولما يتقن الطالب اللغة العربية ، يدرس مؤطأ الإمام مالك برواية يحيى بن يحيى المصمودي ، ولا يجوز الإهمال عن دراسة المؤطأ ، إنما هو الأصل والأساس في علم الحديث . . . . . . ، ثم يعلّم القرآن ” [3] .

هذه فقرة طويلة جداً ، اقتبست هنا جزءاً من بدايتها ، قدم فيها الإمام الدهلوي مشروع تدريس كتب العقائد ، والسلوك ، والفنون ، والحكمة بالإضافة إلى القرآن ، والحديث ، والفقه ، ولا يخفى على أحد أن تدريس الصحاح الستة في الهند بدأ على أيدي الإمام ولي الله الدهلوي ، وخلفه . تحتل العلوم المعقولة والمنقولة أهميةً متساويةً عند الإمام الدهلوي ، ولكن العلوم المنقولة لها المكانة الأساسية والأولية ، ينتقد الإمام الدهلوي المباحث الطويلة ، والقيلات العابثة في المناهج الدراسية للعلوم المعقولة انتقاداً شديداً ، كما يندِّد بالجهود في تدريس العلوم الآلية باتخاذ العلوم العالية هجراً مهجوراً ، فانظروا انتقاده في كتابه  : ” التفهيمات الإلهية ” يقول :

” أيها السفهاء المسمون أنفسكم بالعلماء ! اشتغلتم بعلوم اليونانيين ، وبالصرف والنحو والمعاني ، وظننتم أن هذا هو العلم ، إنما العلم آية محكمة من كتاب الله أن تتعلموها بتفسير غريبها ، وسبب نزولها ، وتأويل معضلها أو سنة قائمة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . . . . . كان مرضي الحق أن تشتغلوا بكتاب الله تعالى ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ابتداءً ، فإن سهل عليكم الأخذ بهما فبها ونعمت ، وإن قصرت أفهامكم فاستعينوا برأي من مضى من العلماء ما تروه أحق ، وأصرح ، وأوفق بالسنة ، وأن لا تشتغلوا بالعلوم الآلية إلا بأنها آلة لا بأنها أمور مستقلة ، أما أوجب الله عليكم أن تشيعوا العلم حتى تظهر شعائر الإسلام في بلاد المسلمين ، فلم تظهروا الشعائر ، وأمرتم الناس أن يشتغلوا بالزوائد ” [4] .

ومستخلص القول  لا بد من الانتفاع بهذه النظريات التعليمية للإمام الدهلوي ، كما لابد من العمل بالجوانب المختلفة المهمة من أفكاره ، وشخصيته بوجه مخصوص ، وأهم هذه الجوانب في رأيي : الاتحاد والمفاهمة بين المذاهب الفقهية ، والمدارس الفكرية المختلفة ، لقد مهّد الإمام الدهلوي الأسس الفكرية لكل ذلك ، كما وقد حاول تشكيل اتجاه مستقل في ضوء المبادئ والمناهج العلمية ، ومن الغريب جداً أن الأوساط العلمية كلها في شبه القارة الهندية تعتز بانتمائها إلى ولي الله الدهلوي ، ولا تتفق المدارس الفكرية كلها على فكر الدهلوي المسالم والمفاهم فحسب ، بل كلهم يعدونه عنواناً متجلياً لمآثره ، ولكن للعجب العجاب ، لا يستعد أحد أن يطبق فكر الإمام الدهلوي على المستوى العلمي والفكري ، فكل أسير لمذهبه ، ومدرسة فكره ، ربما يبدو أن الذين ، لسانهم رطب باسم الإمام الدهلوي هم أبعد الناس عن آرائه ونظرياته الفكرية الاجتهادية والمسالمة .

* رئيس جامعة مولانا آزاد ، جودهـفور ، راجستهان ، الهند .

  • أستاذ مساعد ، قسم اللغة العربية ، كلية الآداب ، جامعة بنارس الهندوسية ، فارانسي ، الهند . E-mail: q.shaban82@gmail.com

[1] حجة الله البالغة ، الجزء الأول ، دار الجيل بيروت ، 2005م/ 1426هـ ، ص : 22 .

[2] الفرقان : عدد ممتاز عن ولي الله الدهلوي ، ص : 341 .

[3] التفهيمات الإلهية ، الجزء الثاني ، المجلس العلمي ، دابهيل ، 1936م/ 1355هـ ، ص : 245 .

[4] التفهيمات الإلهية ، الجزء الأول ، المجلس العلمي ، دابهيل ، 1936م/ 1355هـ ، ص : 214 – 215 .