التخطيط المدني والتربوي اللائق بمركز الإسلام وأثره في حياة الشعب ، ووضع البلاد

البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور المعارج ونوح والجن والمزمل والمدثر )
فبراير 7, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور المدثر والقيامة والإنسان والمرسلات )
مارس 15, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور المعارج ونوح والجن والمزمل والمدثر )
فبراير 7, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور المدثر والقيامة والإنسان والمرسلات )
مارس 15, 2022

التوجيه الإسلامي :

التخطيط المدني والتربوي اللائق بمركز الإسلام

وأثره في حياة الشعب ، ووضع البلاد

للعلامة الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى

في حديث عن تخطيط مدني أو تربوي يقوم في مركز الإسلام ، ومهد الدعوة الإسلامية الأولى ، يجب أن لا ننسى أن له شخصيةً متميزةً خالدةً ، يجب أن تكون بارزةً واضحةً ، يخضع لها جميع المخططات والمشاريع ، والنهضات والإصلاحات ، وكل ما يدعو إلى تطوير أو تكييف مع الزمان والمكان ، وأن تكون هي المقياس والأساس ، في كل ما يقبل ويرفض ، وفي كل ما يقتبس ويتلقى من الحضارة الغربية والمعطيات العصرية ، وأن يفصل لباس هذا التخطيط المدني والتربية والتعليم والإعلام والثقافة على قامة هذه الشخصية الملية ، وقيمتها  المعنوية ، والرسالة التي نيطت بها ، وكلفت إبلاغها إلى الإنسانية ، وتمثيلها أجمل تمثيل على أرضها في كل عصر .

وليكن من المقررات التي لا تقبل الشك أن الجزيرة العربية هي غرس محمد صلى الله عليه وسلم ، وثمرة دعوته وجهاده ، وله ولأصحابه وللمؤمنين بدعوته وحدهم الحق عليها ، فيجب أن يكون كل شيئ يقوم في هذه الجزيرة – من تنظيمات وتصميمات ، ومخططات ومؤسسات – مقرراً لهذه الحقيقة ، متجاوباً معها ، وأن تكون هذه الأرض بعيدةً كل البعد عن كل ما ينافي هذه الحقيقة ، وكل ما يهدِّد سلامتها العقائدية والفكرية ويضعف شخصيتها ، وإلى ذلك نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظره البعيد ، فأوصى بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، ونهى عن أن يجتمع دينان فيها [1] ، ولا شك أن وصيته النبوية الحكيمة لا تقتصر على إخراج غير المسلمين أجساماً ظاهرةً ، بل إنها تشمل إخراج نفوذهم وتوجيههم وحضارتهم ودعواتهم ، كما يفهم كل عاقل .

وزيادةً على ذلك فإن في هذه الجزيرة ، الحرمين : مكة البلد الأمين : الذي وُلد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأُكرم بالرسالة ، ويقع فيه الحج ، ويدور حوله ، والمدينة : التي هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأقام فيها مسجده ، ومدرسته ، والمجتمع الإسلامي المثالي الأول ، ومنها انطلقت الدعوة الإسلامية ، والمد الإسلامي إلى أنحاء العالم ، وهذه مسؤولية عظيمة خالدة ، فيجب أن تكون هذه البيئة أمينةً للحياة الإسلامية ، ومرآةً صافيةً لها ، حتى يستطيع كل وارد إليها أن يلمسها ويتذوقها بسهولة ، لأن الله قد قضى أن تكون هذه الأرض مركز الحج إلى آخر الزمان ، ومثابةً للمسلمين في كل سنة ، ولهم الحق بأن يؤمنوا بأنهم يقصدون بلداً هو معدن الطهر ومولد الدين ، وعاصمة الإسلام الروحية والخلقية ، بعيدٌ عن التيارات المعادية للإسلام ، والأخلاق المنافية لتعاليمه وتأثيره ، بُعداً يمكن وقوعه وتصوره في هذا العصر المتطور ، ولم يخضع للحضارة الغربية وقيمها ومثلها ، خضوع بلد واقع في أقاصي العالم الإسلامي ، لا يحمل هذه الشخصية ، ولا يضطلع بهذه المسؤولية .

وأن يكون على شيئ من البساطة والطبيعة ، وعلى شيئ من التقشف ، فيستشعر فيه الوافدون من أنحاء العالم البعيدة ، بالجو الذي كان المسلمون الأولون يقضون فيه مناسكهم ، ويشعرون بشعورهم أو قريب من شعورهم ، وأن لا يبقى البيت وحده والحرم وحده ، جزيرةً مختصةً بالعبادة والتأمل والهدوء ، يموج حولهما بحر المدنية الهائج ، تضرب أمواجه العاتية أسوارهما ، وقد تجوس خلال الديار .

والحضارة عميقة الجذور في أعماق النفس الإنسانية وفي مشاعر الأمة وأحاسيسها ، وتجريد أمة من حضارتها الخاصة التي نشأت تحت ظلال دينها وتعاليم شريعتها ، وكان في صياغتها نصيب كبير للذوق الديني الخاص ، وطابع هذه الأمة الخاص ، مرادف لعزلها عن الحياة وتحديدها في إطار العقيدة والعبادة والطقوس الدينية ، الضيق ، وفصل حاضرها عن ماضيها ، وأثر هذا التحويل كان عميقاً دائماً في حياة الأمم والمجتمعات البشرية ، فذابت تدريجياً في بوتقة الأمم التي اقتبست منها هذه الحضارة بمعانيها الواسعة ، وكان انسلاخها عن العقيدة التي بقيت متمسكةً بها سهلاً .

وليس المقصود من إبراز ناحية خطر الحضارة الغربية واقتباسها على الشخصية الإسلامية ، وكيان الأمة المسلمة هو تحريم الاستفادة من الحضارة الغربية في مرافق الحياة و اقتباس بعض ما توصل إليه العلم والصناعة والاختراع في الغرب من وسائل تسهيل وترفيه ، وإغلاق الباب على مصراعيه ، فإن ذلك لا يقوله عاقل فضلاً عن مطلع على روح الدين وتعاليمه ، والإسلام لم يزل ولا يزال واسع الأفق ، متفتح القلب والنظر في الاستفادة بكل ما يصلح وينفع ، ولكن مفهوم الحضارة الغربية في هذا المقال هو أوسع من اقتباس الآلات والمخترعات والتجارب المفيدة في الحياة العامة ، إنها تشمل الأفكار والقيم والمفاهيم والمثل وصبغ الحياة كلها بالصبغة الغربية والتخطيط المدني الشامل ، واقتباس أساليب الحياة التي لا تتفق مع تعاليم الإسلام ومعاييره ، في الطهارة والنظافة ، والاعتدال والاقتصاد ، والوقوف عند الحدود التي رسمتها الشريعة الإسلامية ، ويعسر على المسلم معها التأدب بآداب الشرع والعمل بالسنن النبوية الكثيرة ، ويبتعد بها عن الحياة الإسلامية ، التي عاشها الرسول والصحابة والتابعون لهم بإحسان ابتعاداً كلياً ، وتضفى على الأمة شخصية أجنبية لا تعرف فيها إلا بالأسماء الإسلامية أو بالأزياء التي لا تزال بعض الشعوب العربية أو الإسلامية محافظةً عليها ، أو عندما يرتفع صوت الأذان من مناير مساجدها ، أو عندما تدخل في المساجد ، على قلة عدد الداخلين في بعض البلاد وكثرتهم في بعضها ، فلا يربطها بالإسلام إلا خيط رقيق من عقيدة وتقاليد دينية ، إذا انقطع هذا الخيط – لا سمح الله بذلك – انقطع كل شيئ .

وأعتقد أنه من الميسور جداً الجمع بين التسهيلات المدنية والاستفادة بالآلات والمخترعات ، وما وصل إليه العلم الحديث ، وبين ما تمتاز به الحضارة الإسلامية من جمال وبساطة وجدية وعناية بالطهارة والنظافة ، والابتعاد عن الإسراف والتبذير والإغراق في الخارجية ، إذا وفقت الحكومة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية للتخطيط المدني المستقل ، البعيد عن التقليد الأعمى ، والارتجالية ، ومركب النقص ، وإذا توفر عندها الذكاء ، والأصالة ، والإيمان بفضل التعاليم الإسلامية والحضارة الإسلامية التي تنبثق عنها وتقوم عليها ، والاعتداد بشخصيتها ، وكان هذا التخطيط أجمل وأفضل ، وأكثر جلباً للأنظار واستهواءً للقلوب ، وأبعث على الاحترام والتقدير ، ويؤم هذه المدن عدد من السُياح بل من قادة الفكر ورواد العلم ، أكبر من العدد الذي يؤمها الآن من المتنزهين ، وربما يكون هذا الطراز الجميل الأصيل من المدنية باعثاً لكثير من الأقطار الغربية على تقليد بعض هذه الجوانب واقتباسها وعلى الأقل على التفكير فيها وتقديرها ، كما كان الشأن مع الحضارة الإسلامية الأندلسية التي كان لها أثر عميق في الحضارة الغربية ، وفلسفتها وآدابها .

ولكن مع الأسف الشديد لم يوفق لذلك قطر واحد من الأقطار الشرقية والغربية والعربية والحكومات الإسلامية ، ولم تكن عند واحد منها جراءة كافية تحملها على مجرد هذه التجربة ، وكانت النتيجة أن أصبحت هذه الأقطار كلها نسخةً ناقصةً من المدنية الغربية ، وصورةً شاحبةً لها ، لا تسترعي اهتمام الغربيين ، ولا تحرك فيهم مشاعر الإجلال والاحترام ، وإنما يقولون إذا زاروا هذه المدن ، متفرجين أو مشاهدين :     ” بضاعتنا ردت إلينا ” .

إن التصميم الحضاري محنة ذكاء ، وعصامية وعبقرية ، وقوة إرادة ، وفقه دين ، ليس عملية نقل وتطبيق ، وتعديل وتحسين ، إن الإسلام قد حد حدود الحلال والحرام ، وحرم تخطي هذه الحدود ، وأفسح المجال للتمتع الكريم النزيه ، في غير إسراف وإجحاف ومس بحقوق الآخرين وحظوظهم ، ومن غير تعرض لخطر الوقوع في الإثم والفحشاء والتبذير ، والحياة التي لا تليق بالذكور الرجال ، والكرام الأقوياء ، وهذه هي الروح التي تسيطر على أحكام اللباس والطعام والعشرة والاجتماع والمتعة واللذة ، وحث على مراعاة المصالح ، والتجنب من وسائل القوة والدفاع ، واقتباس الصالح النافع من العلوم والحكمة ، بشرط أن لا يكون ذلك على حساب مقومات الشخصية والكرامة القومية ، وبشرط أن لا ينشئ ذلك في الأمة شعوراً بالنقص ، وقصوراً بالنقص ، وقصوراً في الثقة ، وروحَ اندفاع سريع متهور إلى تقليد الآخرين ، والتشبع بروحهم ، وإجلال حياتهم وتقديسها .

إنها أساس حضارة تملك نعومة الحرير وصلابة الحديد ، نعومة الحرير في مسايرة المقتضيات والحاجات والحقائق ، غير مفترضة ولا مختلفة ، وغير متخيلة ولا مبالغاً فيها ، وصلابة الحديد وثبات الجبال على حدود العقيدة والأخلاق ، إنها مفتوحة العقل والضمير ، منشرحة الصدر ، لاقتباس العلوم النافعة التي نشأت وتكونت في جانب بعيد في هذا العالم ، واقتباس النظم والأساليب التي لا تمس جوهر الدين ولا تغير وضع الأخلاق .

[1] راجع صحيح مسلم وكتب الحديث .