القيم الخلقية والتربوية
فبراير 7, 2023الزمخشري وتأبيد ” لن ” دراسة نقدية تحليلية
فبراير 7, 2023سرديات الإسراء بين المعري ودانتي وغوطه وإقبال
( الحلقة الثانية الأخيرة )
دراسات وأبحاث :
من أبعاد التواصل في الآداب العالمية :
سرديات الإسراء بين المعري ودانتي وغوطه وإقبال
( الحلقة الثانية الأخيرة )
بقلم : أ . د . محمد ثناء الله الندوي *
أدبيات الإسراء العالمية :
لا يخفى على الباحث أن سرديات الإسراء تحولت إلى موروث شعبي إسلامي أفرزته المخيلة المشتركة ، ومعمار القصة وإطارها العام وعناصرها الأساسية تتوافر في أغلب ما يسمى بقصص الإسراء والمعراج من مجيئ جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام بالرحلة إلى بيت المقدس ، والصلاة بالأنبياء إماماً هناك ، ثم الصعود إلى السموات السبع ، ومقابلة النبي الموكل بكل سماء ، والحوار مع الملائكة لكل منها ثم زيارة الجحيم والنعيم والكلام عمن فيهما . فتحولت إلى شبه ملحمة رغم أساسياتها من الحديث والتفسير ، ولكن ينطبق عليها ما ينطبق على الملحمة من شروط كالظروف المأساوية التي تحيط بأبطال الملاحم . وغطت مساحات ثقافية واسعة من الأدب العربي والفلسفة متمثلة في رسالة الطير لابن سينا والسهروردي وعنقاء أبي حامد الغزالي ، ورسالة الغفران للمعري ورؤيا البسطامي وكتاب المعراج للقشيري وثورة في الجحيم للزهاوي وشاطئ الأعراف لمحمد عبدالمعطي الهمشري وبين اللا نهايتين لمحمد السحراوي . كما كانت لها تجليات في الأدب الفارسي بدءاً من الحكيم السنائي في سير العباد إلى أرض المعاد , ومنظومات فريد الدين العطار ستة آلاف بيت في موضوع المعراج ، وكتابه منطق الطير الذي هو معراج ولكن للطير [1] .
أما تجليّات الإسرآء في الأدب الأوروبي ، فأبرزها ملحمة دانتي التي أصبحت مؤثراتها الإسلامية من أهم الدراسات المقارنة التي دشنها المستشرق الإسباني ميجويل آثين بلاسيوس عام 1919م ، وأكملها كل من مونيث خوزي سندينو وأزيكو تشيرولي ، كما درسها العديد من النقاد العرب من أمثال محمد غنيمي هلال وبنت الشاطئ وصلاح فضل ، وآخرين . أهمية بلاسيوس أنه ركز على القرائن النصية بين رائعة دانتي وجملة من الأعمال الإسلامية الأدبية والصوفية المنبنية على قصة الإسراء والمعراج . ولكنه لم يتقدم بوثيقة تاريخية تثبت هذا التأثير على طريقة الفرنسيين في الدراسات المقارنة ، فأصبح عرضةً لنقد المستشرقين الطليان بخاصة وأنصار الدراسات المتعلقة بدانتي بشكل عام ، لأنهم يستكبرون أن يكون شاعر أوروبا المسيحية مديناً بعبقريته إلى مصادر إسلامية ، ولعل المستشرق غابرييلي كان يعبر عنهم حين قال : إن دانتي لا يعرف العربية وأن العلاقة ( النصية ) بين ملحمة دانتي وقصص الإسراء والمعراج غير متوافرة [2] .
لكن هذه المناظرة التاريخية بين أنصار دانتى وخصومهم لم تقف عن حد القرائن النصية بين عمل دانتي والمصادر الإسلامية ، ففي عام 1449م قام عالمان جليلان بنشر مخطوط لترجمة قصة الإسراء والمعراج النسخة الأندلسية ( والمغربية ) إلى كل من اللغة اللاتينية واللغة الفرنسية برعاية الفونسو العاشر الملقب بالحكيم في عام 1264م في مدرسة إشبيلية للترجمة التي كان يتعهدها ويرعاها ، وهذان المستشرقان هما الأسباني خوزي مونيث سندينو ( Sendino Muñoz José ) [3] والطلياني انريكو تشيرولي ( 1988 – 1898Enrico Cerulli : ) دون أن يعرف الواحد منهما مشروع الآخر ، واعتمد كلاهما على المخطوطات المتوافرة في مكتبة آكسفورد أو مكتبة الفاتيكان . وأعاد بناء الترجمة إياها باللغة الأسبانية الحديثة لأن الترجمة إلى اللغة القشتالية ( الأسبانية القديمة ) ، قد ضاعت .
رسالة الغفران :
ألف أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرِّي التنوخي ( 449 هـ/1057م ) رسالة الغفران سنة 424هـ ردَّاً على رسالة علي بن منصور الحلبي بن القارح . الرِّسالة المتألفة من مقدِّمة وقسمين تمثل وحدة بنوية كاملة ذات بعد شعري ولغوي وفلسفي . يُعرب أبو العلاء ، في المقدِّمة ، أوَّلاً ، عن مودَّته لابن القارح بأسلوب يستخدم فيه الصَّنعة والسَّجعِ والبديع والألفاظ الغريبة التي يعرف أنَّها كذلك فيشرحها ، ويستطرد مستشهداً بالشِّعر . وفي القسم الأول يصف الجنَّة ، ويتحدَّث عن الُّلغويين فيها ، ثمَّ يروي رحلة الشَّيخ إليها ” . . . فيركب نجيباً من نُجب الجنَّة ، خُلق من ياقوتٍ ودرٍّ ، في سجسجٍ بَعُدَ عن الحرِّ والقرِّ ، ومعها إناءٌ فيهج ، فيسير في الجنَّة على غير منهج . . ” ، ويلتقي بعددٍ من الشُّعراء ويدور حوار بينه وبين كلٍّ منهم عن الشِّعرِ والشُّعراء ، ويسأله عن سبب مغفرة الله ، سبحانه وتعالى ، له ، ومنهم الأعشى وزهير بن أبي سلمى وعبيد بن الأبرص وعدي ابن زيد وأبي ذؤيب الهذلي والنابغتان : الذبياني والجعدي ولبيد بن ربيعة وحسَّان بن ثابت والشمَّاخ بن ضرار وعمروبن الأحمر وتميم بن أبي ، ثمَّ يلتقي رضوان خازن الجنان وزفر خازن الجنان الآخر وحمزة بن عبد المطلب ( رضي الله عنه ) وأبي علي الفارسي والإمام علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) والسيدة فاطمة الزَّهراء ( رضي الله عنها ) والنبي محمَّداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) . ثمَّ يعبر على الصراط بمساعدة جاريةٍ أهدته إيَّاها السَّيدة الزهراء ( رضي الله عنها ) ، فيُسْأل إنْ كان معه جوازٌ للدُّخول إلى الجنَّة . وإذ لم يكن معه جواز ، يُدْخله إبراهيم بن النبي محمَّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فيلقى عدداً من الشُّعراء الآخرين ، منهم راعي الإبل وحميد بن ثور ولبيد بن ربيعة . ويُدعى إلى مأدبة تُقام في الجنان ، ويلقى الحور العين .
ثمَّ يبدو له أنْ يطَّلع على أهل النَّار ، فيركب بعض دواب الجنَّة ويسير ، فيمرُّ بجنَّة العفاريت وبأقصى الجنَّة ، فيجد الحطيئة والخنساء . ثمَّ يرى أهل النَّار ، وهم : إبليس وبشار بن برد وامرؤ القيس وعنترة بن شدَّاد وعلقمة بن عبدة وعمرو بن كلثوم التَّغلبي والحارث اليشكري وطرفة بن العبد وأوس بن حجر والأخطل التَّغلبي والمهلهل التَّغلبي والمرقَّشين : الأكبر والأصغر والشنفرى الأزدي وتأبَّط شرَّاً . ثمَّ يعود إلى الجنَّة فيلقى آدم ، فيسأله عن شعرٍ نُسب إليه فيقول : إنَّه من نَظم بعض الفارغين . ثمَّ يضرب سائراً في الفردوس فيجد حيَّاتٍ يلعبن . ثمَّ يمرُّ بأبياتٍ ليس لها ارتفاع أبيات الجنَّة فيسأل عنها ، فيُقال : هذه جنَّة الرَّجز ، ثمَّ يتحدَّث عن سُرُر أهل الجنَّة . ويُنهي هذا القسم بقوله : ” وقد أطلت ، في هذا الفصل ، ونعود الآن إلى الإجابة عن الرِّسالة ” ، ويجيب عن رسالة ابن القارح في فصلٍ آخر هوالقسم الثاني من الرِّسالة .
دانتي وكوميدته الإلهية :
دانتى الأليجيري ( 1265 – 1321م ) من شعراء العالم الذين تقل نظائر عبقريتهم الفكرية المنتجة . وتمثل كوميديته الإلهية قمة التطور الفكري والفني والسياسي لدى شاعر هو آخر شعراء العصور الوسطى وأول شعراء عصر النهضة . والعمل المنقسم إلى ثلاثة أقسام مطابقاً لأجزآء الحياة الثلاثة الآخرة حسب الرؤى الكاثوليكية : الجحيم والبرزخ والفردوس ، والمتألف من مأة نشيد ( 33×33+1=100 ) يحوي تكويناً بنائياً مؤسساً على ثالوث الزمان والمكان والأمل . الشاعر يجد نفسه في منتصف طريق حياته في غابة مظلمة إذ ظل سواء السبيل . إنها غابة موحشة قاسية ، وكادت ثلاثة وحوش ( فهدة وأسد وذئبة ) تقضى عليه . وقد أنقذه من تلك الغابة الشاعر فرجيل الذى أرسلته بياتريتشى ( عشيقة دانتي ) . الشاعر فرجيل يمثل الحكمة ، بينما الفهدة هي الشهوات ، والأسد يرمز إلى الغطرسة ، والذئبة هي الجشع . وتبدأ رحلة دانتي في الجحيم يرى من خلالها أناساً يعذبون ، هم عبيد الشهوات الذين قضى عليهم بالدوران في عواصف الجحيم ، ومن سادهم الغضب غمسوا في مستنقع النار ، والمرابون علقت إلى أعناقهم أكياس المال التي تشدهم دوماً إلى الأرض ، والمنجمون والمنافقون والخونة وبعض القساوسة والرهبان والبابوات المتاجرين بريع الكنيسة ، وسواهم . ثم يعرج دانتي على البرزخ ليرى الآثمين وهم غير الخالدين في النار ، فيحتاجون إلى التطهير ليدخلوا الفردوس ، منهم المتغطرسون والحُساد والشرهون والبخلاء . ويطهرون من ذنوبهم بحمل الأثقال والتضور جوعاً وغير ذلك . وفي الفردوس تحل بياتريتشى محل فرجيل كدليل للشاعر ، لأن الحكمة الأرضية ( فرجيل ) لم تعد كافيةً للوصول إلى الثواب الإلهي ، فلا بد من حكمة إلهية دينية ممثلة في عشيقة الشاعر بياتريتشى . ورأى في الفردوس من رضى أن يراهم من الصالحين والأبرار [4] .
لقد شاعت شهرة الكوميديا الإلهية وتغنى بها الإيطاليون في ساحاتهم العامة منذ القرن الرابع عشر ، وترجمت إلى معظم لغات العالم احتفاءاً بالشاعر الكبير الذي حلم السعادة لشعبه والمستقبل الزاهر للإنسانية جمعاء .
أوجه التلاقي بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية :
تعود أهمية رسالة الغفران إلى القسم الأوَّل ، فهو رحلة متخيَّلة إلى الجنَّة ، وتتمثل أوجه التلاقي بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهيَّة بمناحٍ عدة عامة وخاصة . المناحى العامة تشمل نظم بنية قصصيَّة متخيَّلة في إطار العمل ، واهتمام أبي العلاء ودانتى بالأديان وكلامهما على الزَّندقة ، وسخريتهما من بعض المعتقدات ، والاهتمام بالشعر والأدب والدفاع عن بعض الشُّعراء الَّذين عُرفوا بالزَّندقة ، وزعم أنَّ الله سبحانه وتعالى ، قد غفر لهم ، ولهذا سمَّى رسالته بـ ” رسالة الغفران ” . المعري أساساً يبدي عن آرائه في الدينيات والإلهيات بشكل إبداعي نقدي يبنى هيكله السردي في إطار واسع يشمل الإنس والجن ( الخيتعور الجني ) والمسلمين والكفار والأشراف والعامة وأهل الثراء والفقراء . ولكم إطار دانتي أكثر شمولاً من المعري ، ومن هنا تسمية الكوميديا الإلهية بموسوعة المعارف في القرون الوسطى .
أما أوجه التلاقي من المناحي الخاصة فأبرزها أن دانتي يحاور أستاذه برونتولاتيني المعذب في النار عن حياته في الدنيا وعمن يعذبون معه من أمثال برسكيان وفرانسسكو كروسو ، وينصح بمطالعة كتابه ” الذخيرة ” [5] . وفي البرزخ يقابل دانتي مع الموسيقار الفلورنسي كاسيلا الذي ينشد قصيدة لدانتي ، كما يلتقي فيه مع الشاعر سورديلو ( من مانتوا ) الذى يثنى على جيدوجينى شيلي وجيدوكاول كانتى [6] والشاعر اللاتيني استاتيوس يسرد قصة حياته أمام دانتى وفرجيل . ويذكر عمل دنتى شخصيات مثل أينياس ، وصلاح الدين الأيوبي ، وسقراط ، وأفلاطون وأرسطو وفرجيل وسسرووسينيكا وابن رشد وابن سينا في الحجيم والقديس توما الأكويني وسيجر دوبرابان وداؤد وريفيوس وآخرين في الجنة .
المعري في رسالة الغفران يذكر حمدونة وتوفيق من أهل الجنة ، وهما من النساء القبيحات في الدنيا . مقابل ذلك نجد دانتي يذكر لا بيا وبكاردا دوناتى وكونيزا – وهن مثل حمدونة وتوفيق – في الجنة [7] .
ابن القارح يزور الجنة أولاً ثم يزور الجحيم . أما دانتي فيطلع أولاً على الجحيم . وفي بداية سفره يواجه وحوشا ثلاثة : فهدة وأسد وذئبة ، وينجو منها برفقة فرجيل الذي يرمز إلى الحكمة الأرقية . ابن القارح يستمر في رحلته من غير أن يواجه المصاعب حتى وصوله إلى الخيتعور سيد الجن الذى ينشد أبياتا في الرجز ، ويواجه ذئبةً وأسداً عندما يزور الجحيم . وهذا – في رآى بلاسيوس – أكبر وجه يتلاقى فيه عمل المعري ودانتى [8] . وحينما يعود ابن القارح من الجنة يجد حورية تنتظره وتعاتبه بدلال على هذا التأخر في العودة . ونفس الدور تلعبه ماتيلدا في عمل دانتي . يجد دانتي عشيقته بياتريتشي مع الحور على شاطئ نهر ، ونفس الشئ نجده في عمل المعري الذي يشير إلى الفتاة بأنها عشيقة امرئ القيس [9] .
فاوست :
عمل غوطه على تأليف فاوست مدةً تربو على ستين عاماً أورد فيه فلسفته للهدم والبناء وأراد من خلاله تنبيه الغافلين إلى أهمية القصة لمعرفة القوى الشريرة . إن فاوست هاوى الكتب ( والساحر والمشعوذ ) يبيع روحه للشيطان لفترة معينة ابتغاء اختراق أسرار الكون واستشفافها . ولما تنتهي فترة العقد يسحب الشيطان روحه إلى الجحيم . وأثناء فترة العقد يجول الشيطان في مختلف بقاع الأرض ، ويدخل روما ليسخر من البابا ويخطف منه صحفة الطعام عندما تقدم له ، ويدخل القسطنطينية ليختفى وينفذ إلى حريم السلطان ، ويحل ضيفاً على الإمبراطور فيستحضر له سكندر المقدوني وزوحته من العالم الآخر ، ويلتقى بفلاح فيلتهم فرسه وأحمال التبن التي تجرها ، وينقلب الشيطان حماراً مجنحاً ويجوب فاوست العالم على ظهره . ويتخذ الشيطان هنا اسم ميفستوفيل ( معناه بالغة اليونانية عدوفاوست ) . فاوست مولع بالكتب ويعيش فوق البشر ويتعالى عليه . ويقول عندما يسحب روحه إلى الجحيم : خافوا ربكم ، ولا تخضعوا لوسوسات الشيطان ، وليحكم الله منه ” [10] .
يضم مسرح فاوست ( في جزئيه : الأول في خمس وعشرين لوحةً ، والثاني في خمسة فصول ) أفكاراً فلسفيةً وجماليةً مع ” فاتحة السماء ” التي ينتقل فيها الشاعر إلى الموضوع رأساً : أمامه الرب والملائكة وإبليس والعالم بأسره بكل تحولاته وقوانينه . وتتكلم الروح السلبية بلغة إبليس التي تنظر إلى الإنسان نظرة ازدراء ، لأنه تعس دوماً في محاولاته الحضارية لتحقيق السعادة . ومن أهم الآراء الفلسفية ما يشير إليه من تصوّر اللوغوس أو الكلمة : ” في البدء كانت الكلمة ، لأقف هنا ، فلا خير في المضى قبل أن أستوعب هذه الجملة ” ، ويشرحها في الأبيات التالية بالفكر والقوة والفعل . وإبليس جزء من تلك القوة [11] .
لم يعد متنازعاً أن غوطه كان واسع الثقافة في عصره ، وعرف العديد من الأعمال الإسلامية العربية والفارسية ، منها أعمال السعدي الشيرازي ، وعرف كتاب غانيى ” حياة محمد ” ( الصادر سنة 1732م ) ، وفكر بوضع مسرحية عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لم يوفق لانتهاء هذا العمل ، فلم يبق منه إلا نثرات نشرت بعد وفاته .
جاويد نامه :
منظومة شاعر الإسلام والشرق محمد إقبال ( 1873 – 1938م ) ” جاويد نامه ” أو ” رسالة الخلود ” التي كتبها بالفارسية عام 1932م من أجمل الأدب الإسرائي . كان جلال الدين الرومي هادياً ومرشداً لمحمد إقبال في توقعه للعروج والاتجاه إلى الله وحده بعد اجتياز الزمان والمكان من خلال أفلاك سبعة ليصل إلى جنة الفردوس . شكا إقبال ” تشتت العالم الإسلامي لضعف في نفوس المسلمين ، وبسبب مصايب الاستعمار والشيوعية ” ، ورأى أن العالم الإسلامي أصيب بحالة موت ولن ينقذه منها إلا عالم للقرآن الكريم . ووقع التجلي الإلهي في معراج إقبال بعد انتهاء الرحلة إلى مقام الشهود عن طريق العشق الإلهي .
هناك قواسم مشتركة بين ” رسالة الخلود ” لإقبال و ” رسالة الغفرانِ ” للمعري ، منها محاكمةُ الزنادقة ، فإذا كان المعري قد حاكم بشاراً وأمثاله فإن محمد إقبال حاكم ثلاثةً من الزنادقة حين وصل إلى فلك المشتري وهم المنصور الحلاج ، والشاعر الهندي أسد الله غالب وشاعرة المذهب البابي في إيران قُرّة العين الطاهرة التي أُعدمت سنة ( 1852م ) لاعتناقها هذا المذهب .
خاتمة :
لا يخفى على من له أدنى إلمام بالتاريخ العالمي في القرون الوسطى أن الثقافة الإسلامية أضاءت أرجاء المعمورة في مشارقها ومغاربها ، وتم التقاء الشرق بالغرب عن طريق الحضارة العربية في الأندلس ( 711 – 1492م ) ، وعن طريق العرب في صقلية وجنوب إيطاليا ، وعن طريق الحروب الصليبية ( القرن الحادى عشر حتى القرن الخامس عشر الميلادي ) التي أذكت حركةً تجاريةً وثقافيةً واسعةً بين الشرق والغرب وتبادلاً حضارياً وعلمياً وفكرياً . ولعبت مدارس الترجمة ( في طليطلة وبلرم وبولونة ) والمدارس اللاتينية لفلاسفة المسلمين ( مدرسة ابن سينا ومدرسة ابن رشد على الأخص ) دوراً كبيراً في نشر نظريات العرب عن الأدب والشعر والفلسفة والعلم التطبيقي في أوساط الوعي والتلقي الأوربيين . وتصدرت مسألة التأثير العربي والإسلامي على عمل دانتي أوساط البحث الأدبي العالمي بتأليف المستشرق الإسباني ميجويل آسين بلاثويس الذي وضع سنة 1919 كتابه عن ” النشور الإسلامي في الكوميديا الإلهية ” (Escatologiamusulmanaen la Divina Comedia) تكلم فيه عن أوجه الشبه بين سرديات الإسرآء والمعراج في أعمال أبي العلاء المعري والشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربي المرسي ، وأشار إلى أهمية الدور الذى مثله أستاذ دانتي برونيتي لاتيني المتنقل قشتالة وفلورنسة ، والذي ذكر قصة الإسراء في تأليفه . في عام 1949م نشر إنريكو تشيرولي المستشرق الإيطالي وسفير بلاده في طهران مؤلفاً بعنوان : ” كتاب المعراج ومسألة المصادر العربية الأسبانية للكوميديا الإلهية ” ، ونشر فيه الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة لإحدى صور المعراج الإسلامي . كان الفونسو العاشر – ملك قشتالة – أمر بترجمة قصة المعراج إلى اللغة القشتالية ، وقام به إبراهيم الحكيم الطبيب اليهودي قبل عام 1264م . ثم طلب الفونسو من بونافنتورا دا سيينا أن يترجمها إلى اللغة اللاتينية والفرنسية القديمة ( مخطوطاتها موجودة في آكسفورد وباريس والفاتيكان ) .
تتصدر سرديات دانتي وغوطه الإسرائية الشهيرة ( الكوميديا الإلهية وفاوست ) في سياق الاستلهام من الثقافة العربية والإسلامية . يكاد يتفق مؤرخو الآداب العالمية على أن دانتي أليجيري ( 1265 – 1321م ) أكبر شاعر في العصور الوسطى . بدأ حياته الشعرية مقلداً للتروبادور الذين انتقل شعرهم إلى إيطاليا من إسبانيا وفرنسا ، ومعروف ما تأثروا به من شعريات الموشحات والأزجال في الأندلس . واشتهر دانتي بعمله ” الكوميديا الإلهية ” الذي يتمثل ثمرة للتطور الفكري والسياسي والفني للمؤلف ، بل سجلا لثقافة العصور الوسطى بأسرها ، وصلة الوصل بينها وبين ثقافة عصور النهضة التي صاغت خوارزميات التطور الأدبي لإيطاليا وأوربا الغربية بكاملها . والكتاب في أجزائه الثلاثة ( الجحيم والبرزخ والفردوس ) عمل موسوعي يمثل الشاعر والفيلسوف والعالم والسياسي والكاتب الاجتماعي المجتمعين في شخصية دانتي والمحللين لأسرار اللاهوت والملكوت والجبروت والناسوت . وهو خلاصة تجربة شاملة وعميقة لخيط حياتي إبداعي طويل يضمن فيه ثقافة العصر وعلومه وقضايا الإنسان والفن والكلمة .
أما غوطه الألماني المستلهم بوجه خاص من سعدي الشيرازي فهو في طليعة ممثلي عصر التنوير الألماني ، وهو أحد مؤسسى الأدب الألماني الحديث ، وواحد من أكبر الشعراء في تاريخ التراث البشري . هو في عمله الأشهر ” فاوست ” يمثل فلسفة الحياة والعقل ( اللوغوس ) ، والإيمان بالإنسان ، وفلسفة الجمال ، والصراع بين الأرواح الإيجابية والسلبية ، أو الإنسانية والشيطنة . إيمان غوطة يتجلى في إيمان فاوست القائل بخلق الإنسان ليقوم بالأعمال العظيمة وأن يطمع إليها دون أن يبدِّد قواه عبثاً ، بينما يأتى الشيطان حاملاً فلسفة الرفض والهدم ، وأهمية غوطة تكمن في نظرته النافذة إلى حقيقة الأنشطة البشرية المترامية في الهدم والبناء والإيجاب والسلب . وألف غوطه كتاب ” نزوة العاشق ” (Die Laune des Verliebten ) على غرار حكايات ألف ليلة وليلة .
الصراع الدائر بين الإنسان وواقعه المطلوب في بناء الحضارات البشرية عبر التاريخ هو في جوهره عملية تطورية تأرجحت بين الصعود نحو الأحسن والأفضل والأنجع ، والانحدار نحو الانحطاط والتقهقر ، وتجلى هذا الصراع في جزء محترم من الآداب الفلسفية العالمية الذي يرصد هذا الصراع ويسعى لمعرفة طبيعته من خلال الأعمال الفلسفية التي خلفها أبو العلاء المعري ودانتي وغوطه وإقبال كوحدة بنوية كاملة ذات بعد شعري ولغوي وفلسفي ، متوزّعة في وحدات حركية حاول فيها أصحابها تأليف مرايا تعكس العالم الأكبر والعالم الأصغر في جو منسجم جميل .
الولوج في البحث عن سرديات الإسراء والمعراج في الآداب العالمية مرتبط أساساً بتحليل ظاهرة الاستلهام الفكري والشعري والأدبي ، أو ظاهرة قيام شاعر ، يكتب بلغة أخرى ، باستعارة فكرة ما أو موضوع ما أو حكاية ما عن شاعرٍ آخر يكتب بلغة أخرى ، سبق له أن عالج تلك الفكرة أو ذلك الموضوع أو تلك الحكاية في شعره . إنها ظاهرة قديمة قدم الإنتاج الفكري الإنساني . المعري استلهم فكرة رسالته عن معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما وردت في كتب السير . البسطامي والمعري وابن عربي ودانتي وغوطه وإقبال استلهموا من سرديات الإسراء في أعمالهم العظيمة . معروف أن مساءلات السياق والإحالة حظيت بأهمية كبيرة في جميع الأزمنة ، ولكنها تستعيد جدلها بقوة وحيوية بالغتين في زماننا المعولم الذي يبدي جدية في الخوض في الحوار بين الثقافات بمبادئ لا تخلو من النفسية القروسطية المريضة وبالتالي فهي محتاجة إلى التقويم .
* القسم العربي ، جامعة علي كره ، أوترابراديش ، 202002 ، الهند ، Email: sanaullahnadawi@gmail.com
[1]. يراجع في ذلك : نذير العظمة : المعراج والرمز الصوفي ( بيروت : دار الباحث ، 1982م ) .
[2] انظر إنريكو شيرولي :Il Libro della Scala: e la questionedellefontiarabo-spagnoledella Divina Commedia. Città del Vaticano.
[3] Muñoz Sendino, José (ed) La Escala de Mahoma. Traducción del árabe al castellano, latín y francés, ordenadapor Alfonso X el Sabio Autor: Alfonso X: El Sabio. MInisterio de AsuntosExteriores, 1949.
[4] انظر كتابنا : أثر الإسلام على كلاسيكيات أوربا – دانتي أنموذجاً ( على كره : منشورات سامية ، 2000م ) .
[5] الجحيم : 25 .
[6] البرزخ : 6 – 11 .
[7] الفردوس : 3/49 ، 9/32 .
[8] انظر بلاسيوس : ص 66 .
[9] بلاسيوس : ص 67 .
[10] فاوست جوته ، ترجمة محمد عوض محمد ( القاهرة : مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، 1946م ) .
[11] .غوطه ، المصدر السابق .