تأثير إشكاليات الترجمة على ترجمة النصوص الدينية
نوفمبر 5, 2022من أبعاد التواصل في الآداب العالمية :
يناير 9, 2023دراسات وأبحاث :
تجليات التناص القرآني في روايات يوسف السباعي
الباحث مـحمد مزمل حق *
المقدمة :
إن الخطاب القرآني يحظى بتوظيف مكثف في متون الرواية العربية المعاصرة ، لأنه يعكس الثقافة الإسلامية وحضارتها للأمة العربية ، ويصور المنظومة الفكرية ويقدم شريحةً من الأفكار الإسلامية والقضايا الدينية والصراعات الاجتماعية والتناقضات الداخلية التي تعاني منها المجتمعات البشرية عبر القرون . ومن هذا المنظور كانت روايات يوسف السباعي تهتم بالخطاب القرآني وتأخذ النصوص من القرآن الكريم وتتناول القضايا المختلفة والتحديات المتنوعة بدقة ووضوح .
نبذة وجيزة عن الأديب :
يوسف مـحمد عبد الوهاب السباعي روائي وقاصّ مصري شهير ، وُلد في حي الدرب الأحمر بالقاهرة سنة 1917م . وهو ينحدر من عائلة كبيرة وهي عائلة حسنية علوية شريفة يصل نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه . كان والده مـحمد السباعي ( 1298 – 1350هـ ) الأديب البارع وأستاذ الأساتذة مثل العقاد والمازني [1] . وكان أديباً وواحداً ممن شاركوا في النهضة الأدبية الحديثة بمصر ، وله أيضاً عدد من الـمؤلفات مثل ” السمر ” و ” الصور ” و ” ذات القلب الأبيض ” وغيرها [2] .
وقد ولع يوسف السباعي بوالده وتعلق به وتأثر به كثيراً ، وورث الأدب عنه . وافتتح حياته الناشئة بقراءة القصص والروايات التي ألّفها والده . حصل يوسف السباعي على الشهادة الابتدائية ، ودخل الـمدرسة الـخديوية الثانوية والتحق بالكلية الـحربية في نوفمبر عام 1935م وتـخرج منها عام 1937م . وعُين أستاذاً ثم مديراً في الـمدرسة العسكرية الثانوية عام 1950م . وكان عضواً في جمعية الكتاب الـمصريين واتـحاد الكتاب العرب في سورية . واشترك في تأسيس ” نادي القصة ” عام 1953م الذي تقدم بـمشروعه إلى الرئيس ” جمال عبد الناصر ” بإيعاز من الأديب ” إحسان عبد القدوس ” [3] . عدد مؤلفاته كثيرة في القصة القصيرة والمسرحية والمقالات العلمية بجانب ست عشر ة رواية . وقد توفي هذا الأديب بالاغتيال 18 فبراير عام 1978م على يد رجلين من المتطرفين الفلسطينيين [4] .
خلفية التناص :
تكوّن مفهوم التناص سنة 1966م على يد الباحثة جوليا كريستيفا التي تقول في إحدى مقالاتها في مجلة ( تيل كل Tel Quel ) : أن التناص هو التقاطع داخل نص لتعبير ( قول ) مأخوذ من نصوص أخرى أو لوحة فسيفسائية من الاقتباسات ” [5] . وفي عام 1968م كتب رولان بارت مقالته ” موت المؤلف ” مستخدماً فكرة التناص بوصفها منتجة للنص وصرّح بموت المؤلف وأعلن أن الكتابة وحدها هي التي تنتج الكتابة . وتوصل إلى ” أن كل نص هو نسيج من الاقتباسات والمرجعيات . . ثم دخل هذا المصطلح في عام 1979م العالم العربي ، حيث تداوله الأدباء والنقاد في كتاباتهم ، وبخاصة في المغرب والجزائر ، وتم توظيفه كآلية من آليات النقد في معالجة النصوص الأدبية ، يقول الدكتور إبراهيم رمضان : ” وأول من نقل المصطلح إلى اللغة العربية الشاعر الناقد محمد بنيس في كتابه ” ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب : دراسة بنيوية تكوينية ” عام 1979م [6] . ثم جاء عهد البحث عن تأصيله في المخزون الثقافي العربي ، فوجدوا أن السرقات الأدبية ، والتضمين ، والتلميح ، والاستدعاء ، والاقتباس ، وتوارد الخاطر ، والانتحال وغير ذلك ، من مظاهر التأثر والتأثير بين الأدباء والشعراء عن قصد أو دون قصد ، وهذه المصطلحات من الإرهاصات الأولية للتناص في كتب البلاغة العربية ، ثم توسعوا في استخدام المصطلح ، فجعلوا يضعونه في كل موضع ، يوجد فيه نوع من التأثير الداخلي أو الخارجي من الكتابات العربية ، فقسموه إلى أقسام ، من أبرزها : (1) التناص القرآني ، (2) التناص الحديثي ، (3) التناص الأدبي ، (4) التناص التاريخي ، (5) التناص التراثي [7] .
مفهوم التناص :
نرى مفهوم التناص عند اللغويين وأصحاب القواميس منهم صاحب لسان العرب ابن منظور ، هو الذي قال فيه : النص رفعك الشيئ ، نص الحديث ينصه نصاً أي رفعه وكل ما أظهر ، فقد نص ، ووضع على المنصة أي على الغاية الفضيحة والشهرة والظهور ، وقال الأزهري النص أصله منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها ، ومنه قيل نصصت الرجل إذا استقصيت مسألته عن الشيئ ، حتى تستخرج كل ما عنده ، وفي حديث هرقل ، ينصهم أي يستخرج رأيهم ويظهره ؛ ومنه قول الفقهاء : نص القرآن ونص السنة أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام وانتص الشيئ وانتصب إذا استوى واستقام ” [8] والتناص من نص نصاً ، الشيئ أي رفعه وأظهره ، ونقول نص الحديث : أي رفعه إلى صاحبه ، وقد وردت بمعنى الازدحام ، إذ أوردها صاحب تاج العروس ، فقال تناص القوم ازدحموا ” [9] .
والتناص في الاصطلاح عند أهل العلم والمعرفة به ، يقول أحمد الزعبي : ” إن التناص تضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين ، أو التلميح أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب ، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي تندغم فيه لتشكل نص جديد واحد متكامل ” [10] .
وقد تنوعت طريقة تعامل الكاتب مع النصوص المتداخلة ، فقد يأتي النص بشكل حرفي بين قوسي تنصيص ، أو يرد معنى النص ويمكن الاستدلال عليه من لفظة معينة تمييزه ، وقد يتفق معنى النص المتداخل مع المعنى الذي أراده الكاتب ، أو قد يطوعه الكاتب حتى يتسق مع المعنى المراد ، ذلك أن التناص هو تعالق ( الدخول في علاقة ) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة ” [11] .
وتتناول هذه الورقة البحثية دراسة التناص القرآني في الروايات الاجتماعية للأديب يوسف السباعي ، وهي في رواية رد قلبي 1954م ، وطريق العودة 1956م ، ونادية 1960م ، وأرض النفاق 1949م . وقد كثر التناص في رواياته الاجتماعية مؤدياً دوراً كبيراً في إثراء البناء السردي وفي تعميق المعنى الاجتماعي للعديد من المواضع داخل الروايات .
التناص القرآني :
التناص القرآني من أقسام التناص الديني يراد منه تداخل نصوص منتقاة من مراجع دينية عن طريق الاقتباس والتضمين من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف أو غيرهما من الكتب السماوية مع نص المبدع من الكاتب والشاعر ، في الشعر أو النثر بحيث تنسجم هذه النصوص مع سياق نص الكاتب [12] . وقد زعم بعض النقاد ويقول : إنه مجرد تناص مع النص الديني هو زعم خاطئ بل إنه خرق واقتباس للنص الديني . فالناقد الدكتور محمد رياض وتار ينظر إلى هذا النص باعتباره نص روائي عربي خالص السمات يتناص مع الآيات القرآنية فيقول : ” إن هدف الروائي فرج الحوار من وراء توظيف النص القرآني إلى التأسيس لرواية عربية خالصة ، معنىً ومبنىً ، لذا سعى إلى توظيف اللغة القرآنية ، مفردات وتراكيب وخصائص فنية وجمالية ، وظهر اعتماد الكاتب جليًا على إيقاع التراكيب القرآنية ، فجاءت لغة السرد سلسةً ذات إيقاع موسيقي ، خلقته الجمل المتوازنة من جهة ، واعتماد الفاصلة القرآنية من جهة أخرى ” [13] .
وقد أخذ التناص في روايات يوسف السباعي مجالاً واسعاً لا تكاد تخلو رواياته إلا وإنها اهتمت بالنصوص التاريخية التي عمد إلى التناص معها لإظهار المعنى السياسي لرواياته ، وكذلك النصوص القرآنية والتناص معها والاقتسابات من الأحاديث النبوية وتناصها في الرواية . ونناقش في هذا البحث عن التناص القرآني الذي اتخذه الكاتب لتزيين الرواية وتعميقها في المعنى من أفكاره الدينية .
التناص القرآني في روايات يوسف السباعي :
وقد ظهرت نماذج التناص القرآني في رواية ” رد قلبي ” في أماكن مختلفة فمنها : لن يسمح لنفسه ” علي ” ( بطل رواية رد قلبي ) بالهيمان والضلالة ، والطريق أمامه بسيط مستقيم واضح . ألا تكفي كل هذه الأغراض التي يسعى من أجلها ، لكي تدفعه في طريقه حتى يعاود البحث عن غرض سرابي موهوم ، قامت دونه السدود المنيعة والحوائل الشائكة ! من أجل أبيه الكادح وأمه الكادحة ، ونفسه الذليلة الطموحة من أجل هؤلاء يسير لا من أجل موؤودة في قلبه . الموؤودة !! الموؤودة ! ولكن أحقا ، قد وأدها ؟ وبأي ذنب ؟! وإذا الموؤودة سئلت . . . بأي ذنب وئدت ؟ أجل ! بأي ذنب وئدت . . بذنب القدر الذي وضعها في القمة ووضعه في الخضيض ، بذنب الفوارق الهائلة والمساوات الشاسعة التي تفصل بينهما بذنب رفعتها وحطته ، وكبريائها ومذلته ، بذنب معرفتها لكل ذلك [14] .
أحس ” علي ” بضرورة قطع تفكيره المتواصل بـ ” إنجي ” ( بطلة الرواية ) لعله صعوبة تحقق حلمه بالوصول إليها فهي إبنة أمير من عائلة أرستقراطية سليل عائلة ملكية ، بينما والده يضطر إلى إراقة ماء وجهه لأجل لقمة العيش ، ولذلك فعليه أن يئدها في قلبه لأجل هذه الهوة الاجتماعية الشاسعة بين طبقته وطبقتها ، وليكمل حياته التي شقي والده من أجلها ، فكان التناص مع هاتين الآيتين ” وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ . بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ [15] ، ليصف حالة مشابهة لما يمر به ، فإذا كانت الفتاة تدفن حية في الجاهلية لكونها أنثى دون أن تقترف أي ذنب ، فإن علي سيئد ” إنجي ” في قلبه دون أن تقترف ذنباً سوى أنها من طبقة اجتماعية تقع في قمة الهرم الاجتماعي .
وقد ورد التناص القرآني الآخر في رواية ” رد قلبي ” وذلك أثناء حديث الكاتب عن علاقة القصر وحزب الوفد بعدما فقد كلاهما ثقة الشعب ودعمه : ” وهكذا وجدت كل من القوتين ( القصر والوفد ) الحاكمتين الناهبتين السالبتين نفسها وحيدة مزعزعة معلقة في الهواء ، وأخذت كل منهما تبحث عن سند ، بعد أن تبين لهما أن استناد كل منهما إلى الأخرى قد أودى بكليهما إلى أسفل سافلين ” [16] بعد أن ساءت علاقة كل من القصر الملكي وحزب الوفد مع الشعب ، أضحى اعتماد كل منهما على الأخرى لا يجلب لهما سوى مزيداً من الغضب الجماهيري ، ويقودهما إلى أسوء مصير ، وهو ما دفع الكاتب إلى النص مع قوله عز وجل : ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) [17] . للدلالة على مدى سوء الوضع المترتب على اجتماع القصر مع حزب الوفد .
والنموذج الآخر للتناص القرآني من الرواية ” در قلبي ” هو النص الذي تم أثناء وصف الكاتب لمشهد تنازل الملك فاروق عن عشر مصر : ” ووضع الملك فاروق القلم على أسفل الوثيقة ، وبدت يده تجف وتهتز وأوثق قبضته على القلم حتى لا تخونه أعصابه . كان قلمه هذه المرة يعبث بمصيره هو . . لا بمصاير الغير . . كان يعرف أنه بهذه الدوائر المتتالية التي يخطها . .في أسفل الوثيقة . . قد طأطأ هامته ، ونفض جناحه ، وكسر شوكته ، وأذل عزه ، وأوضاع سلطانه . . وأنه قد أضحى كغيره من عباد الله . . لا يمشي في الأرض مرحاً ولا يخرق الأرض ولا يبلغ الجبال طولاً [18] .
يحدد النص لحظة فارقة في حياة الملك فاروق ، وهي لحظة توقيعه على وثيقة تنازله عن حكم مصر ، تلك اللحظة التي وضحت أنه لم يعد يمتلك السلطة والحكم ليأمر بما شاء ويطاع دون نقاش ، فقد نزل من سماءه العالية إلى أرض البشر ، وهو ما جعل الكاتب يتناص مع قوله تعالى : ( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) [19] فقد أضحى كغيره من أفراد الشعب .
ومن المواضع التي تناص فيها الكاتب مع القرآن الكريم نجد رواية ” نادية ” فقد تناص الكاتب مع إحدى السور القرآنية في حوار دار بين أكثر من شخصية : ” ونظرت ( منى ) إلى نادية وسألتها ضاحكة : ما رأيك أنت يا نادية . . ماذا قال صبري عنه ؟ وضحكت نادية وأجابت : التعايش السلمي هو ما أفعله أنا . . وأنت . . نرقد في فراش ونجلس متجاورتين على المائدة ، وفي الفصل ، وفي كل مكان نحل به . . ولكل منا مذهبها في الحياة . . لا تفعل إحدانا ماتفعله الأخرى . . ولا تحب ما تحبه . . ولكن بلا عراك . . ولا قتال ولا جدال . وعلق الأب وهو يهز رأسه : ولا أنا عابد ما عبدتم . . ولا أنتم عابدون ما أعبد . . لكم دينكم ولي دين ” [20] .
في حوار دار بين الشخصيات الرواية حول مفهوم التعايش السلمي ، نجد نادية تبسط المفهوم لأختها ، بأن كونهما أختين يتشاركان الحياة لا يعني وجوب اتفاقهما في كل شيئ ولكن كلا منهما تحترم اختلاف الأخرى عنها دون اعتراض ، وهو ما أكد الأب حينما استعان بقوله تعالى : ( وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) [21] فبرغم اختلاف المذاهب فإن الجهتين تتعايشان في سلام .
وقد ظهر هذا التناص الديني مع القرآن الكريم في رواية ” طريق العودة ” عن طريق شخصية ” مراد ” ( بطل الرواية ) وحديثه الداخلي أثناء ذهابه لأرض المعركة ، معركة مع اليهود لإنقاذ اللاجئين الفلسطينيين من اضطهاد القوات الصهاينة وشدائدهم فيقول : ” على أي حال ، ليس المهم أوامر عمليات ولا تقرير الموقف ولا غير هذا مما تعلم ، المهم أن يأخذ دباباته ويتقدم في سرعة ويدق اليهود في عنف أينما وجدهم . أجل سيمزقهم إربا . وتملكته حمية القتال واستحث السائق ليسرع إلى موقع الكتيبة . ثم عاد يفكر مرةً أخرى . إن لديه قاذفات اللهب وسيستعملها لأول مرة ويصلى بها اليهود ناراً حاميةً ” [22] . تناص ” مراد ” مع قوله تعالى ( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ) [23] ليؤكد رغبته في قتال العدو ليوقع بهم هزيمة نكراء باستخدام اللهب التي ستذوق اليهود ناراً حاميةً ملتهبةً .
وفي رواية ” أرض النفاق ” تناص الكاتب مع الآية الكريمة من القرآن الكريم ، حيث يقدم في هذه الرواية خطبة إمام الجامع في مصر الذي تولى القضايا الدينية وأخذ زمام الشعب المصري ، يحثهم على ترك المنكرات وبدأ يخطب :
” الحمدلله والصلاة والسلام على رسوله مصطفاه . . وأشهد أن لا إله إلا الله ” رفع السماوات بغير عمد ترونها ” ، ” وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله [24] . وقد تناص السارد بقوله تعالى : ( وَأَلْقَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَٰرًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [25] . وأشار الكاتب بذكر الآية الكريمة إلى خلق الله عز وجل وحكمته البالغة وراء خلقه ، ومن رحمته تعالى أن جعل فيها أنهاراً ، يسوقها من أرض بعيدة إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم وسقي مواشيهم وحروثهم . ومن رحمته أن جعل في الأرض سبلاً ، أي : طرقاً توصل إلى الديار المتنائية ( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [26] .
وورد نموذج آخر للتناص القرآني في هذه الرواية : أما بعد . . فيا أيها المسلمون : يقول الله تعالى في كتابه العزيز : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) [27] . وقد اقتبس الكاتب من قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [28] .
ثم ورد في الرواية نموذج التناص أثناء الخطاب : ” أيها المسلمون : ها هو شهر رمضان يطالعكم . . واعلموا أن الصوم ليس امتناعاً عن شهوتي الفم والفرج من الفجر الصادق إلى غروب الشمس فحسب ، وإنما هو صوم السمع والبصر واليد والرجل وسائر الشر والآثام . . وقد يرتقي الصوم بالعبد إلى رتبة أن يصوم بقلبه عن الدنيا ، ويسمو بفكره عن مادياتها حتى تصبح حياته تفسيراً عملياً ، لقوله تعالى : ( قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) [29] . فتناص السارد من قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) [30] .
وظهر التناص القرآني في عبارة أخرى في الرواية : ” فيخرج المرأ من شهر الصوم وقد ازدهرت في نفسه خصال تضيئ له حلكة وتعبد له سبلها بما يجعله أهلاً لاستخلاف الله له في أرضه ، ويظهر فيه سر قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم [31] . وقد تناص الكاتب من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) [32] .
وقد ورد النص القرآني في هذه الرواية من أفكار السباعي الإسلامية : ” ولقد كان رسول الله صلى لله عليه وسلم أجود ما يكون في شهر رمضان ، فإذا استطاع الإنسان بالصوم أن يجتث جذور الشح من نفسه لقول الله تعالى ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون سعد وسعدت به أمته ” [33] . تناص الأديب من الآية القرآنية حيث قال الله عز وجل : ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) . فمعنى الآية ظاهر وهو أن الله حكم بالفلاح على من وقاه الله تعالى شح نفسه أي طمعها فيما ليس لها أو طمعها بحيث تمنع ما يجب عليها ، لأن الشح مداره على أمرين إما طمع فيما ليس لك أو فيما ليس من حقك وإما منع لما يجب عليك بذله . فمن وقاه الله شح نفسه بحيث لا يطمع فيما لا يستحق ولا يمنع ما يجب عليه فإن هذا من أسباب الفلاح . والفلاح كلمة جامعة لحصول المطلوب وزوال المكروه [34] .
وفي رواية ” أرض النفاق ” اقتباسات كثيرة من القرآن الكريم . فيقول الكاتب : وأخذت أبعثر الشجاعة التي أصابتني بعد طول جبن ، ذات اليمين وذات اليسار ” [35] تناص مع قول تعالى : ” وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلْوَصِيدِ ” [36] . وقوله : ” إن اليهود الذين فرقهم الله في الأرض شيعاً قد فرقكم شيعاً . إن اليهود الضالين قد أضلوكم . إن اليهود الجبناء قد جعلوا منكم جبناء ” [37] . تناص مع قوله تعالى : ( إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ ) [38] . والتناصات في هذه الرواية كثيرة لا يتسع البحث لذكرها .
لقد تناص السباعي بهذه الآيات الكريمة في رواياته ودعا الأمة العربية إلى مكارم الأخلاق ، وإلى بناء المجتمع المثالي الذي يكون فيه كل إنسان على أحسن خلق مدى الحياة ، لن توجد فيهم شائبة النفاق والغش والخداع والرياء والجبن واللؤم والدناء والسفالة حتى يكفي أن يجعل الأرض أرضاً نموذجيةً ، توجد فيها روح الأخلاق . كما اهتم الأديب بذكر الحديث النبوي والتاريخ الإسلامي وأقوال العلماء والفقهاء في رواياته ، مما يدل على فهمه للقرآن الكريم وحنكته على الأحاديث النبوية والشرائع الإسلامية ، والمعلوم أن الأديب حفظ القرآن حينما كان في نعومة أظفاره . فهدف التناص القرآني لكشف المفاهيم الدينية في نص الروايات واتخاذ العبر وترقية الأسلوب الكتابي وتحكيمه بأسلوب القرآن الكريم .
* باحث الدكتوراه ، الجامعة العالية ، كولكاتا ، الهند . mozammel.amu@gmail.com
[1] الشاروني ، يوسف : الروائييون الثلاثة مركز الحضارة العربية بالقاهرة ، 2003م ، ص 70 .
[2] وحيد ، علاء الدين : يوسف السباعي بين الأيام والليالي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1987م ، ص 16 .
[3] مفيد ، حنان : يوسف السباعي سبعة وجوه ، دار الشروق بالقاهرة ، مصر 2005م ، ص 25 .
[4] الدكتور فؤاد صالح السيد : موسوعة أعلام القرن العشرين في العالمين العربي والإسلامي ، ص 501 .
[5] دكتور إبراهيم نمر موسى : صوت التراث والهوية ” دراسة في التناص الشعبي في شعر توفيق زياد : مجلة دمشق 2008م ، ص 102 .
[6] مجلة الحجاز العالمية المحكمة للدراسات الإسلامية والعربية ، العدد الخامس – محرم 1435هـ/ نوفمبر 2013م ، ص 158 .
[7] الأستاذ محمد أعظم الندوي : التناص القرآني وتجلّياته في كتاب ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ” للإمام أبي الحسن الندوي ، البعث الإسلامي ، يوليو 13 ، 2021م .
[8] ابن منظور : لسان العرب ، دار صادر ، بيروت – لبنان ، ط 1 ، 1990م ، ج 7 ، ص 97 – 98 .
[9] محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني ، الملقب بمرتضى الزبيدي : تاج العروس من جواهر القاموس ، دار الهداية ، ج 12 ، ص 182 .
[10] أحمد الزعبي : التناص مقدمة نظرية ، المؤتمر الأول للحركة الأدبية في الأردن ، جامعة مُوت ، 1993م ، ص 4 .
[11] د . محمد مفتاح : تحليل الخطاب الشعري ، ( استراتيجية التناص ) المركز الثقافي العربي ، 1992م ، ط 3 ، ص 121 .
[12] انظر : التناص نظرياً وتطبيقاً ، ص 11 .
[13] انظر توظيف التراث في الرواية العربية ، ص 146 ، التناص الديني في الرواية العربية . . بقلم د . علا السعيد حسان .
[14] السباع ، ي يوسف : رد قلبي ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ج 1 ، ص 49 .
[15] سورة التكوير ، الآية : 8 – 9 .
[16] السباعي ، يوسف : رد قلبي ، المصدر السابق ، ج 2 ، ص 620 .
[17] سورة التين : الآية 5 .
[18] السباعي ، يوسف : رد قلبي ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، مصر ، 1954م ، ج 2 ، ص 700 .
[19] سورة الإسراء : الآية 37 .
[20] السباعي ، يوسف : نادية ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، مصر ،1960م ، ج 1 ، ص 60 .
[21] سورة الكافرون : الآية 4 – 6 .
[22] يوسف السباعي : طريق العودة ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، مصر ، 1956م ، ص 124 .
[23] سورة الغاشية : الآية 4 .
[24] السباعي ، يوسف : أرض النفاق ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، مصر ، 1949م ، ص 217 .
[25] سورة النحل : الآية 15 .
[26] تفسير السعدي ، سورة النحل ، الآية 15 – 16 .
[27] السباعي يوسف : رواية أرض النفاق ، المصدر السابق 218 .
[28] سورة البقرة : الآية 183 .
[29] السباعي ، يوسف : أرض النفاق ، المصدر السابق ، ص 218 .
[30] سورة الأنعام : الآية 91 .
[31] السباعي ، يوسف : أرض النفاق ، المصدر السابق ، ص 219 .
[32] سورة الإسراء : الآية 70 .
[33] السباعي ، يوسف : أرض النفاق ، المصدر السابق ، ص 219 .
[34] تفسير القرآن الكريم ، فتاوى نور على الدرب ، الجزء 5 ، ص 2 .
[35] السباعي ، يوسف : أرض النفاق ، المصدر السابق ، ص 44 .
[36] سورة الكهف ، الآية 18 .
[37] يوسف السباعي : أرض النفاق ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، مصر 1949م ، ص 48 .
[38] سورة الأنعام : الآية 159 .