العلاقة الفكرية بين الدكتور محمد يوسف موسى والسيد أبي الحسن الندوي
يوليو 11, 2022مسؤولية الوالدين في العصر الراهن في ضوء الكتاب والسيرة النبوية
أغسطس 28, 2022الدعوة الإسلامية :
الأسلوب الفني في أمثال القرآن الكريم
الدكتور عبد الصمد الندوى *
المقدمة :
مما لا ريب فيه أن الكلام القرآنيّ يزخر بتشبيهات رائعة ، وتمثيلات بديعة ، و أمثال جميلة ؛ فإنها لتقود النفس الإنسانية وتسوقها إلى معرفة الذات الإلهية ، والإذعان بتوحيد الربوبية ، والاقتناع بسموّ الدعوة النبوية والرضا بها ، كما أن التمثيل يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان بتشبيه المعقول بالمحسوس وقياس النظير على النظير ، فكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعةً وجمالاً ، فكان ذلك أدعى لقبول النفس له ، واقتناع العقل به ، وهو من أساليب القرآن الكريم البديعة في ضروب بيانه ونواحي إعجازه ، فإن أمثال القرآن لها بلاغة خاصة وفصاحة فائقة لا يدركها إلا العارف بأسرار اللغة العربية ، كما قال القرآن الكريم عنها : ( وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ ) [1] .
تحقيق معنى المثل :
قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي ” المَثَل ” و” المِثْل ” في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرةً ، إلا أنّ الثاني يزيد على الأول بواحد . والأمثال جمع لكليهما ، ويميّزان بالقرائن قال سبحانه : ( إن الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبادٌ أَمثالكُمْ ) [2] ، وهو في هذا المقام جمع المِثْل لشهادة أنّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والإمكان ، وقال سبحانه : ( تِلْكَ الأمثال نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون ) [3] .
فكثيراً ما يقارن لفظ المثل بلفظ الضرب ، يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ) [4] ، وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنا للنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون ) [5] .
وقد اتّفقت أئمة اللغة على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيئ على شيئ ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه : ( أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ الحَجَر ) [6] .
إنّ الضرب إذا قرن بالمثل فمعناه التمثيل ، وهو ما رجّحه ابن منظور ، واستشهد بقوله تعالى : ( وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ ) [7] أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال : ( يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ ) أي يمثل الله الحقّ والباطل ، حيث ضرب مثلاً للحقّ والباطل والكافر والمؤمن في هذه الآية . ومعنى قوله عزّ وجلّ : وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً ، أي اذكر لهم ومثّل لهم . يقال : عندي من هذا الضّرب شيئ كثير أي من هذا المثال . وهذه الأشياء على ضرب واحد أي على مثال . قال ابن عرفة : ضرب الأمثال اعتبار الشّيئ بغيره . وقوله تعالى : وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ ، قال أبو إسحاق : معناه اذكر لهم مثلاً . . ” [8] .
أروع مثل وأحسن تشبيه :
إنّ النبي صلى الله عليه وسلم – في عهد مكة – كان يجادل المشركين ، ويسفّه أحلامهم ، ويدعوهم إلى الإيمان بالله وحده ، وترك عبادة غيره ، والإيمان باليوم الآخر ، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل وأحسن تشبيه ، يشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح ، فيقول الله سبحانه وتعالى : ( مَثَلُ الذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ البُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون ) [9] .
فمما يجدر بنا – هنا – النظر من خلال هذا المثل القرآني إلى الأسلوب البديع المؤثر الذي اختاره سبحانه وتعالى لبيان حقيقة ما يُعبد من دونه ، مهما كان هذا المعبود إنساً أو جنًّا ، شجراً أو حجراً ، صنماً أو وثناً ، فأيّ نوعٍ كان ، فقد شبّه آلهتهم الباطلة التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت ، وبذلك صغّرهم وذلّلهم ؛ كما أنّه سبحانه شبّه آلهتهم في آية أخرى بالذباب ، وقال : ( يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستمِعُوا له إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ، ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ؛ ضَعُفَ الطّالبُ وَالمَطْلُوب ) [10] .
يتبين من هذا المثل القرآنيّ المعجز الذي يهدف إلى إيصال الأفكار المجردة بصورة حسية مرئية ، يكون لها من الأثر في النفوس ، والتأثير في العقول ما لا يكون للفكرة المجرّدة من ذلك ، أنه نداء عام ، ونفير بعيد الصدى والمدى ، يتوجه به سبحانه إلى الناس جميعاً يقرّر حقيقةً مهمةً في هذا الوجود ، لا يستقيم أمره إلا بالإذعان والاستسلام لها ، ولا تكون سعادته إلا بالأخذ بمستلزماتها ، وهي أنه لا معبود ينبغي أن يفرد بالعبادة إلا هو سبحانه فقط . أما ما سواه من الآلهة المزعومة المدعاة ، فهي ليست أكثر من آلهة مزيفة ، لا تملك من أمرها شيئاً ، فضلاً عن أن تملك لغيرها نفعاً أو ضراً .
ثم إن هذا المثل يقرر حقيقةً أخرى أيضاً وهي : أن هذه الآلهة المزيفة ، هي أحقر من أن تقدر على أقل ما خلقه الله ، ولو اجتمعوا لذلك وتعاون بعضهم بعضاً وتعاضدوا ، وتساندوا . وليس أدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم : أن هذا الخلق الأقل الأذل ( الذباب ) ، لو اختطف منهم شيئاً ، فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه ، لم يقدروا على شيئ من ذلك ، مهما توسلوا من الأسباب والذرائع ، ومهما ملكوا من الوسائل والآلات .
شُبِّه عجز الآلهة المعبودة من غير الله بهيئة ناس تعذر عليهم خلق أضعف المخلوقات ، وهو الذباب ، وإذا عجزت هذه الآلهة المزيفة عن إيجاد أضعف الخلق ، وعن دفع أضعف المخلوقات عنها ، فكيف تُوسم وتوصف بالإلهية ؟ وكيف يُتوجه إليها بالعبودية الخالصة ؟ وهي – في الحقيقة – لا تملك من أمرها شيئاً ، فضلاً عن أن تملك لغيرها نفعاً أو ضراً .
وهذا المثل يعلن على الملأ مدوياً ومجلجلاً ضعفَ الآلهة المدعاة ، التي يتخذها الناس من دون الله أوثاناً ابتغاء مرضاتها ، ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون المعتدون ، ويركن إليها أولئك الطاغون المتمردون .
فصاحة هذا المثل القرآنيّ الفنيّ وبلاغته :
ومن بلاغة هذا المثل القرآني ، أنه شبه ضعف هذه الآلهة وهوان أمرها بالذباب ، وهو من أضعف المخلوقات بِنية ، ومن أحقرها شأناً ، ومع ذلك فإن خلق الذباب أمرٌ مستحيلٌ ، كخلق الجمل والفيل ؛ لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز ( يَعنى به ) سر الحياة ، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل . ولكن الأسلوب القرآني البديع يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه – كما يقول سيد قطب رحمه الله – يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل ! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير [11] .
ثم إن الآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيئ من الذباب حين يسلبها إياه ، سواء كانت أصناماً أو أوثاناً أو أشخاصاً ! وقد اختير الذباب بالذات ، وهو ضعيف حقير ، وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ، ويسلب أغلى النفائس : يسلب العيون ، والجوارح ، وقد يسلب الحياة والأرواح ، لما يحمله من جراثيم قاتلة . هذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني الرائع . ولو قال : وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها ، لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف ، والسباع لا تسلب شيئاً أعظم مما يسلبه الذباب ! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب .
ويختتم المثل القرآني ما قرره من حقائق بتقرير خاتمة الحقائق ، وهي أن ما سوى الخالق سبحانه ضعيف حقير ، لا يملك لنفسه – فضلاً عن غيره – نفعاً ولا ضراً ، لا خلقاً ، ولا حياةً ، ولا بعثاً ولا نشوراً ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) .
والمقصد الأساسيّ الذي يريد أن يثبته هذا المثل القرآني البلاغي ، هو بطلان الشرك بالله ، وتجهيل أهله ، وتقبيح عقولهم ، والشهادة على أن الأمر كله – بداية ونهاية – لله وإليه وحده ، وأن جميع المخلوقين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ، وبالتالي فلا ينبغي للعاقل أن يعتمد على أحد سوى الله وحده ، فهو المقدِّم والمؤخر ، والمبدئ والمعيد ، والمحيي والمميت ( أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ) [12] . فقد كانت قريش تعبد ( ٣٦٠ ) ثلاث مأة وستين إلهاً يطلونها بالزعفران فيجفّ ، فيأتي الذباب فيختلسه فلا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم ، ففي هذا الصدد قال سبحانه : ضعف الطالب والمطلوب ( أي الذباب والمدعوّ ) .
فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة . ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الإسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً ، ولا يزال المثل القرآني يتحدّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء ، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم ، أن ينسخوا ذلك بأن يجتمعوا فيخلقوا ذباباً ، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات ، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته ، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت [13] .
قال ابن القيِّم رحمه الله : ” وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشِّرك ، وتجهيل أهله ، وتقبيح عقولهم ، والشهادة على أنَّ الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة ” [14] .
هذا في مجال الردِّ على عبادتهم للأوثان والأصنام ، أمّا في مجال ركونهم وميلهم إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة ، يستعرض مثلاً يوحي فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل ومتاع قليل فانٍ ، قال سبحانه : ( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرض مِمّا يَأكُلُ النّاسُ وَالأنْعامُ حَتّى إذا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَها ، وَازّيّنَتْ ، وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عليها أَتاها أَمْرُنا لَيلاً أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ، كَذلِكَ نُفَصّلُ الآيات لِقَومٍ يَتَفكَّرُون ) [15] .
سبحان الله ! ما أحسن هذا التمثيل ! وما أروع هذا التشبيه ! إن هذا إلا تنزيل من حكيم حميد .
نظرة عابرة إلى الأمثال المدنية الفنية :
وأمّا الأمثال التي نزلت في المدينة المنورة ، فقد يتجلى فيها الطابع المدني لأجل أنّها بصدد علاج الأدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الأدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية ، أو مكان إنكار الحياة الأخروية ، فلذلك ارتكز الوحي على معالجة هذا النوع من الأمراض بالتمثيلات البارزة والتشبيهات البليغة . فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ابتلي بالمنافقين الذين كانوا يسرّون الكفر ، ويعلنون الإسلام لنيل الغرض الدنيوي من الحكومة الإسلامية الحديثة ، وفي هذا الصدد نرى أنّ الأمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة من القرآن الحكيم إلى المنافقين ، وبيّنت خطورة موقفهم وعقيدتهم ضدّ الإسلام والمسلمين ، فتارةً يضرب الله سبحانه لهم مثلاً بالنار وأخرى بالمطر ، يقول سبحانه : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي استوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبْصِرُون . صُمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون . أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحيطٌ بِالكافِرين ) [16] .
كان يسكن في المدينة المنورة ثلاث طوائف من اليهود ، وهم : بنو قينُقاع ، وبنو النضير ، وبنو قُريظة ؛ وقد جبلوا على المكر والغدر ، وكانوا يقرأون سمات النبي صلىالله عليه وسلم في كتابهم ” التوراة ” ، ويمرّون عليها كالأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة ، وهذه السمة البارزة أدت إلى أن يشبّههم عزّ وجلّ بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمةً دون أن يستفيد منها شيئاً ، يقول سبحانه : ( مَثَلُ الذِينَ حُمّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الظالمين ) [17] .
وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا بأمسّ حاجة إلى هداية إلهية ، وتربية ربّانية تزكي أنفسهم ، وتصلح أخلاقهم ، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رياءً دون ابتغاء مرضاة الله ، أو ينفقونها بالمنّ والأذى ، فنزل الوحي الإلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل الله ، والمنفق بالمنِّ والأذى أو رئاء الناس ، قال سبحانه : ( مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوإلهمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عليم ) [18] .
وقال سبحانه : ( يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا لاتُبْطِلُوا صَدقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالأذى كَالذي يُنْفِقُ ماله رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤمِنُ باللهِ وَاليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عليه تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَركَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ على شَيءٍ مِمّا كَسَبوا وَاللهُ لا يَهْدِي القومَ الكافِرِين ) [19] .
هذا إلمام خاطفٌ لملامح الأمثال القرآنية والتشبيهات الإلهية التي نزلت قبل الهجرة وبعدها ، وسيوفّر البحث تلك الأمثال الرائعة الجميلة عند تفسير بعض من الآيات عن هذا الصدد .
الخاتمة في فوائد الأمثال القرآنية الرائعة :
وقد ظهر من خلال دراسة الأمثال الفنية للقرآن الكريم فوائد عظيمة وثمرات بديعة يجنيها متدبرها والممعن في دلالاتها المعنوية حيث تأتي الأمثال مراعيةً لاتجاهات عديدة حسب الاتجاه الذي سيقت لأجله فإن المثل يؤثر تأثيراً بليغاً أكثر من الكلام المجرد لأنه يقرب الصورة ، ويلفت التوجه والانتباه ، ويرفع الحجاب عن القلوب الغافلة ، ويؤلف المطلوب ويقربه . ويقرّب المعنى إلى الذهن ، وتبرهن به الحجة ، ويزول به اللبس ، وترتفع به الغشاوة عن القلوب ، فينتفع به أهل العلم ، وتقوم به الحجة على الذين لا يعقلون ولا يعلمون .
ومن هنا يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني إمام البلاغة والإعجاز – رحمه الله – : ” اعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني ، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه ، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أُبّهة ، وكسبها منقبة ، ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها ، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلفاً ، وقسر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفاً . فإن كان ذمّاً : كان مسه أوجع ، وميسمه ألذع ، ووقعه أشدّ ، وحدّه أحد . وإن كان حجاجاً : كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر . وإن كان افتخاراً : كان شأوه أمدّ ، وشرفه أجد ولسانه ألد . وإن كان اعتذاراً : كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغَرْب الغضب أفلّ ، وفي عُقد العقود أنفث ، وحسن الرجوع أبعث . وإن كان وعظاً : كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر أن يجلي الغياية ويُبصّـر الغاية ، ويبري العليل ، ويشفي الغليل ” [20] .
والفائدة القصوى من الأمثال القرآنية التي ذكرها الله تعالى في قوله : ( وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلا العالمُونَ ) [21] ، في الآية دلالة على أن الأمثال شواهد للمعنى المراد وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته ، فمن أدركها وعقلها يُعتدّ من العلماء الربانيين والأتقياء الأصفياء كما ذكر ابن كثير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : ” عَقَلْتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل ” [22] . وقال الهيثمي : إسناده حسن [23] .
ثم علق رحمه الله على هذه الرواية : وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى : ( وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلا العالمُونَ ) .
وصلى الله تعالى وسلم على خير خلقه محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
* أستاذ مساعد بكلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة هلال بى ، يس ، عبد الرحمن ، للعلوم والتكنالوجيا ، تشنائ ، الهند .
[1] سورة العنكبوت : 43 .
[2] سورة الأعراف : 194 .
[3] سورة الحشر : 21 .
[4] سورة إبراهيم : 24 .
[5] سورة الزمر : 27 .
[6] سورة الأعراف : 160 .
[7] سورة يس : 13 .
[8] لسان العرب : 1/548 .
[9] سورة العنكبوت : 41 .
[10] سورة الحج : 73 .
[11] يراجع للتفصيل إلى تفسيره ” في ظلال القرآن ” : 4/2444 .
[12] سورة الأعراف : 54 .
[13] الصورة الفنية في المثل القرآني : ٩٩ ، نقلاً عن كتاب ” القرآن وقضايا الإنسان ” لبنت الشاطئ .
[14] إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين ، لابن القيم 1/139 .
[15] سورة يونس : 24 .
[16] سورة البقرة : 17 – 19 .
[17] سورة الجمعة : 5 .
[18] سورة البقرة : 261 .
[19] سورة البقرة : 264 .
[20] أسرار البلاغة ، ص 116 .
[21] سورة العنكبوت : 43 .
[22] المسند لأحمد : 4/203 .
[23] مجمع الزوائد للهيثمي : 8/264 .