درس من شهر الربيع ! شهر الربيع ، وما أدراك ما شهر الربيع !

سؤال يتطلب منا الجواب !
أكتوبر 12, 2021
الإنسان بين الكفر والإيمان والإسلام ميزان عدل في حياة الإنسان
ديسمبر 4, 2021
سؤال يتطلب منا الجواب !
أكتوبر 12, 2021
الإنسان بين الكفر والإيمان والإسلام ميزان عدل في حياة الإنسان
ديسمبر 4, 2021

الافتتاحية :        بسم الله الرحمن الرحيم

درس من شهر الربيع !

شهر الربيع ، وما أدراك ما شهر الربيع !

ذلك هو الشهر المبارك الذي استبشر الناس فيه بولادة سيد المرسلين خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مثل هذا الشهر رفع الله مكانته وزيّنه بختم النبوة ، وفي نفس هذا الشهر الجليل استجاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم نداء ربه الذي دعاه إلى السماء ، وخلّد رسالته ودينه للعالم كله وزيّن بها الكائنات كلها ، وفي هذا الشهر هاجر إلى المدينة ، وفي الشهر نفسه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الحديث الذي رواه ابن عباس وجابر رضي الله عنهما أنهما قالا : ” وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الول ، وفيه عُرج إلى السماء ، وفيه هاجر ، وفيه مات ” . ( مسند الإمام أحمد والطبراني في المعجم الكبير ) .

بهذه الشهادة ذات المكانة العالية نستطيع أن ندرك أهمية الرسالة السماوية الإلهية التي بُعث بها رسولنا العظيم ، وقد قُضي بها على الديانات والطرق الكونية كلها التي ملأت العالم وجعلت العقول منصرفةً إليها ومشغوفةً بها ، فقد كانت الجاهلية بأوسع معانيها ذات غلبة على العقول والأذهان ، وكانت الأحجار والأوثان حلت محل الإله ، ونالت من الحفاوة والعبادة والتكريم ما لا يدرك قعره ، وبعدما مضت عليها مدة طويلة وهي لا تتمثل بصورها الأصيلة مهما مثلتها الأقلام ، وذكرها المؤرخون وصورها المصورون من الأدباء والكتاب بأشكال مختلفة .

ولقد قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِنْ  قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ) .

كانت الإنسانية واقفةً على شفا جرف هار ، وكان يفقد الإنسان ميزته العقلية والطبيعة من خلال الجاهلية التي هوت بأفضل خلق الله إلى أعمق وأذل هاوية من الحيوانية التي نالت فيها الأمراض الخلقية ذيوعاً ، وانتشرت بين جميع الأجناس من خلق البشر ، وكانت الحروب القبلية والأمراض العقلية قد نالت رواجاً وذيوعاً بين الناس ، فكانوا يتقاتلون لأدنى سبب ويرخصون أنفسهم وأهليهم في المعارك الداخلية القبلية ، وقد كانوا يتبارزون إلى ميدان القتال ويرخصون دماءهم وأموالهم وأعراضهم وأبناءهم ونساءهم ، فكانت الساحات الواسعة تمتلئ بترخيص الدماء ونهب الأعراض والممتلكات ، ولكن هذا الفساد الواسع المنتشر في أنحاء الجزيرة العربية توقف مع بعثة النبي الخاتم الذي أرسله الله تعالى للإصلاح بين الناس وللقضاء على بؤرة الفساد التي كانت تملأ البيوت والمجالس ، والنوادي الصناعية المزورة ، ومن ثم أرسل الله سبحانه نداءً واسعاً يسمعه الناس في كل مكان فقال : ( هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ) ، وقال تعالى في مناسبة أخرى بغاية من الوضوح :  ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ) .

ولا تزال هذه الرسالة السماوية الدائمة القائمة يقرؤها ويتلوها كل إنسان ذي خبرة وبصيرة ، وهي لم تفقد تأثيرها ومعنويتها رغم هذه المدة الطويلة التي مضت على إعلانها ، وهي باقية على مدى الدهر إلى يوم القيامة بصورتها الأصلية التي تبعث في نفوس ذوي العقول من الناس روعتها وجمالها ، وتلفت أنظارهم إلى الحقائق الكونية الجليلة التي خلقها الله سبحانه في العالم البشري من ذوي العقول الراسخة ذات الإيمان والعمل المرضي لدى الرب تبارك وتعالى .

كلنا في أشد احتياج إلى دراسة هذه الآية الواضحة البليغة  المعجزة ، إذ لا يسع أي شخص مهما كان مسلماً يعيش في المجتمع الإسلامي أن يبلغ إلى الحقائق التي تكمن في كل حرف من الآية ، وهي تخاطب المسلمين عن النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكد لهم ذلك المنصب العالي الذي تولاه من ربه تبارك وتعالى ، وهي ذات مغزى عميق بعيد عن جميع التأويلات ، وعن كل شرح يتولاه الناس لأغراض مؤقتة .

الواقع السماوي العظيم هو ذلك الكتاب العظيم الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم ، ولولا أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بتلك المنزلة العالية التي أكرمه الله بها لما أنزل عليه القرآن الكريم من فوق السماوات السبع بلغة عربية معجزة تخلد مع الزمان وتبين طريق الحياة للإنسان والكائنات على السواء إلى يوم الدين ، لولا شخصيته صلى الله عليه وسلم لما كان لهذا الدين العالمي الخالد تلك القيمة الغالية التي أشار إليها الرب تبارك وتعالى ، وقال في كتابه العظيم : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً . فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً . وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

فكان نزول كتاب الله تعالى في الشهر الفضيل ، وقد احتوى على جميع الشئون الحيوية التي يواجهها الإنسان مع امتداد أعمار الكائنات وما يفاجئها من الظروف والأحوال ، كان نزول الكتاب نعمة كبيرة لا تساويها نعم الدنيا بكاملها ، ومن ثم كان شهر الربيع يذكرنا بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ، ويبعث في نفوسنا الروعة التي تدعونا إلى دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة بعمق وتفصيل ، فكان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم فور بعثته هو أنه دعا الناس إلى توحيد الرب تعالى ونبذ الأصنام والأوثان ، وإلى الإيمان بختم النبوة التي قررها الله سبحانه ، وإلى الإيمان بكتابه الذي أنزله الله عليه وبالرسل السابقين ، وبيّن للناس جميعاً أن أباهم آدم ، وآدم خُلق من تراب ، والناس كلهم سواسية كأسنان المشط ، وبعث في نفوسهم الكراهية والمقت الشديد ضد العصبيات الجاهلية وعصبيات الجنس واللون والدم واللغة والوطن ، وأوضح للناس جميعاً أن مقياس التفاضل ليس إلا تقوى الله تعالى ، وصرّح بذلك بغاية من الوضوح   فقال : ” لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ” ، وذلك كما ذكر الله تعالى : ( يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ، كما قد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الظنة   فقال : ” إيَّاكم والظنَّ ؛ فإن الظن أكذب الحديث ” .

فكانت ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر الربيع مبعث خير كبير لأمة الإسلام وهي تبعث في النفس روعةً وخضوعاً كاملاً لما أكرم الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر الربيع ، ديناً كاملاً ومنهجاً عادلاً وطريقاً شاملاً لجميع نشاطات الحياة ، وأنقذ الإنسان الذي كرّمه وحمله في البر والبحر ورزقه من الطيبات ، من عبادة الأوثان المبنية بالتراب ومن الذوبان في سوءات الوثنية ، وأمره بمحاربة النفس الزكية ومنعه عن الخضوع أمام الصور والأشكال القذرة .

ولقد أكرمنا الله سبحانه عن طريق سيد المرسلين بالدين الذي سمّاه الله تعالى فطرة الله ، فقال الله تعالى : ( فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .

إن منن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم علينا كثيرة جداً لا يأتي عليها الحصر ، وهي تذكرنا بالواجبات التي تعود علينا من قبل هذا الدين ، وتنبه فينا الشعور بالصلة التي تربطنا بشخصيته العظيمة ، والشعور بالمسئولية الملقاة علينا من قبله صلى الله عليه وسلم .

ولكن المسلمين بالأسف الشديد اتخذوا أيام الربيع هذه وسيلةً للهو والخرافات وارتكاب البدع والمنكرات ، وجعلوه ذريعةً إلى إرضاء شهوات النفس وامتثال أوامر الشيطان مما لا يمتّ إلى الدين بأي صلة ، فإلى الله المشتكى .

سعيد الأعظمي الندوي

8/2/1443هـ

16/9/2021م