البعث الإسلامي في عامها السبعين

ذهب الذين أحبهم ، وبقيت مثل السيف فرداً
نوفمبر 18, 2023
الانتصار والفتح لأهل الحق وحملة الرسالة العالمية الخالدة
يناير 14, 2024
ذهب الذين أحبهم ، وبقيت مثل السيف فرداً
نوفمبر 18, 2023
الانتصار والفتح لأهل الحق وحملة الرسالة العالمية الخالدة
يناير 14, 2024

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

البعث الإسلامي في عامها السبعين

كيف لا يمتلئ القلب سروراً وابتهاجاً ، ولا يفيض شكراً لله تعالى ، على ذلك التوفيق الغالي الذي رافق المجلة والقائمين عليها طوال هذه المدة التي تمتد على تسع وستين سنةً ، وها نحن نستقبل اليوم العام السبعين ، إيذاناً بافتتاح المجلد السبعين بمشيئة الله تعالى وتوفيقه ، ونواجه مع ذلك تحديات من كل نوع وعلى مستوى أرقى من السابق .

سارت المجلة على الخط الذي قرَّره لها رائدها العظيم سماحة العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله ) ، يوم وافق على إصدار هذه المجلة التي لم تكن زيادةً في قائمة المجلات العربية الإسلامية ، وإنما لكي تكون لسان حال للدعوة الإسلامية قبل كل شيئ ، وتعبِّر عن الأسس الإيمانية العقلية ، والمناهج الفكرية الأصيلة النابعة من الكتاب والسنة ، والسيرة النبوية ، والتاريخ الإسلامي ، ونحمد الله سبحانه وتعالى على أن المجلة ثبتت على الخط ، واستمرت على الدرب ، وتابعت مسيرتها الدعوية والإيمانية والفكرية بكل ثقة وقوة واقتناع .

قامت المجلة بأداء ضريبة الحب والإعجاب بشخصية الدعوة ، والفكر الإسلامي ، إذا كانت لهما شخصية ، وكانت تستوحي في هذا المجال من ذلك الفكر النير الذي زوَّدها به سماحة العلامة الإمام الندوي رحمه الله تعالى ، الذي كان قد أكرمه الله تعالى بخصوبة الفكر الديني والعلمي ، ومنَّ عليه بنعمة الإخلاص والألمعية ، والعقل الناضج ، والقلب المستنير الواسع ، وقد جمع الله فيه من الخصائص ، والميزات التي يندر نظيرها في الآخرين ، فقد تبوأ منصب العلم والدين عالياً ، واستقطب أنظار العالم الذي أسرع إليه للإفادة منه ، والاستنارة من نوره الوهاج في جميع المجالات ، والاتجاهات ، وأول ما ظهر فكره النير الواسع في الأربعينيات من القرن العشرين ، حينما صدر كتابه العظيم :  ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟ ” الذي أثار ضجةً في عالم الفكر ، وأوساط الكتاب الإسلاميين ، والمؤلفين والمفكرين ، حيث إن عنوان الكتاب كان يحمل شخصيةً متميزةً ، ودعوةً مستقلةً لإعادة التفكير في قضية انحطاط المسلمين ، واعتبارها أكبر عائق في تقديم العالم نحو رسالته الإنسانية .

هتاف البعث الإسلامي الذي ألفته الآذان من خلال مجلتنا هذه منذ تسع وستين عاماً بالتوالي ، أصبح اليوم صوتاً مشتركاً لدعاة الإسلام في كل مكان وعلى جميع المستويات ، إن هذا الهتاف اخترق الحواجز والسدود كلها ، و وصل إلى القلوب ، حيث استقر فيها وانطلق منها نحو المجتمعات الإنسانية التي عاشت في فراغ وقلق ، وبعث فيها أملاً لغد مشرق وحياة مطمئنة إذا أفسحت المجال للإسلام ، وقامت بتجربة المنهج الإسلامي في جدية وثقة ودوافع إيجابية بناءة ، ذاك أن البعث الإسلامي الخالص هو الحل الوحيد لما يعيشه العالم اليوم من أزمات وما يعاني منه الإنسان المعاصر من ألوان التناقضات والاختلالات ، لا على الساحة الاجتماعية والحضارية فقط ، بل في المجالات الفكرية والعقائدية أيضاً .

إن هذا البعث الإسلامي ليس دعوةً إلى بعث إسلامي محدود في إطار إقليمي أو مفهوم خلقي فحسب ، ولكنه بعث إسلامي يشمل جميع أجزاء الحياة وألوان المجتمع وأنشطة العمل ، والحكم والتشريع والعبادات والمعاملات والقضايا الفردية والجماعية ، والشئون الخاصة والعامة ، ذاك لأن الإسلام منهج كامل شامل خالد للحياة الإنسانية يستجيب لجميع مطالبها ويحقق جميع مقتضياتها ، ويُطل على كل خلية من خلاياها ، ويضفي على كل لون من ألوان النشاط والعمل صبغة القدسية والطهر والورع والإخلاص ، ويربطه برباط العبودية الخالص ، فلا تخلو لمحة من الحياة من تصور العبادة لله ، ولا تضيع لحظة فيما لا يعني إرضاء الله ، بل الحياة كلها عبادة وعمل وجهاد ودعوة ، وطاعة ، وكفاح ، وبذل وتضحية وفداء وحب وإيثار ، وعدل وعفاف ، ونزاهة وفضيلة وجمع بين الدين والدنيا بكل اتزان وقصد وتوسط واعتدال ، ومراعاة لجميع جوانب النفس ومطالب الروح ومقاصد القلب ، يقول الله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [ سورة البقرة : 143 ] ، ويقول : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) [ سورة الحج : 78 ] .

إن هذا البعث الإسلامي لا يعني الرفض لجميع ما تقدم فيه الإنسان المعاصر من علوم وصناعات وحضارات وفلسفات علمية ونظرات إنسانية ، بل إنه يرحب بكل ما يساعد المسلم في أداء واجبه الديني ويقويه في النوء بمسئولية الدعوة والتوجيه الخلقي ، اللهم إلا ما يمس جوهرة العقيدة ويضر بالروح الإيمانية ويخدش وجه التقوى والإخلاص ، ويخرج بالمرء من دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويضيق عليه نطاق العمل الخالص ويضعف علاقته بالله ، إنه لا يرفض الانتفاع بالإبداعات والاختراعات السريعة في مجال العمل والنشاط ، ولا يترك العلوم التي تنتمي إلى الغرب أو الشرق ، بل ويتناولها بالإخضاع لخدمة دين الله ، وإعلاء كلمته ، ويبذل مجهوداته المخلصة في سبيل أسلمة العلوم والمعارف التي تبدو كأنها مادية خالصة لا تمت إلى الوسائل الروحانية بصلة .

ولكن هذا البعث يحارب الأيدلوجيات المادية التي تنكر وجود الإله المطلق الواحد القهار ، ويضرب عرض الحائط جميع تلك الأفكار والنظرات التي تتجرد عن القيم العليا والعقائد الإيمانية ، وتعتبر الإنسانية ذريعةً لنهب اللذات والتسابق في الشهوات ، والجري في حلبة الأهواء النفسية والأغراض البهيمية ، إنه يعلن بكل صراحة وجدية أن الإنسان ليس مادةً فحسب حتى يشبع نهمته بالتقدم في المجالات المادية والغايات النفسانية ، ولكنه يجمع بين المادة والروح ، بين العقل والقلب ، بين الدنيا والدين ، ويلاحظ الاتزان الكامل الدقيق في هذا الجمع فيوفر للجسم غذاءه كما يهيئ للقلب زاده ، ويخدم جسمه ويقوي عضلاته بجانب ما يخدم عواطفه ، وينمي روحه ، ويترك أي جانب منهما على حساب الآخر ، إذ أن الله تعالى قد خلقه في غاية من التقدير والتقويم      ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) [ سورة الأنعام : 96 ] ، ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) [ سورة التين : 4 ] ، فمن لم يفطن لهذا التقويم ولم يقبل هذا التوازن الدقيق ووقع في إفراط وتفريط ردَّه الله سبحانه أسفل المنازل حتى يراجع عقله السليم ويرجع إلى الإيمان والعمل الصالح ويراعي الدقة التامة في ربط كل منهما بالآخر ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) [ سورة التين : 5 – 6 ] .

إن البعث الإسلامي لا يبعث الحياة الإنسانية من الخمول واليأس ، ولا يثير فيها دوافع الثورة ضد الفساد الخلقي ومنكرات القول والعمل فحسب ، ولكنه مع كل ذلك يوفر للحياة عوامل السعادة وبنائها على أسس متينة من الإيمان والعقيدة والعمل والسلوك ، وينمى في الإنسان الشعور الدقيق بالتوازن والوسطية والقصد والاعتدال ، وإعطاء كل ذي حق حقه من العناية والاهتمام ، ومنح كل جانب من المادة والروح مكانه اللائق به ، ووضع كل دقيق وجليل موضعه من الأهمية ، ولذلك فإنه لا يتم ما لم ينفتح لكل جزء من الحياة طريقه نحو العمل والنشاط وما لم يجد الاتزان والتقدير الصحيح طريقهما نحو الحياة والمجتمع ، ولولا هذا المعنى لما كان المجتمع الإسلامي الحاضر إلى أي حاجة نحو هذا البعث الإسلامي ، الذي ينادي به العاملون في مجال الدعوة الإسلامية .

ليس هذا البعث الذي نريده إلا حاجةً معاصرةً للإنسان في كل مكان ، إنه يشمل المجتمعات المادية والإسلامية بكاملها ، حيث إن الخواء الروحي والقلق والاضطراب والحيرة ، واليأس والتبرم والتشاؤم ، كما يعم الماديين كذلك يتوفر في مجتمعات المسلمين ، فإذا كان المسلمون أولى بالبعث الإسلامي كان الماديون أحوج إليه ليتمكنوا من الاستمتاع بمنافع الإبداعات العلمية والصناعية ، ولكي يقطفوا ثمار التقدم والرقي ويجنوا نتائج البحث والتحقيق العلمي والفكري في جو من الأمن والهدوء ، والسعادة والسلام ، وكما أن المسلمين بالوضع الذي يعيشون فيه لا يستطيعون أن يحققوا عملاً إيجابياً يعم نفعه وتتعدى فوائده إلى أناس هم في حاجة إلى ذلك من غير أن يبعثوا الإسلام في حياتهم من جديد ، ويمثلوه بكافة نواحيه في جميع نشاطاتهم وممارساتهم الفردية والجماعية ، ويتظاهروا بالاعتماد الكامل على منهج الإسلام الخالد وبالثقة الوفيرة في غناء الشريعة الإسلامية في كل زمان ومكان ، وفي كل شأن من الشئون ، وكل مجال من مجالات الحياة والمجتمع .

نريد أن تستمر هذه المجهودات الصحفية من خلال مجلتنا هذه أيضاً لتحقيق البعث الإسلامي في العالم المعاصر على جميع المستويات وفي كافة المجالات ، وما ذلك على الله بعزيز .

سعيد الأعظمي الندوي

1/ربيع الثاني/1445هـ

17/أكتوبر/2023م