حركة الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي الدعوية

مرئيات حول الدّفاع عن المدارس
يناير 1, 2020
الهدي النبوي في العملية التربوية
يناير 1, 2020
مرئيات حول الدّفاع عن المدارس
يناير 1, 2020
الهدي النبوي في العملية التربوية
يناير 1, 2020

الأستاذ عبدالوهّاب سلطان الدِّيروي *

لا ريب أن حلقات التاريخ تكون مترابطةً ، ومتصلةً ببعضها ، وهكذا هي حلقات التاريخ التي تلت حركة الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي في الهند ، والذي يتراوح عصره ما بين ميلاده عام ( 917هـ ) ، ووفاته عام ( 1034هـ ) ، والذي يعني – بتعبير آخر – أنه عاش ثلثاً من القرن العاشر ، كما أدرك ثلثاً من القرن الحادي عشر، وكان رمزاً من أبرز رموز الإصلاح والتجديد الديني الصالح في عصره ، وعلى رأس الألفية الثانية من الهجرة ، فلقد كانت حركات البعث والتجديد التي ظهرت على مسرح التاريخ بعدها ، امتداداً إلى عصرنا الراهن الحافل بالحركات والأعمال الدينية المجيدة الموفقة ، وكذلك سائر الجهود التجديدية في العصور المتأخرة من عصر الإمام رحمه الله ، كانت ولم تزل في حساب البعثة التجديدية التي انتهض بها هذا الإمام الموفق ، ابتداءاً من حركة الإمام الشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله تعالى ، ومن وَالاهم من أئمة التجديد : الإمام إسماعيل الشهيد ، والإمام أحمد بن عرفان الشهيد رحمهما الله تعالى ، فقد كانوا غيضاً من فيض الإمام السرهندي ، ومروراً بالجامعات الإسلامية العريقة في الهند ، كان في طليعتها جامعة دار العلوم ديوبند ، وجامعة ندوة العلماء لكهنؤ ، وغيرهما في عداد الآلاف والآلاف من المدارس الدينية التي غدت في أقرب وقتها منذ عهد التأسيس مصدر إشعاع علمي وثقافي وحضاري متميز ، ليس في حدود الهند فحسب ، بل تجاوزت مآثرها إلى كافة الأقطار في العالم ، وقد تبنـّت هذه المدارس والمراكز كلها منهج الإمام السرهندي في التوعية الدينية الرشيدة في المجتمع الهندي والعالمي ، ونُحيل لدراسة تفاصيلها على ما ألفه العلامة الندوي في كتابه : ” أضواء على الحركات الدينية ، والجهود الإصلاحية في الهند ” فقد أغنانا عن مؤنة التفاصيل في هذا الباب من التاريخ ، وكان مؤسسها الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله تعالى ، رائد النهضة الدينية في هذه البلاد ، هو الآخر منتمياً إلى مدرسة الإمام إسماعيل الشهيد الفكرية والعلمية ، وكان مولَعاً بشخصيته [1] ، ومقتدياً بواسطته بالإمام السرهندي ومنهجه الرباني .

مظاهر تطبيقية لمنهجية الإمام السرهندي في العصر الحديث :

ويهمنا أن نُعنى هنا بتقييم بعض التجارب الدعوية المعاصرة التي أثبتت أن المنهج الإصلاحي والدعوي الذي تبناه الإمام السرهندي كان هو الأسوة للعديد من الحركات والدعوات  الإسلامية المعاصرة ، وكان ذلك سرّ انتصارها ، ونخصّ فيما يلي بعض هذه التجارب بالذكر ، لتكون عوناً لنا في الاستفادة من هذا المنهج الرباني في عصرنا الذي نعيشه ، والذي قد  أصبح – من أجل ظروفها العالمية المحرجة ، و المشابهة لظروف القرن العاشر ، وعصر الإمام السرهندي – بل أكثر – أحوج إلى هذه المنهجية وتبنيها على كافة الأصعدة ، من أي عصر آخر .

(1) التجربة الباكستانية و تقييمها في ضوء منهج الإمام السرهندي :

اسقلت باكستان الإسلامية عن الهند عام 1947م ، بعقيدتها ، وشعائرها ، ومآذنها التي تدوّت مجلجلةً بأصوات الأذان في أجواء    الحرية ، وكان هذا الاستقلال مدفوعاً بحركة دعوية قوية صامتة ، يتصدرها الإمام حكيم الأمة أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى ، وأتباعُه من العلماء الكبار في الهند، وكان الإمام التهانوي يأتسي طوال حياته بمنهج الإمام السرهندي ، ويراسل زعماء ” الرابطة الإسلامية ”      ( Muslim League ) السياسيين من أجل تحقيق هذا المشروع ، ويوجه إليهم بعثات ووفوداً دعويةً ، مكوّنةً من خيرة أتباعه وتلاميذه ، حتى اكتمل المشروع ، وظهرت الدولة الفتية الناشئة على خريطة العالم على الأساس الإسلامي المتميز ، الذي لم تحظ به أي دولة إسلامية معاصرة ، ولم يزل الإمام التهانوي متصلاً بأعضاء الرابطة ، ويتوسم فيهم شمائل الخير والصلاح ، وكان من ذلك وفد دعوي مكوّن من أمثال العلامة المفتي محمد شفيع ( المفتي العام بباكستان سابقاً ) ، والعلامة المحدث ظفر أحمد العثماني وغيرهما ، بعثه الإمام التهانوي إلى الديوان الملكي الباكستاني ، للاتصال بقائدها الأعظم محمد علي جناح ، وكان لهذا اللقاء أثر طيب على شخصية القائد و الرئيس الباكستاني ، فكرياً وعملياً ، وأصبح يقيم الصلاة ، ويأمر بالمعروف ، كما سجله المؤرخون ، ولكن هذا الأساس القيم تهدّم من أصله منذ سيطرة الاتجاه الغربي الخالص على هذه البلاد التي قامت باسم الإسلام والشريعة الإسلامية وباسم حضارة الإسلام ، وتمثيلها بالكلية في جميع النواحي الشرعية والسياسية ، وتنفيذها في كل جزء من أجزاء الحياة البشرية من العامة والخاصة ، فهل لها من وجود في هذا الإقليم الذي ظهر باسم الإسلام ، والإسلام وحده ؟!!

(2) التجربة النورسية في تركيا العثمانية ومآثرها التجديدية المعاصرة :

من مظاهر حركة الإمام المجدد للألف الثاني من الهجرة ، وصوره التطبيقية المماثلة هي تجربة الإمام النورسي في تركيا ، حيث استطاعت هذه الشخصية الفذة والعبقرية بعد جهود دؤوبة وصامتة في عهد كمال أتاتورك – الذي يعدّ من أظلم العصور في تاريخ تركيا الشقيقة الحبيبة – إنتاج قيادة إسلامية رشيدة في كافة قطاعات الحياة ، لا زالت تتمتع به تركيا الحبيبة ، ولا تزال إن شاء الله ، على رغم أنف القوى العالمية المعادية ، ومؤامراتها التي حيك نسيجها ضدها ، ولكن الله تعالى مبدّدها بحوله وقوته .

وإذا كان السلطان العادل محي الدين أورنك زيب عالمكير من ثمرات تربية الإمام السرهندي ، فإنا نجد أمامنا من ثمرات الإمام النورسي شخصيةً فذةً حماها الله من كل سوء ، يعرفه العالم بـ : رجب طيب أردوغان حفظه الله تعالى ، الرجل المنشود والمنتظر ، المعتز بدينه وعقيدته ، والمهتم بشعائره ومقدساته ، والموفّق إن شاء الله للقيادة الإسلامية ، وإعادة المجد الإسلامي .

وسعادة الرئيس التركي أردوغان يمارس في منهجه الدعوي والسياسي نفس الخطة التجديدية التي تبناها الإمام للسطان عالمكير ، وهو الآخر يهتم بلقاءات ثنائية مع عدد كبير من قادة العالم المسلمين وغيرهم ، بمن فيهم أمناء الأمم المتحدة ، ورؤساء الولايات المتحدة ، وممثلون للجاليات المسلمة ، ويشعرهم بأهمية الموقف الإسلامي ، ويحثهم على الاعتناء بالقضايا الإسلامية ، كما يرفع بين الفينة والأخرى هتاف المجد الإسلامي بمحضر من رؤساء دول العالم ، وقادة المنظمات ، في حكمة وجرأة ، قل نظيرهما في العصر الحاضر ، ومن ذلك ما ذكرته مجلة ” المجتمع ” الكويتية [2] في ملفها الساخن من رده على ترامب لاستخدامه مصطلح ( الإرهاب الإسلامي المتشدد ) ، من على منبر الأمم المتحدة العالمي ، كما أكد عليه أن يتخذ إجراءات إصلاحيةً جذريةً في بنية الأمم المتحدة ، عدا صداه المعروف ضد سياسة الأمم المتحدة المنحازة قائلاً : ( العالم أكبر من الخمس ) ، رداً على أئمة العضوية محتكرة النفوذ في الأمم المتحدة .

(3) تجربة الدعوة الإسلامية في ميزان المنهج التجديدي للإمام السرهندي :

كانت جماعة الدعاة المسلمين التي أسسها الإمام الداعية حسن البناء الشهيد رحمه الله تعالى ، من أقوى الحركات الإسلامية في    مصر ، وكانت تتبنى مشروعاً إسلامياً قوياً ، ولكنها كانت تعاني من ناحية سياستها العسكرية الشيئ الكثير ، والذي جرَّ عليها ويلات كثيره داخل دولة مسلمة كمصر ، وقد شاء القدر للعلامة الداعية أبي الحسن الندوي رحلة إلى مصر ، وكان معجباً بفكرة الإمام حسن   البناء ، ولكنه كان في نفس الوقت يؤاخذ عليها في منهجها العملي المتشدد من بعض النواحي ، فعرضها عليهم في صدق وإخلاص ، وحكمة وحنان ، وكانت هذه النصائح نابعةً من تشربه للمنهج التجديدي الآمن للإمام السرهندي ، فاستجابت مرئياته القبول ، وغيرت الحركة من سياستها ومنهجها ، وفق ما أملاه عليهم الإمام الندوي ، ويصف أحد الدعاة الإسلاميين : الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى ، هذا الأمر في إحدى رسائل العلامة الندوي :

” زارنا الأستاذ أبو الحسن ونحن نكافح الأمر العسكري بحل جماعة الدعاة الإسلاميين ، فتعهدنا الرجل بنصحه الحصيف ، وقام بحق الإسلام عليه في توجيهنا إلى مرضاة الله وخدمة وحفظ دينه وحفظ المقدسات العظيمة التي آلت إلينا من أسلافنا الأمجاد ، والثبات ضد الغزو الصليبي ، والتبشير الثقافي الذي يرمينا به الغرب بين الحين  والحين ، وتحرى أن نلتزم في جهودنا للإسلام الأساليب الإسلامية    نفسها ، فإن الخير لا يدرك إلا بالخير ، وهيهات أن تصل إلى حق بباطل ، وقد سجل هذه النصائح في الرسالة التي نتشرف بتقديمها للدعاة  المسلمين ” [3] .

هذه الأمثلة قليل من كثير ، وإن الاستيحاء من حركة الإمام السرهندي التجديدية حاجة العصر من عدة نواحٍ ، لا بدّ من دراستها وبلورتها التحليلية ، لتكون أسوةً للحركات الدينية المتكاثرة في عموم العالم الإسلامي ، والتي أصبح بعضها يعاني الكثير من التخبط في  المنهج ، والتطرف في السلوك ، وهي على علاتها تلك محسوبة على الإسلام ، وهو عنه براء ، هدانا الله إلى الحق ، وهو يهدي السبيل .

* عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمي ، أستاذ جامعة دارالعلوم كراتشي .

[1] انظر : سوانح قاسمي ،( سيرة الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله تعالى ) ص : 1 ، للعلامة مناظر أحسن الكيلاني ، طبع ديوبند .

[2] مجلة المجتمع الكويتية ، العدد  : 33/65 .

[3] العلامة الندوي في بعض كتاباته .