التربية على الشورى في الإسلام

التربية الإسلامية : مميزاتها وأسلوبها
ديسمبر 11, 2019
مرئيات حول الدّفاع عن المدارس
يناير 1, 2020
التربية الإسلامية : مميزاتها وأسلوبها
ديسمبر 11, 2019
مرئيات حول الدّفاع عن المدارس
يناير 1, 2020

التربية على الشورى في الإسلام

بقلم : الأستاذ صفاء الدين محمد أحمد *

إذا كان المسلمون في نظر الإسلام يمثلون وحدةً واحدةً لا تحاسد ولا تباغض ولا تنافر بينها ، وهم أذلاء لبعضهم أعزاء على غيرهم ، فان أمر الشورى لا بد أن يكون نظام هذا المجتمع الذي يتساوى أفراده ، ويتفاوتون بمدى قربهم وبعدهم من خالقهم ، فالله سبحانه وتعالى يقول :  ( وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )      ( الشورى : 38 ) ، والشورى هنا ليست وقفاً على جانب من الحياة دون آخر ، بل في شأن الحياة كلها ، ما لم يكن الأمر منصوصاً عليه في الكتاب أو السنة ، وليس من مسائل الحياة المطروحة للاجتهاد والبحث .

وتربية الأمة على التشاور فيما بينها يحقق لها الكرامة التي ميزها الله بها عن سائر خلقه ، فالشورى مبدأ من المبادئ التي تبني عليها  الحياة ، وهي في حياة المسلمين ألزم ، ولذلك لم يحدد الإسلام لها طريقةً واحدةً ، بل قرر المبدأ وترك طريقة التنفيذ لظروف البشر وتطورات الحياة ووسائلها .

وواجب المسلمين ألا يفرطوا في هذا الحق الذي جاءهم من عند  الله ، وأن يربوا أبناءهم على هذا المبدأ الذي ينظم حياتهم في أسرهم ، ومؤسساتهم الاجتماعية والتربوية والسياسية ، وأن يتعلموا تبعاً لذلك تحمل النتائج التي تتمخض عن ممارسة الشورى وتطبيقها في جوانب الحياة المختلفة ، وليس لقيادة المسلمين مهما كان الأمر أن تلغي من حياة المسلمين أمراً استحسنه الله لهم وأمرهم به ، لأن الله تعالى يعلم أن الشورى من أهم المبادئ التي تربى بها الأمم وتنشأ عليها الأجيال ، وكيف تربى الأمة المسلمة على قيادة البشرية وهي في نفسها لم ترب على المسئولية .

والشورى ولم تمارسها في حياتها ؟ وكيف تستفيد الأمة المسلمة من تجاربها إذا لم تعمل وتتحمل نتائج الشورى وأخطاء الممارسة ، وتتبين جوانب الصواب والخطأ والنجاح والإخفاق من خلال الممارسة الحرة الواعية لمبدأ الشورى .

نماذج من الشورى والتربية عليها :

(1) عندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخروج قريش ليمنعوا عيرهم ، استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فقام أبو بكر وأحسن وقام عمر وأحسن وقام المقداد بن عمرو وقال ما اشتهر عنه من قول كان مدعاة لأن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ” أشيروا علي أيها الناس ” ( سيرة ابن هشام ، الجزء الثاني ، ص : 259 ) ، وقد أراد بذلك الأنصار فلم يكن في عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموه خارج بلادهم . فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال ما سر له رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقال لهم : ” سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأنني الآن انظر إلى مصارع القوم ” ( سيرة ابن   هشام ، الجزء الثاني ، ص : 259 ) .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأنصار يحبون ما يحب ، ويأتمرون بأمره ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلمهم أول درس في الشورى ، درس يبين لهم فيه مدى احترام هذا الدين لكرامة الإنسان ، وفكره ورأيه .

(2) وقد يكون المستشار صاحب اختصاص ودراية ومعرفة بأمر يمكن قبول الاستشارة فيه ، فقد ذكر ابن هشام أن الحباب بن المنذر قال : يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : ” بل هو الرأي والحرب والمكيدة ” ، قال يا رسول الله ! فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب – أي نفسد غيرها بقذف الأحجار والتراب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لقد أشرت بالرأي ” ( سيرة ابن هشام ، الجزء الثاني ، ص : 260 ) .

فهذا الصحابي كان عالماً بحدود الشورى ، وأن الأمر إن كان من عند الله فلا مجال فيه للرأي والمشورة ، أما إذا كان أمراً من أمور الحرب أو السياسة وما يتعلق بالاستراتيجيات فإن مجال الرأي فيه لأصحاب الاختصاص والخبرة والتجارب ، كما أن صاحب الرأي كان جندياً من جنود المسلمين ، خاطب قائده بثقة واطمئنان ، لأنه قد ربي على هذا .

بالإضافة إلى أن مثل هذه المواقف هي التي تربي الجنود على عزة النفس والكرامة ، والاعتداد بالشخصية ، والإحساس بالكرامة والإنسانية ، لأنه فرد له رأيه الذي يسمع ، وخبرته التي تقدر ، ومكانته مهما كانت رتبته .

(3) ذكر ابن كثير في كتابه ( البداية والنهاية ) ( الجزء   الثالث ، ص : 296 و 297 ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار في الأسارى يوم بدر بعد أن أمكنهم الله منهم ، فكان رأي أبي بكر أن يعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم ، ويقبل منهم الفداء ، وحجته في رأيه أن في الفداء قوة للمسلمين على الكفار ، وإن الأمل في الله كبير أن يهديهم وأن يتوب عليهم ، فيكون كل منهم سنداً للمسمين ، زيادةً على أنهم القوم والأهل ، وكان رأي عمر أن يضرب أعناقهم ، وأن يمكن كل واحد من الصحابة من أقرب الناس إليه في الأسارى ليضرب عنقه ، وحجته في رأيه أن هؤلاء يمثلون صناديد قريش وسادتها وقادتها ، فيكون للمسلمين المهابة في قلوب الأعداء ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر ، فأنزل الله عز وجل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال : 67 – 68 ) .

وقد تعلم المسلمون من نتائج هذه الاستشارة دروساً نافعةً متعددةً :

أولاً : أن تقتيل الأسرى في هذه المرحلة فيه إضعاف لقوة المشركين ، وكسر لشوكتهم ، وإذلال لكبريائهم ، فكان الإثخان مطلوباً .

ثانياً : أن يثبت فدى نفوس المسلمين أن الآصرة التي تقوم عليها العلاقات هي آصرة العقيدة ، وليست القربى أو النسب ، وهذا ما أراده عمر رضي الله عنه .

ثالثاً : آن الأمل في دخول نور الإيمان في قلوب المشركين خير ، وإن استعطاف القلوب بالعفو والمغفرة خير أيضاً ، وهذا ما قصده أبو بكر رضي الله عنه .

رابعاً : أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يوحى إليه لم يكن ينفرد بقرار الحرب أو السلم أو ما يتعلق بهما من أسارى وغير ذلك ، فإذا كان الرسول القائد عليه الصلاة والسلام يمارس الشورى وهو الموحى إليه ، فكيف بمن دونه من قادة المسلمين ؟

خامساً : إن حداثة الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن سبباً في حجب الجماعة المسلمة عن أن تمارس حقها في الشورى ، ورأيها في السياسة العليا للدولة ، حتى تتعلم هذه الجماعة من إيجابيات الشورى وسلبياتها التي تعدّل مسارها وتوجه خطاها .

(4) في شوال من السنة الثالثة من للهجرة سار أبو سفيان بن حرب في جمع من قريش ونزل في أحد ، فرأى جماعةً من المسلمين لم يشهدوا بدراً أن الله قد حقق أمنيتهم في قتال العدو فأشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا لملاقاة العدو . وكان رأي الرسول عليه الصلاة والسلام وبعض الصحابة أن يبقوا بالمدينة ويقاتلوا داخلها ، غير أن الأكثرية كان رأيها الخروج لملاقاة الأعداء خارج المدينة ، وكانت دوافعهم في ذلك متعددة منها :

  • أن يعوض من لم يشهد يوم بدر ما فاته من شرف المشاركة يوم بدر ، وفي أول معارك الإسلام ، وقمة انتصار الحق على الباطل .
  • ألا يرى المشركون فيهم جبناً وضعفاً .
  • تمنى البعض أن يستشهدوا في سبيل الله يومئذ ولا يفروا من الزحف .

استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لرأي الأكثرية واستعد للقتال ووعظهم بالجهاد ، ثم دعاهم إلى الخروج لملاقاة المشركين ، ثم عنّ لذوي الرأي أن يرجعوا لرأي رسول الله عليه الصلاة والسلام بالبقاء في المدينة ، فيقول لهم : ” ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل ، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو ، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا ” ( ابن كثير ، البداية والنهاية ، الجزء الرابع ، ص : 12 و 13 ) .

وسارت أحداث المعركة فيما قدر الله لها أن تسير لتتعلم الأمة المسلمة في النهاية نتائج إيجابيةً من ممارستها للشورى ، وما يترتب عليها من مسئوليات ونتائج أهمها :

  • تأكيد مبدأ الشورى في حياة الأمة المسلمة مهما كانت نتائجها ، فقد جاءت الآيات لتؤكد هذا المعنى : ( فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأَمْرِ ) ( آل عمران : 159 ) .
  • إن الأمة لا تربى إلا بالشورى خاصةً إذا كانت أمةً قائدةً موجهةً كالأمة المسلمة .
  • إن أخطاء الممارسة والتطبيق لا تبيح لأحد سلب هذا الحق الذي وهبه الله للأمة المسلمة ، بل ولو كانت نتائج الممارسة اختلال الصف الإسلامي .
  • أن الأمة الإسلامية أمة راشدة مهدية ، قادرة على تحمل مسؤولياتها ، وجديرة بمعالجة أخطائها ، الأمر الذي لا يجوز الوصاية عليها لأنها ليست قاصرة .
  • أن المكاسب المادية والانتصارات في ميدان القتال ، لا تعادل المكاسب المعنوية والتربية الذاتية التي اكتسبها المسلمون من ممارستهم للشورى ، وتحملهم لتبعات آرائهم بالإضافة إلى الخبرات العسكرية التي تعلموها في مجال الطاعة والامتثال وتنفيذ الخطة الموضوعة للمعركة .
  • لم يكن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه إرهاصات عن المعركة ونتائجها من خلال رؤيته التي رواها لأصحابه – لم يكن ذلك مانعاً من إنفاذ أمر الشورى ، أو إلغاء ما رأى الأغلبية : ” فلو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون لكان وجود محمد صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى ، وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة .

ولكن وجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي ، ووقوع تلك الأحداث ، ووجود تلك الملابسات ، لم يلغ هذا الحق ، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون ، ومهما تكن النتائج ومهما تكن الخسائر ، ومهما يكن انقسام الصف ، ومهما تكن التضحيات المريرة ، ومهما تكن الأخطار المحيطة . . لأن هذه كلها جزيئات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة المدربة بالفعل على الحياة المدركة لتبعات الرأي والعمل ، الواعية لنتائج الرأي والعمل .

ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات : ( فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأَمْرِ ) ( آل عمران : 159 ) ، ليقرر مبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله ، وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أياً كانت الأخطار التي تقع أثناء التطبيق ، وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة ، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئةً ، ولو كان هو انقسام الصف كما وقع في ( أحد ) والعدو على الأبواب ، لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق ” . ( في ظلال القرآن ، المجلد الأول ، ص : 502 ) .

الهوامش :

  1. السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الثاني ، ص : 259 .
  2. السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الثاني ، ص : 259 .
  3. السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الثاني ، ص : 260 .
  4. السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الثاني ، ص : 260 .
  5. البداية والنهاية لابن كثير ، الجزء الثالث ، ص : 296 – 297 .
  6. البداية والنهاية لابن كثير ، الجزء الرابع ، ص : 12 – 13 .
  7. في ظلال القرآن ، المجلد الأول ، ص : 502 .

* كاتب وباحث إسلامي – مصر .