نجاة المؤمنين : دراسة علمية في ضوء حديث : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ( الحلقة الثالثة الأخيرة )

ربوبية الله تعالى والتركيز على الآخرة
سبتمبر 2, 2024
أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة
نوفمبر 22, 2024
ربوبية الله تعالى والتركيز على الآخرة
سبتمبر 2, 2024
أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة
نوفمبر 22, 2024

التوجيه الإسلامي :

نجاة المؤمنين : دراسة علمية

في ضوء حديث : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة

( الحلقة الثالثة الأخيرة )

بقلم : الشيخ السيد محمد علي المونكيري رحمه الله §

تعريب : الأخ طلحة نعمت الندوي *

أرى أنّ هناك عدة طرق للنجاة : منها أن لا يواجه مؤمن شيئاً من العذاب في أي حال بعد ما آمن ، فلم يرد مثل هذا الوعد بهذه النجاة في أي آية أو حديث ، ومنها النجاة من نار جهنم في الآخرة ، وهو على وجهين : أحدهما النجاة بعد المعاقبة على السيئآت ، والثاني النجاة منها بدون عقاب وعذاب ، ومثل هذه النجاة قد وردت الآيات والأحاديث بالوعد بها ولا شبهة في ذلك ، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك على نوعين : أحدهما أنه من آمن دخل الجنة في أول مرحلة دون الجزاء على السيئآت ، وهذا وعد بأن الله إذا أدخله الجنة فذلك كما وعد به ، وإن عاقبه وعذبه في النار قبل إدخاله الجنة لم يكن مخالفاً لما وعد .

وثانيهما هو أنّ النار عليه حرام ، ولا تمسه في شيئ ، وظاهره يوهم مخالفة الآيات والأحاديث التي جاءت في ذكر العذاب والعقاب ، ولكنّ من تأمل فيه علم أنه لا خلاف في ذلك ، فإنّ الله تعالى قد جعل للإنسان أربعة عوالم : الأول عالم الدنيا ، والثاني عالم البرزخ وهو يسمى القبر ، والثالث عالم القيامة ، والرابع عالم الآخرة ، والإنسان ينال في هذه العوالم الأربعة جزاء سيآته وحسناته من عدة وجوه ، إلاّ أنّ عالم الآخرة أكبر مشاهد له ، وقد جاء القرآن الكريم بجزاء السيئآت والحسنات على نوعين ، فقد اقتصر في بعض المواضع على قوله “من يعمل سوء يجز به ” ، وهذه الكلمات عامة بحيث لو نال جزاء سوء عمله في عالم فقد تحقق فيه الوعيد ، ولا يستلزم تحققه إلقاءه في النار ، فلو أصابه ضرّ في هذه الدنيا لما اقترف من الذنوب أو نال العذاب في عالم البرزخ ويعذب في قبره ولا يعلم مقداره إلاّ الله ، فقد تحقق الجزاء والعقاب ، لأنّ عالم القبر وإن كان غير معلوم ، ولكنه لا أقلّ من آلاف من السنين ، وأما عالم القيامة فمقداره خمسون ألف سنة ، إذاً فالحياة الدنيا التي لا تكاد تتجاوز على الأغلب مائتي سنة يكفي لكفارة ذنوبه العذاب في هذه العوالم الثلاثة ، ثمّ إنّ الله عزوجلّ لو حفظه من العذاب في النار فليس ذلك ببعيد من رحمته ، وقد أورد الشيخ حديثاً من سنن البيهقي أثبت به أنّه ليس للأمة المحمدية عذاب الآخرة ، وإنما عذابها هو مصايب الدنيا وما ينال ههنا من سوء وآلام وما يواجهه من البلايا ، كما صحّ معنى الأحاديث التي وردت بتحريم نار جهنم على المؤمن ، كما صح معنى العذاب للعاصي إذ ينال عقابه في الدنيا أو القبر أو الحشر ، ثم إنّ الله تعالى يعيذه من نار جهنم ، ومع ذلك كله تبقى شبهة ، وهي أنه ورد في بعض الآيات والأحاديث دخول النار لبعض ذنوبه مثل من قتل مؤمناً متعمداً فقد قال تعالى عنه : ( فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ) ، كما يقول الله عز وجلّ في موضع آخر : ( يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ . وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ) ، ظاهر هذه أنّ من أكل مال أحد بالباطل أو قتل مؤمناً بغير الحق يلقى في النار ، ولم يكن لينجو منها بإيمانه فحسب ، فلا بدّ من أن نفكر فيما قال الله تعالى ، وما صرح به قائلاً : ( إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ) [ سورة النساء : 48 ] ، فهذه الآية قد قطعت بأنه ليس هناك ذنب سوى الشرك قاطع بالوعيد عليه ، فله أن يغفر من شاء من أهل المعاصي والفسق كيفما شاء ، بالشفاعة أم بدونها ، وأكثرها ترجيةً للمؤمنين ، وفرحاً لهم الآية التالية التي يخاطب فيها نبيه لأن يقول لعباده : ( قُلْ يا عِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ) [ سورة الزمر : 53 ] ، فهذه الآية جعلت المغفرة عامةً شاملةً ، فتأملوا يا إخواني ! وشاهدوا فيضان بحر الرحمة الإلهية والمغفرة الربانية ، وكلمات الآية تنادي بأنّ هذا الفيضان سيذهب بالذنوب مثل التبن والقش والحشيش ، فلا يبقى فيه ذنب ، ففكروا في تأكيدها جميعاً واستغراق لام الذنوب ، فلو نظرنا في هذه الآية مع الآية السابقة توصلنا إلى أنه قد ورد القطع بأنه لا يغفر أن يشرك بالله ، وأمّا غيره من الذنوب فإنّ ذلك الكريم يغفرها بكرمه وفضله ، ويؤيده ما جاء عن رحمة للعالمين عليه السلام تماماً حيث قال :    ” حرمه الله على النار ” ، ففكروا في معاني هاتين الآيتين في ضوء الأحاديث التي سبقت ، وهذا الذي بين يديكم ، ومجموع كلّ ذلك يهدينا ويرشدنا إلى أنّ ذنوب المسلمين ستغفر بالتوبة وبدونها ، ولو أنجاه الله بعد إدخاله النار فليس ذلك مغفرةً ، وليراجع له إلى تفسير روح المعاني .

فالآن نقول : إن الآيات والأحاديث التي توعدت بالنار وجهنم على ذنب من الذنوب كان معناهما بيان العقاب لتشنيع ذلك العمل ، حتى يكون العبد على يقين من ذلك ، ثمّ يشاهد فضله وكرمه ونعمه عليه عند النجاة ، وأن ربه قد منّ عليه بإيمانه فحسب ، وكيف أنقذه ومن أي مهلكة أنقذه ، وكان قد استحقها ، وبناءً على ذلك يغمر ذلك العبد العاصي سرور عظيم  ببشارة النجاة فحسب قبل دخوله الجنة ، وهذا سرور أيما سرور .

يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث : ” من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ” ، ” معنى الحديث أنّ هذا جزاؤه ، وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه ، ولا يقطع عليه بدخول النار ، وهكذا سبيل لكلّ ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر ” .

وهذا الإجماع الذي قدمنا قد فصل القول وحكم بأنّ الآيات والأحاديث التي وردت بالإنذار من العقاب والوعيد على بعض الأعمال ليس الغرض منها بيان القطع بدخوله النار ، بل المقصود هو جزاؤه .

وهذا التأويل ينطبق على جميع الآيات والأحاديث القرآنية انطباقاً صحيحاً ، فإن قيل : إذا لم يدخل أحد النار بذنوبه فدلّ ذلك على أنه لا يضرّ بعد الإيمان معصية ، فلا داعي إلى الخوف ، ولقد صحّ في عقائد أهل السنة أنّ الإيمان بين الخوف والرجاء ، أي لا بدّ للمؤمن من وجود الخوف والرجاء ، قلنا : هذا ظنّ بيّن الخطأ من وجوه ، أحدها : قد سبق آنفاً أنه ليست النار هي الوحيدة الكفيلة بالعقاب ، بل هناك عقوبات وتعذيبات في عالم الدنيا وعالم القبر وعالم القيامة ، أفهل هذا قليل ؟ حتى يكون الإنسان على مأمن منه ولا يخاف ، فلو فرضنا أنه لا يعذب مؤمن في النار في جهنم ، فلم يرد في نصّ من النصوص أنه لا يمسه شيئ من العذاب في أي مكان ، فإذا أمكن الخوف في ساعة فتبين أنه لا بدّ من ظهور ضرر الذنوب فلا داعي إلى الأمن من الخوف ، والوجه الثاني : أنّ الأحاديث التي وردت بالوعد بالنجاة على الإقرار بالتوحيد والتصديق بالرسالة ، وردت بكلمة ” صدقاً من قلبه ” ، وكلمة ” من قال لا إله إلاّ الله مخلصاً ” ، ففكروا في هذه الكلمات ، فإنّ الإخلاص والصدق من القلب ليس سهلاً ميسوراً ، ثمّ إنّ لهذا التصديق مراتب ، فهناك تصديق لأولياء الله تعالى ، وتصديق آخر لعامة الناس ، وشتان بينهما ، ولا يمكن تعيين أيّ التصديقين أريد في ما سبق من الروايات ، وذلك يكفي لمؤمن أن لا يأمن مكر الشيطان وعذاب الله تعالى ، ولو نظرنا في الحديث الذي يشرح التصديق بالقلب بما يمنعك من السوء ، أي بلغ به إخلاصه في إيمانه مبلغاً يضطره إلى طاعة الله ورسوله والانتهاء عن المعاصي والسيئآت ، فلو اتصف المؤمن بهذه الكيفية يقوى بها خوفه من الله ، وهذه الزيادة إنما توجد في القسم الأول من الأحاديث ، وهي وإن ضعفها العلماء والمحدثون ، ولكن تكفي في الترهيب والترغيب ، ولا سيّما لأجل أنه لا يستلزم ضعف الإسناد ضعف معنى الحديث ، بل يحتمل صحة المعنى ، وكفى ذلك المؤمن خوفاً وخشيةً .

والوجه الثالث أنه جاء بعض الأحاديث بشرط ، وهو أن يموت على هذا التصديق ، وقد أكده العلماء إجماعاً إذا فلا يخلو قلب المؤمن من الخوف لحظةً ، لأنه لا يعلم هل يموت على هذا أم لا ، ولأجل هذا التمس الصحابة رضي الله عنهم من أصحابهم بحسن الخاتمة فضلاً عن الأولياء والمشايخ الربانيين ، والوجه الرابع أنّ الإنسان تعود على السيئآت وزال عن قلبه قبحها تجاسر على كلّ معصية وتجرأ على كلّ ذنب ، ولأجل ذلك يخشى عليه زوال الإيمان ، لأنّ النور والظلمة لا يجتمعان .

الأمر الثالث : إذا كان التصديق بالقلب يكفي للنجاة ، فما الذي يدعو إلى الأعمال الصالحة وأحكام الشرع ، فاعلموا أنّ المطلوب من القيام بالأعمال والأحكام الشرعية – في ما يبدو – تحقيق غرضين مهمين : أولهما تزيين العالم هذا بالمدنية والحضارة والأخلاق الحسنة ، وذلك التزيين بحيث لا يضره شيئ في العالم الآخر الذي يأتي بعد هذا العالم ، فهذه الأحكام هي التي تسدّ أبواب المفاسد والفوضى وتمنع تسرب الفتن ونزولها ، وهي التي يتكفل العمل بها العيش بأمن وطمأنينة ، والعلم بها هو الذي يزكي النفوس ويهذب الأخلاق ، وظاهر التهذيب هذا لا يقتصر على المظاهر فحسب ، بل يزكي باطن الإنسان ويهذبه حتى لا يصدر منه إلاّ الخير من العمل والفكر إلاّ ما شذّ وندر .

والغرض الثاني هو الوصول إلى المراتب العالية في الحياة الدائمة في عالم الآخرة ، أي يكفي الإيمان للنجاة من عذاب واصب ، ولكنّ الراحة الأبدية لها درجات ومراتب ، يتطلب الوصول إليها الخيرات والحسنات والأعمال الصالحة ، فكلما ازداد عملاً بالخيرات ازداد تقدماً وارتقاءً إلى علياء الجنة ، وكلّ إنسان نظراً إلى خواطره وأخيلته وأهوائه يدرك مدى حاجة الإنسان إلى هذه الأحكام الشرعية ، ولم يكن هناك عقل من العقول الإنسانية يبين مثل هذه الأحكام التي يتضمن العمل بها طمأنينةً أبديةً في عالم الآخرة .

  • مؤسس ندوة العلماء ورئيسها الأول .

* استاوان ، بهار شريف ، الهند .