حارس الإسلام ورائد المسلمين

المدارس الدينية لها دور رئيس في نهضة المسلمين
نوفمبر 19, 2023
لا رُزْء أعظمُ في الأقوام نَعْلَمُه
نوفمبر 19, 2023
المدارس الدينية لها دور رئيس في نهضة المسلمين
نوفمبر 19, 2023
لا رُزْء أعظمُ في الأقوام نَعْلَمُه
نوفمبر 19, 2023

شخصية مثالية فقدناها :

حارس الإسلام ورائد المسلمين

بقلم : الأستاذ محمد عبد الحي الندوي *

كان اليوم يوماً مظلماً ، رغم أضواء شهر رمضان المعظم ، وأنوار إحياء لياليه بالقيام وقراءة كتاب الله تعالى ، كاد قلبي يتوقف من شدة   الخفقان ، وأوشكت دماء جسدي أن تجف ، وصرتُ كأن طوفاناً يهز أعضائي كلها دون استثناء هزاً عنيفاً ، وكأن جارفاً يقلب كياني رأساً على عقب ، عندما أنهي إلي الخبر الذي كان وقعه على مسمعي كالصاعقة المدوية .

كان أخي العزيز والصديق الغالي الدكتور الفاضل محمد أكرم الندوي قد أخبرني منذ فترة أنه سينزل في قطر في هذا الشهر الفضيل ، وقررنا أن يزورني في اليوم التالي من وصوله أي يوم ١٣ من أبريل 2023م المصادف ٢٢ من شهر رمضان المبارك 1444هـ ، وكنت متحمساً مع أبناء الجالية الندوية في قطر لاستقباله والترحيب به ترحيباً حاراً ، ونظمت مأدبة إفطار في بيتي المتواضع وعزمت مع عدد من زملائنا على احتفال بهذه المناسبة الكريمة ، ولكن أمر الله كان قدراً مقدوراً ، فإذا بحفلة الأحباء المزعومة تحولت إلى سرادق عزاء بعد صدمة سماعنا نبأ وفاة مربينا الأجل وأستاذنا المشفق سماحة العلامة مرشد الأمة السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى ، إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وغلبنا شعور اليتامى ، وكأننا كلنا فقدنا آباءنا في هذا اليوم .

لم تكن الخسارة يسيرةً ، ولا الصدمة خفيفةً ، إنها ليست خسارة    دار العلوم لندوة العلماء فحسب ، ولا صدمة الأمة الهندية وحدها ، بل هي خسارة الأمة الإسلامية كلها على اختلاف شعوبها وتباعد ديارها ، لا أتذكر جيداً كيف مضت تلك الليلة ، ولكنها كانت حافلةً بذكر أبينا الروحي ومربينا الفاضل والدعاء له ، عسى أن يرفعه الله إلى أعلى درجاته في الجنة ويلحقه بالصالحين .

كان سماحة العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي أستاذاً مشفقاً ، وعالماً جليلاً ، وأديباً كبيراً ، وكاتباً قديراً ، ومفكراً ألمعياً ، ومربياً رفيقاً ، وإنساناً حليماً ، وكان حارساً للإسلام والعربية في شبه القارة الهندية ، نهل من معين العلم ، وروي من مورد الأدب ، واضطلع من الفنون والصناعات ، وحرص على الحفاظ على معالم الدين الإسلامي في شتى تحركاته وصولاته وجولاته في كافة أصقاع العالم .

تعلمت منه الكثير ، وأخذت منه الأدب والسلوك ، وكان قدوةً لي في كل شيئ ، في أقواله وأفعاله ، وحكمه وأحكامه ، وجهراته وهمساته ، وشكره وصبره ، وسماحته وحلمه ، كان من أكبر علماء هذا العصر ، وإني أعتز بأني تلمذت عليه وصحبته ، وجلست إليه وحضرته في خلواته وجلواته ، وكانت علاقتي الشخصية معه مميزةً ، وكان يشرفني برسائله وكتبه إلي بصفة مستمرة ، ويحثني على التمسك بالدين وعدم التغافل عنه في مشاغل الحياة ، وكان يوجهني إلى الأعمال العلمية .

كنت أزوره في الهند مرةً كل سنة تقريباً ما عدا فترة جائحة كورونا ، ولم تتغير علاقتي به طيلة هذه الفترة التي تمتد أكثر من 40 سنة ، بل تطورت على مر الزمان حسناً ، وازددت إليه قرباً ، واتبعت منهجه الصالح واقتفيت أثره العلمي كما كان ينصحني دائماً .

ومما استفدت منه التواضع الذي امتاز به بين أقرانه ، والتحمل الذي لم يدانه فيه أحد ، لم أر أحداً مثله في التواضع ، كان يتجلى تواضعه في ملبسه ومأكله ، ومسكنه وهيئته ، وفي تعامله مع الناس بل وزملائه وطلابه ، فبالرغم من مكانته العلمية والاجتماعية إلا أنه كان يعامل الجميع بكامل الاحترام وتام المودة ، واشتهر بدماثة أخلاقه وبشاشته التي لا تفارق محياه .

عُرف سماحة العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي بحكمته السياسية ورصانة عقله المرصع بالعلم والفكر ، وهو ما جعلني أتعلم من بصيرته السياسية ، خاصةً في ظل ما يواجهه المسلمون في الهند من مصاعب ومشاكل ، بل وأخطار تهدد وجودهم ، فما كان يستعجل في ردة الأفعال مهما كبر الموقف ، وكثيراً ما كان يختار السكوت والتريث ، ويتبين لاحقاً أن سكوته وعدم الانفعال مرده الهدوء لتجنب الاستعجال في تقدير المواقف .

كان يفيض بالعلم ، علا على الناس بفضله ودنا إليهم بخلقه ، وعاش زاهداً في دنياه ، وكرَّس حياته وسخر وقته خدمةً للإسلام والمسلمين ، مدافعاً عن الحق ، نابذاً للباطل ، يُعلي صوت العقل والحق ، ويسعى لما فيه خير للإسلام والمسلمين ، وكان رجلاً صالحاً يبتغي الخير لنفسه وللجميع ، وستظل كلماته راسخةً في عقلي ما حييت ، وستكون مآثره بصيرةً لطريقي ما عشت .

اللهم اكتبه عندك من الصّديقين والصالحين والمعتوقين من النار ، ونقّه من الذنوب والخطايا ، كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس ، وأنزله جنان الفردوس ، برحمتك يا أرحم الراحمين .


* الدوحة ، دولة قطر .