قراءة في كتاب : ” سراجاً منيراً ” ( سيرة خاتم النبيين )

المجتمع الإسلامي : حدوده وآدابه في ضوء سورة الحجرات
نوفمبر 19, 2023
كتاب ” معلم الإنشاء ( الجزء الثالث ) ” : دراسة عامة
نوفمبر 19, 2023
المجتمع الإسلامي : حدوده وآدابه في ضوء سورة الحجرات
نوفمبر 19, 2023
كتاب ” معلم الإنشاء ( الجزء الثالث ) ” : دراسة عامة
نوفمبر 19, 2023

قراءة في كتاب : ” سراجاً منيراً ” ( سيرة خاتم النبيين ) ¨

الأستاذ عبد الرشيد الندوي *

إن سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى كان يتميز بكثير من الأخلاق العظيمة ، ويتحلى بمحاسن السجايا وكريم الشمائل ، لقد كان فريداً في سمته وهديه وخلقه ، وكان ألبس الوقار والرزانة ، وكُسِي الروعة والبهاء والبشاشة ، لا يلقى الناس إلا متهللاً هشاً بشاً ، لا يعبس في وجه أحد ، ولا يقطب جبينه مهما كان زائره قد سبب له الأذى والتألم .

ولو ذهبنا نلتمس ونبحث عن مصدر هذه الأخلاق الطيبة والخلال السمحة الكريمة التي اجتمعت في شخصيته لقلنا : إن سماحة الشيخ قد استقى من نبع الأخلاق الصافي ، وتضلع من منهل المحاسن والمكارم الأصيل ، ألا وهو سيرة رسول الله محمد بن عبد الله الأغر الأزهر الزكي الميمون صلوات الله وسلامه عليه .

فقد كانت السيرة النبوية العطرة الفائحة هوايته الأثيرة المفضلة ، وكان حب النبي صلى الله عليه وسلم قد رسخ في قلبه ، وخالط منه اللحم والدم ، وجرى في عروقه وشرايينه ، وطالما كنا نستمع إليه وهو يتحدث في مجالسه ودروسه عن رسول الله وحبيب الله صلى الله عليه وسلم بغاية من اللذة والشوق والحنان ، ويعتبر سيرته الطيبة منبع الفضائل والمحاسن ومصدر المكارم والمزايا ، ومشكاة النور والضياء وأساس الإيمان واليقين ، وأصل الفلاح والسعادة .

إن حبه للسنة والسيرة وكل ما يمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المتغلغل في أحشائه ، المستقر في شغاف قلبه ، الواصل إلى قرارة فؤاده وأعماق روحه هو الذي حدا به إلى تأليف كتاب عظيم قيم في موضوع السيرة احتلّ المكانة المرموقة وحظي بالقبول وحسن التلقي ، كما يقول الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي في كلمة الناشر :

” نال قبولاً واسعاً في الأوساط العلمية والدينية في شبه القارة الهندية ، ثم نُقل هذا الكتاب إلى اللغة الهندية لغة الهند الرسمية ليقف الناطقون بها ويبلغ عددهم أكثر من مليار على سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقُوبل بترحيب حار لأسلوب مؤلفه السهل العذب المقنع وإبرازه لجوانب إنسانية وخلقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرضه الرسول الأعظم كمنقذ للإنسانية التائهة في متاهات الضلالة والغواية ، وكمعيد للإنسان الخائف المذعور المثخن بالجروح ، أمنه المفقود وتقديمه لنماذج لائقة من تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم لجنوده بشأن جثث القتلى وأوامره صلى الله عليه وسلم لقواته برعاية الأرامل والأيتام وعدم التعرض للشيوخ والنساء والأطفال وعدم إحراق الأشجار والزروع وعدم استهداف المدنيين الأبرياء العُزل خلال اندلاع نيران الحرب ، فأحله كثير من المثقفين الهندوس المحل الأرفع ، وأقبلوا عليه وأبدوا إعجابهم له واعترفوا بأن هذا الكتاب يُزيل سوء التفاهم الذي يغشى المجتمع الهندوكي عن رسول المسلمين صلى الله عليه وسلم ” .

ولا شك أن الأعمال التي تصدر عن الإيمان واليقين والإخلاص والتجرد ، وتنبع من القلوب المؤمنة العارفة المفعمة بعواطف الصدق والوفاء ومشاعر الحب والحنان تكتسب القبول والحُظوة والتأثير ، وتنال الخلود والبقاء والازدهار وتحظى بالقيمة والأهمية والشرف والرفعة عند الله وعند الناس ، وأما الأعمال التي لا يمدها صدق العاطفة وعمق الشعور والإخلاص والصفاء والوفاء ، فإنها تضمحل وتتلاشى ولا تحمل الأهمية ولا التأثير ولا تجدر بالخلود والبقاء ولا تسترعي القلوب والنفوس ، ولا تستلفت الأنظار والأسماع ولا تحرِّك سواكن القلوب ولا تحيي موات النفوس ولا تثير الكامن من الأشواق ، وإنما تكون ألفاظاً خرجت من اللسان فبقيت على الآذان ولم تجد سبيلاً إلى الأفئدة والعقول والأذهان أو تكون سواداً على بياض وحبراً على ورق فحسب ، وإن شئت على ذلك مثالاً فخذ الموطأ للإمام مالك رحمه الله فقد جاء في ” ترتيب المدارك وتقريب المسالك ” للقاضي عياض رحمه الله 2/76 :

” أول من عمل الموطأ عبد العزيز بن الماجشون عمله كلاماً بغير حديث ، فلما رآه مالك قال : ما أحسن ما عمل ، ولو كنت أنا لبدأت بالآثار ، ثم شددت ذلك بالكلام ، ثم عزم على تصنيف الموطأ فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت ، فقيل لمالك ؛ شغلت نفسك بهذا الكتاب وقد شاركك فيه الناس وعملوا أمثاله فقال : ائتوني بها ، فنظر فيها ثم نبذها وقال : لتعلمن ما أريد به وجه الله تعالى ” .

فيمكننا القول بأن جل الأعمال التصنيفية الخالدة النافعة المؤثرة المباركة المتلقاة في الأمة بحسن القبول ، المحمودة بطيب الثناء وجميل الذكر ، المكسوة ثوب الخلود والبقاء ، إنما اكتسبت قوتها وتأثيرها ورواءها واستحقت البقاء والثناء والحلول من القلوب والنفوس ، والتفوق والمزية والشرف على أخواتها ومثيلاتها ، لما أنها انبعثت من القلوب المؤمنة الحية والضمائر الطيبة الصادقة ، والأقلام الممدّة بمداد الإيمان والإخلاص والحب والحنان والصدق والعرفان والاحتساب واليقين .

يقول المؤلف الكريم وهو يذكر الباعث على تأليف هذا الكتاب : ” ثم شرح الله صدري ، لأن أنال سعادة خدمة الموضوع الحامل للقداسة والمحبوبية ، وإن بذل الوقت وتحريك القائم في هذا الموضوع المقدس لا يخلو من بركة وسعادة ، وإن كان بدون جدارة وصلاحية ، فجمعت همتي ، وعزمت على الكتابة في موضوع السيرة النبوية ” . ( مقدمة الكتاب )

إن مؤلف كتاب ” سراجاً منيراً ” يتوخى إثارة الجوانب المشرقة في السيرة النبوية ، جوانب الخلق العظيم والبر العميم والسلوك القويم في حياة رسول صادق أمين رؤوف رحيم ، ويركز على بيان تعاليمه وتوجيهاته الكريمة في باب الأخلاق ومكارم الشيم وحسن التعامل مع الناس ، لكي يستجلي الدارسون محيا السيرة النبوية الجميل النقي الصافي ويستنشقوا ريا هذه الحياة الطاهرة الزكية النيرة العبقة التي هي أعطر وأطيب من المسك والعنبر ، ويتمتعوا من شميم الأخلاق المصطفوية والشمائل النبوية العنبرية ويستظلوا بظلال الدوحة المحمدية الوارفة الفيحاء ، اقرأ معي هذه القطعة من الكتاب ، وحاول أن تستشف ما وراءها من الروح الصافية اللطيفة والعاطفة الصادقة الرقيقة :

” وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى دعوة أهل مكة إلى إصلاح العقائد يدعوهم إلى مكارم الأخلاق والفضائل الإنسانية ويركز على اختيار الصفات النبيلة والاتصاف بكريم السجايا والشيم من المؤاساة والمؤازرة والتضامن والتعاون والأخوة والمحبة والامتناع عن إيذاء الآخر وتجنب سائر الأعمال التي تسبب الفساد والتحارب والصراع والدمار ، والرحمة والعطف على الناس والسلوك الحسن والعفو والصفح والصبر والحلم والأناة والتحمل ، ويقول : ” الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ” .

ويقول بعد قليل : ” وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً عالياً للصبر وتحمل الأذى ومؤاساة الإنسان وطلب الخير له والحلم والأناة ، والحكمة والاستقامة وكل من قبل الإسلام واتبعه تحلى بهذه الصفات العظيمة وائتسى بأسوة نبيه ” ( ص : 157 – 161 ) .

ويقول وهو يذكر الإذن من الله بالقتال في المدينة المنورة : ” فأذن لهم حينئذ بالقتال واستخدام القوة والرد على الشدة بالشدة للحفاظ على أنفسهم ورد حملات الأعداء ، فلا حاجة بهم إلى الصبر على أذاهم : أذن للذين يقاتلون الآية .

فبناءاً على هذا الإذن بدأ المسلمون يختارون وسائل للدفاع عن أنفسهم وأقوالهم حسب الحاجة ، ولكنهم أمروا بالإضافة إلى ذلك بأن يجتنبوا من الإجراءات بدون حاجة إليها ، ويراعوا القيم الإنسانية وأن لا يقتلوا النساء والأطفال وأن يعاملوا الأسرى معاملة حسنة ، ويؤثروا الصلح بدل الحرب ، والعمل لخير الإنسانية وسعادتها ، فلم تزل تبوء محاولات الأعداء ، ومخططاتهم بالفشل والخيبة وتنتصر الدعوة الإسلامية وتحصل الفتوحات حتى ألقى الإسلام بجرانه في الجزيرة العربية كلها .

ودخل العرب في الإسلام قبل وفاته ، وقبلوا تعاليم الرسول ، وخضعوا له ، حتى دان له كبار الرؤساء في مكة الذين لم يقصروا في إيذائه ؛ بل القضاء البات عليه ” ( ص : 244 ) .

يشتمل الكتاب على عشرة أبواب :

الباب الأول : تمهيد ، وفيه تاريخ الأنبياء من أبي البشر إلى خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

الباب الثاني : في تصوير الوضع القاتم الحالك عند بعثته صلى الله عليه وسلم .

الباب الثالث : فيه بيان نسبه الزكي وأحواله من الولادة إلى البعثة .

والباب الرابع : يحتوي على بدء الوحي إليه ، ثم دعوته إلى التوحيد وتحمل الأذى في سبيل ذلك وإسلام الرعيل الأول من الصحابة حتى ذهابه إلى الطائف .

والباب الخامس : يبدأ من حادث الإسراء والمعراج ، وينتهي بهجرة المصطفى إلى المدينة .

والباب السادس : في إقامة النظام الإسلامي في المدينة المنورة ، فيه تفصيل الغزوات وفتح مكة وقدوم الوفود والإقبال العام على الإسلام .

والباب السابع : في حجة الوداع .

والباب الثامن : في مرضه ووفاته وأزواجه وأولاده صلى الله عليه وسلم .

والباب التاسع : في الأخلاق والشمائل .

والباب العاشر : في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويشكل باب الأخلاق والشمائل الجزء المهم من الكتاب ، ويحل محل الواسطة من العقد أو البيت من القصيدة ، وقد أطال المؤلف رحمه الله تعالى فيه النفس وأرسل لقلمه العنان ، وأذن لعواطفه وأشواقه أن تظهر وتبرز وتتجلى ، وأذن لي أن أنقل لك قطعةً صغيرةً رائعةً يقول :

” إن الإخلاص والصفاء والشرف والسمو وعلو الهمة والعزم والإرادة القويمة والصبر والجلد والاستقامة والثبات والسلوك الحسن والمؤاساة والخلق الرفيع هي الخصائص التي تضطر كل من يستمع إلى كلامه مترفعاً عن التعصب وبعيداً عن العناد إلى الإيمان به . ( ص : 414 ) .

ومن أغلى وأروع وأفضل ما استنتج المؤلف العظيم من أحداث السيرة المختلفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت حياته متسمةً بناحيتين مشرقتين : ناحية الإنسانية المعتدلة الكاملة ، وناحية النبوة الصادقة العادلة الخاتمة الشاملة ، وتتجلى كلتا الناحيتين في جميع الحوادث والوقائع جنباً إلى جنب ، ومَثل ذلك بموت ابنه إبراهيم وابن بنته زينب فقال صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه : إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ، وقال عند موت ابن بنته لزينب بنته : ” إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيئ عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب ، فلما رأى صلى الله عليه وسلم الصبي وهو يجود بروحه ويلفظ نفسه الأخير فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن بكاءه ودموعه ورحمته ورثاءه ورقة قلبه تدل دلالةً بينةً على كمال بشريته وعاطفة إنسانيته ورضائه بما يرضى الله واستسلامه لقضاء الله ، وصبره على قدر الله ووصيته بالصبر والرضا بالقضاء والاستسلام والانقياد لله آية على صدق نبوته وكمال رسالته وبلوغه المنزلة العليا في العبدية والطاعة لله تعالى صلى الله عليه وسلم .

وعلى كل فإن أسلوب المؤلف في الكتاب يتسم بالسهولة والعذوبة والرونق وحلاوة اللفظ ورشاقة المعنى ، وبصدق العاطفة وتدفق المشاعر مع تحكيم العقل والمنطق وحسن الترتيب وجمال السياق وروعة العرض ، ودقة الاستنتاج وبراعة الاستدلال ، وتتجلى فيه خصائص الرزانة والرصانة والفصاحة والتوازن والهدوء والقصد ، والجمع بين عاطفة القلب ومنطق العقل والدليل ، والمزج بين الإيمان والشوق والحنان ، وبين العلم والتحقيق والبرهان كما هو الشأن في جميع كتابات المؤلف رحمه الله رحمةً واسعةً ورفع درجته في عليين .


¨ كان الكتاب في الأصل باللغة الأردية ، قام بتعريبه الأخ الأستاذ محمد وثيق الندوي محاضر في كلية اللغة العربية وآدابها بدار العلوم لندوة العلماء ومدير التحرير لصحيفة        ” الرائد ” الصادرة من ندوة العلماء ، لكناؤ ( الهند ) .

* دار العلوم لندوة العلماء لكناؤ ( الهند ) .