مثالان للغيرة الإيمانية من تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً

البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور المجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون )
نوفمبر 2, 2021
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور التغابن والطلاق والتحريم )
ديسمبر 4, 2021
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور المجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون )
نوفمبر 2, 2021
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور التغابن والطلاق والتحريم )
ديسمبر 4, 2021

التوجيه الإسلامي :

مثالان للغيرة الإيمانية

من تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً

للعلامة الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى

سجل قلم التاريخ بإعجاب وإكبار – بعد الحديث عن الفتح المبين الذي حصل في وقعة حطين – القصة التي تدل على قوة إيمان السلطان صلاح الدين ، وغيرته الدينية المتأججة ، فلندع المؤرخ الإنجليزي يتحفنا بحكاية هذه القصة ، التي تشعل مجامر القلوب ، وتشحنها بالإيمان ، واليقين ، وتثير كامن الغيرة في نفوس المسلمين :

” أمر السلطان صلاح الدين فضربت خيمته في ميدان القتال ، واستحضر الأسرى ، فجيئ بالملك ” كائي ” و ” ريجي نالد ” ، و ” جاتيلان ” صاحب ” جنين ” كليهما ، فأجلس السلطان الملك بجانبه ، ولما رآه في أشد حال من العطش قدم إليه قدحاً من الماء المثلج فشرب منه الملك ، وناول بعضه ” ريجي نالد ” ” حاكم كرك ” فكره السلطان ذلك ، وقال للترجمان : قل للملك : أنت الذي سقيته ، وأما أنا فما سقيته ، وإنا إذا قدَّمنا إلى أحد رغيفاً ، أو ملحاً أمن بذلك ، ولن يفلت هذا الرجل من غضبي ونقمتي ، ثم لم يلبث أن قام إلى ” ريجي نالد ” الذي كان لم يزل واقفاً على رجليه منذ دخل الخيمة ، فقال له السلطان : ألا إني نذرت قتلك مرتين : مرةً حينما كنت أردت الزحف على الحرمين الشريفين ، وأخرى حينما هجمت على قافلة الحجاج ، وغدرت بهم ، وها أنا ذا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم على غدرك ، واستخفافك بالمقدسات : قال ذلك وسل سيفه ، وضرب عنق ” ريجي نالد ” بيده وفاءً لنذره [1] وقضى الحرس على ما بقي فيه من رمق ، ولما رأی الملك ” كائي ” عاقبة صاحبه المريعة ؛ فزع ، واستشعر الخوف ، ولم يشك أنه سيثني به ، فطيَّب السلطان نفسه ، وقال : ليس من عادة الملوك أن يقتلوا الملوك ، وأما هذا فإنه نقض العهد مرةً بعد مرة ، فجرى ما جرى [2] .

ويقول ابن شداد : ” واستحضر البرنس ” أرناط ” وأوقفه على ما قال : وقال له : ها أنا أنتصر لمحمد عليه الصلاة والسلام ، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل [3] .

لقد عرف عن الماجنين المستهترين السكارى في بلادنا – شبه القارة الهندية – أنهم في سكرهم ، وثورتهم لا ينسون التأدب مع مقام الرسالة ، فإذا تناوله أحد الأشقياء بإساءة ، أو إهانة ؛ قامت قيامتهم ، وثارت ثائرتهم ، وإلى القارئ الكريم قصةً رواها صحافي معروف عن شاعر كبير في شبه القارة الهندية ، كان في طليعة شعراء الهوى  والشباب ، ومن المدمنين للخمر والشراب وهو الشاعر ” أختر شيراني ” الذي توفي قبل سنوات ، يقول الأستاذ شورس الكشميري في صحيفته السيارة Chatan ” جتان ” الصادرة في لاهور الباكستان :

” اجتمع فريق من الشباب والشعراء في فندق ( العرب ) في لاهور مرةً . وكان في الجماعة شباب شيوعيون في غاية من الذكاء ، وسلاطة اللسان . وتجاذبوا مع الأستاذ ( أختر الشيراني ) أطراف الحديث ، وصاروا يتناقشون معه في موضوعات شتى ، وكان الأستاذ الشيراني قد شرب كأسين من الخمر ، وقد فقد رشده ، وملكته نشوة الخمر ، وأخذته رعشة في الجسم ، وكان يتكلم كلاماً متقطعاً غير متزن ، وكان معروفاً بالإعجاب الشديد بنفسه ، والتيه بها ، وكان لا يعترف بغيره من الشعراء ، ولست أذكر اليوم جيداً الموضوع الذي كان يدور البحث    فيه ، ولكني أذكر : أنه قال : قد ظهر في المسلمين ثلاثة نوابغ   عبقربين ، أولهم : أبو الفضل [4] والثاني : أسد الله خان غالب [5] والثالث : أبو الكلام آزاد [6] ، أما الشعراء المعاصرون فكان لا يعترف لأحد منهم بالمساواة أو المجاراة ، وقد سأله الشباب الشيوعيون عن الشاعر الكبير   ” فيض أحمد فيض ” فأعرض عن الجواب ، وسألوه عن ” شبير حسن جوش ” الشاعر المعروف ، فقال : ليس بشاعر ، إنما هو ناظم ، وهكذا كان موقفه من جميع الشعراء المعاصرين ، استخفاف ، أو إعراض ، أو تبسم ، أو تنكيت ، ولما رأى الشباب أنه لا يعترف بقيمة حركة الأدب التقدمي ، لجأوا إلى موضوع آخر لعله يثيره ، أو يحرك منه ساكناً ، فقالوا : يا سيدي ! ماذا تقول عن النبي الفلاني ؟ وكانت عيناه   محمرتين ، وأخذت الخمر فيه كل مأخذ ، وكان لا يملك لسانه ولكنه أفاق ، وقال : ما هذا الهراء ؟ لا تتحدثوا إلا عن الأدب وعن الإنشاء والشعر والشعراء ، فعطف عنان الكلام إلى أفلاطون ، وقال : ما رأيك عن مكالماته ؟ وسألوه عن أرسطو ، وسقراط ، وكان نشيطاً للكلام فقال : أمة قد خلت ، حدثونا عن شخصياتنا ، وحاضرنا ، إن أولئك الفلاسفة لو كانوا في عصرنا لتتلمذوا علينا ، مالنا ولأولئك حتى ندلي برأينا فيهم ؟

وانتهز شاب ” شاطر ” من هؤلاء الشباب الشيوعيين فرصة نشاطه ومرحه ، فقال: وما رأيك عن سيدنا محمد ؟ وكأنما نزلت صاعقة ، وهبت عاصفة ، فلم يكد الشاب يتم جملته حتى تناول الشاعر السكران كأس الزجاج وضربها على رأسه قائلاً : يا قليل الأدب ! أنت توجه هذا السؤال الوقح إلى رجل مذنب معترف بشقائه ، ماذا تريد أن تسمع من فاسق ؟ وكان جسمه يرتعد ، وانفجر باكياً ، وأجهش بالبكاء ، وأقبل على الشاب الوقح يقول له في عنف ، وغضب : كيف سوَّلت لك نفسك يا خبيث ! أن تذكر هذا الاسم النزيه المقدس ؟ كيف تجاسرت على ذلك يا قليل الأدب ؟! يا قليل الحياء ! لقد كان لكلامك مجال واسع ، فلماذا دخلت في هذا الحمى المقدس ؟ تب إلى الله من هذا السؤال الوقح ، إنني أعرف خبث باطنكم جيداً ، وعُرف الشر في وجهه وكأنه يريد أن يفتك بالشاب ، ويسطو به .

أما الشاب فقد سُقط في يديه ، وغاب رشده ، ولم يكن يقدر أنه سيلقى هذه النتيجة الوخيمة ، وأنه يوقظ في الشاعر هذا الليث الثائر ، ويثير فيه هذه الشرارة الكامنة ، شرارة الإيمان ، والحنان ، وشرارة الحمية والغيرة ، فكان لا يعرفه إلا شاعر الهوى والشباب ، وشاعر الغزل والغرام ، وحاول أن يشغله عن هذا الحديث المثير ، وأن يهدئ فيه هذه الثائرة ، ولكنه لم ينجح ، ولم تهدأ ثائرة ( أختر ) فأمر بإخراجه من المجلس ، ثم قام بنفسه وبات طول الليل باكياً يقول : لقد بلغ هؤلاء الشباب الملحدون هذا الحد من الوقاحة والجراءة ، إنهم يريدون أن ينتزعوا منا آخر ما نعتز به ، ونعيش عليه من حب ، وولاء ، وإخلاص ، ووفاء ، إني رجل مذنب لا شك ، أعترف بذنبي ، ولكن هؤلاء يحاولون أن نخلع ربقة الإسلام ، ونخرج من حظيرة الإيمان ، لا والله لا نرضى بذلك !

ولكن – وأسفاه ! واويلاه ! – ما أبعد المسافة بين هذا الوفاء العجمي وبين هذه الحمية الهندية ، وبين هذه الغيرة الإيمانية الثائرة المضطرمة التي يمثلها شاعر لم يكن قط من أبناء العرب  ، ولم يتكلم مرةً بلغة العرب ، لقد نشأ بعيداً عن كل ذلك بعيداً عن البيئة الدينية ، والعلمية ، والأزهر الشريف ، عاش في مجالس الشرب ، ونوادي اللهو ، وأوساط الشعر والأدب ، وعرف بالاستهتار وخلع العذار ، والشعر الخليع كشعر عمر بن أبي ربيعة وأبي نواس ، وبشار بن برد .

[1] وأضاف إلى ذلك ابن شداد : ” أنه لما غدر بالقافلة ناشدوا الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين ، فقال : ” قولوا لمحمدكم يخلّصكم ” ، فلما بلغه رحمه الله ذلك عنه ، نذر : أنه متى أظفره الله به قتله بنفسه ” ص : 127 .

[2] السلطان صلاح الدين ، ص : 188 .

[3] النوادر السلطانية ، ص : 64 .

[4] من وزراء الإمبراطور ” أكبر ” وصاحب ” أكبر نامه ” المأثرة العلمية التي تعتبر من الكتب الخالدة في التاريخ ، والدستور ، وتخطيط البلاد .

[5] شاعر أردو ، يعتبر من أئمة الشعر الأردوي وصاحب مدرسة خاصة ، كان في القرن الثالث عشر الهجري .

[6] العالم الأديب المعروف ، رئيس المؤتمر الهندي الوطني الأسبق ، ووزير المعارف في الجمهورية الهندية سابقاً .