وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
مارس 15, 2023
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
يونيو 23, 2023
إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
مارس 15, 2023
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
يونيو 23, 2023

صور وأوضاع :

وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

محمد فرمان الندوي

لقد ارتحل ذلك الرجل العظيم ، الذي لمع اسمه في سماء العلم والأدب …… وفارقتنا تلك الشخصية المثالية التي ملأت الأوساط الأدبية والتاريخية بطرائفها ونتفها …… وودعنا ذلك المصباح المنير الذي أضاء المكتبة القرآنية والتاريخية بمؤلفاته القيمة …… وأفل ذلك النجم اللامع الذي أشرق بوجوده أفق التعليم التربية …… وغربت تلك الشمس المشرقة التي نورت العالم بأشعتها اللامعة ، وقد اختفى عن أعيننا شيخنا وأستاذنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي ( 1929 – 2023م ) الذي حكم قلوبنا ونفوسنا طول حياته بعلمه الغزير ، ودماثة خلقه الكريم ، ولا يزال حكمه الآسر بمجامع قلوبنا سائداً علينا بعد وفاته ، كأننا فقدنا بوفاته كل شيئ في الكون .

يا من يعز علينا أن نفارقهم  وجداننا كل شيئ بعدكم عدم

كنا كلما دهمنا أمر ، أو أصبنا بأمر غير عادي لجأنا إلى كنفه ، فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيم ، وأرشفنا ماءً زلالاً ، ألذ من المدامة للنديم ، فلا شك أنه كان رفيع الشأن ، وعالي المنزلة في حياته ، ونال لسان صدق بعد مماته ، وقد عاش حياةً مغبوطةً ، ونال عمراً طويلاً في أسرته بوجه أخص ( وخير الناس من طال عمره وحسن عمله ) ، ولم يكن له من المرض المرهق ما أنهكه وأضناه إلا الشيخوخة والهرم ، وكان سليماً ، معافىً من الأمراض العادية مثل مرض السكر وضغط الدم ، رغم كبر سنه وضعف عمره ، إذ فاجانأ نعي وفاته ، فهز كياننا ، وأظلم دنيانا ، لكن أمر الله كان قدراً مقدوراً ، وقد شاهدت مشاهد متعددةً للخواتيم ، لكن يا لحسن الخاتمة وحسن القبول عند الله تعالى ، فكان محمداً ومحموداً باسمه ومسماه :

علو في الحياة وفي الممات    لحق أنت إحدى المعجزات

خير خلف لخير سلف :

امتازت شخصية شيخنا – رحمه الله تعالى – بمزايا وخصائص ، يندر وجودها في أفراد قلائل من أهل العلم والعمل ، اشتهر شيخنا في الأوساط العلمية بإنسان كامل ، وعُرف بعالم كبير ، وأديب شهير ، وصحافي محنَّك ، ومرب للأجيال وصانع للرجال ، وكان قائداً للأمة ، ومرجعاً للخلائق ، يزدحم الناس عليه ، سواءً كان في مسقط رأسه أو كان في رحلة من رحلاته ، وينهلون من منهل علمه وتربيته ، وقد رزقه الله من حسن التعامل مع الناس ، فإنه يلقى الصديق والعدو بوجه طلق ، وقد تميز بين العلماء بحلمه وتواضعه ، وخلقه الرفيع ، فليس هناك فخفخة ولا استعلاء ، ولا زهو ولا نخوة ، ولا كبر ولا غرور ، وقد ورد عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رآه بديهةً هابه ، ومن خالطه معرفةً أحبه ، فوالله كان شيخنا نموذجاً لهذه الأسوة النبوية ، وقد بحث الباحثون ، والتمس الملتمسون بعد وفاة الإمام الشيخ السيد          أبي الحسن علي الحسني الندوي : من يقوم مقامه ؟ ومن يحتل منزلته ؟ فتم اختيار شيخنا رحمه الله بموافقة تامة ، وطواعية عامة ، فكان خير خلف لخير سلف ، ولن يخمل من كان هو سلفه بإذن الله تعالى .

رائد الأدباء والعلماء :

جمع شيخنا بين العلم والأدب ، فلم يكن أديباً محضاً ، ولا عالماً جافاً ، بل كان يوجد لديه من الحلاوة الأدبية ، والغزارة اللغوية ، كما يتفجر العلم والحكمة من جوانبه الأربعة ، إنه درس في دار العلوم لندوة العلماء ، وتتلمذ على الإمام الندوي ، والأديب الشاعر الشيخ محمد ناظم الندوي ، والشيخ حليم عطا السلوني ، والشيخ محمد إسحاق الندوي السنديلوي ، كما درس بنفسه كتب الأدباء المعاصرين أمثال أحمد أمين وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي ومصطفى المنفلوطي وعلي الطنطاوي وغيرهم ، وزار مباشرةً عام 1950م علماء المملكة العربية السعودية ، ثم تكررت هذه الزيارات في العالم الإسلامي ، فانتخب عضواً في كثير من الجمعيات والمؤسسات ، وكان أميناً عاماً لرابطة الأدب الإسلامي العالمية ثم رئيساً لها ، فجرت الزيارات واللقاءات بين المثقفين العقلانيين والأدباء المعاصرين ، وأضف إلى ذلك مؤلفاته حول العلم والأدب أمثال منثورات من أدب العرب ، وهو اختيار موفق أدبي لعدد من دراسات الأدباء الماضين ، ومختار الشعر العربي في جزئين ( من الجاهلي إلى العباسي ) ، وكفانا فخراً واعتزازاً أن مؤلفه الذائع الصيت ( الأدب العربي بين عرض   ونقد ) تتلمذ عليه آلاف من الطلاب ، وقاموا بتنمية ذوقهم الأدبي ، وما زالت ولا تزال هذه السلسلة الذهبية إلى ما شاء الله .

يحمل شيخنا رحمه الله في أدبه نقداً بناءً لا نقداً هداماً ، وكان نقده مساعداً على الفكر والتأمل ، وعوناً على الدراسة والتدبر ، وكان يقول : إن المعارف العقلية التي يحملها الإنسان تنقسم إلى علم وفن ، فالعلم هو الحساب والجبر والرياضة ، أما الفن فهو يؤثر في النفوس والقلوب ، إما بصورة الكلمات والعبارات أو في صورة الأشكال والتماثيل ، ومن هنا ينشأ الأدب ، وكان يقول : وكل أديب يحمل شخصيةً وموضوعيةً ، فأحياناً تغلب الموضوعية على كتابته ، وأحياناً تغلب الشخصية على عبارته ، وكان يقدر لمعرفة كل عبارة أو مقالة عناصر أربعة : وهي الفكرة والخيال والعاطفة والصورة اللفظية ، فباستعمال هذه العناصر يتكون أدب المعاني وأدب الألفاظ ، وقد جمع شيخنا بين أدب المعاني وأدب الألفاظ .

إبداع وابتكار :

تتميز الأعمال العلمية لشيخنا رحمه الله بالجدة والتنوع والابتكار ، فإنه ما خاض في غمار التصنيف والتأليف لينال شهرةً بين المؤلفين وأصحاب الدراسات الواسعة ، فإن مؤلفاته لا تعد في المآت ، لكن كل ما يوجد له من الكتب ألَّف لسد حاجة تعليمية وملء فراغ أدبي ، وقد كان مكلَّفاً من الكبار لإكمال هذه الأعمال العلمية يوجد فيها إبداع وابتكار ، وهاكم بعض الأمثلة :

(1) وقد سبق أنه ألَّف كتاب ( منثورات من أدب العرب ) ، فإن تأليفه كان لسد فجوة بين السلسلة الأدبية في المقررات الدراسية لندوة العلماء ، كان في جانب سلسلة قصص النبيين في خمسة أجزاء ، والقراءة الراشدة في ثلاثة أجزاء ، وفي جانب آخر مختارات من أدب العرب ، وكانت بين هاتين السلسلتين ثغرة أدبية ، فكلف مسئولو ندوة العلماء شيخنا رحمه الله لإعداد كتاب يملأ هذه الفجوة الأدبية ، فجاء كتاب منثورات من أدب العرب في أوانه وفي مكانه ، وأصبح قنطرةً بين السلسلتين : اللغوية والأدبية .

(2) إن المقررات الدراسية في الهند كانت حافلةً بكتب المنطق والفلسفة ، وذلك لشحذ الأذهان وصقل المواهب المخبوءة ودراسة الكتب القديمة كما يقول أصحابها ، لكن حينما تأسست ندوة العلماء ، فكان من غاياتها إصلاح المقررات الدراسية المنبثة في شبه القارة الهندية بوجه أخص ، قد اعتنت ندوة العلماء بالدراسات الجديدة ، فحذفت بعض مواد المنطق والفلسفة ، وأدخلت بدلاً عنها الموضوعات التي تشرح القرآن والحديث ، وتاريخية أمكنتهما ، وكان من هذه الموضوعات تاريخ جزيرة العرب ، فإذا لم يكن الطالب في شبه القارة الهندية مطلعاً على جغرافية جزيرة العرب ، ولا سيما مكة المكرمة والمدينة المنورة لا يستطيع أن يدرك مدى ارتباطه بالحرمين الشريفين ، ولا يمكنه أن يعرف معنى الحديث الذي ورد فيه : ولكن شرِّقوا وغرِّبوا ، رغم أن التشريق والتغريب في البول والبراز للهنود غير شرعي ، فدرس هذا الموضوع شيخنا رحمه الله تحت إشراف خاله العظيم الشيخ الطبيب السيد عبد العلي الحسني ( رئيس ندوة العلماء سابقاً ) دراسةً واعيةً ، وقد شهد عنه الإمام الندوي قائلاً : ” والحقيقة أني لا أعلم أحداً في هذه الفترة أكثر اطلاعاً منه على جغرافية جزيرة العرب والعالم الإسلامي ” . فألف شيخنا رحمه الله هذا الكتاب ، وطُبع عام 1962م من ندوة العلماء ، وأُدخل  في مقرراتها الدراسية ، ولا يزال يدرسه طلاب دار العلوم لندوة العلماء ، وقد نُقل إلى العربية ، فتوسع نطاقه بفضل الله تعالى .

(3) كان شيخنا رحمه الله يعتقد أن أصل العلوم هي الكتاب والسنة ، وإليهما يرجع الإنسان في حل معضلاته ، وفك عويصاته ، وقد أصيب المسلمون خاصةً ، والإنسانية عامةً بالانحطاط في مجالات مختلفة بنبذ تعاليم الكتاب والسنة وراءها ظهرياً ، وقد ظهر له جلياً قول الإمام مالك رحمه : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، فنظراً إلى هذه الحاجة الملحة ألف كتابين مهمين ، وهما الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية ، وهو التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ، يغطي أحد عشر باباً ، كما ألف كتاباً حول سيرة خاتم النبيين باسم : سراجاً منيراً ، وهو يحتوي على عشرة أبواب ، بهذين الكتابين ربط علاقة الإنسان ، ولا سيما الجيل المسلم بالكتاب والسنة ، وكان له في آخر عمره شغف زائد بالحديث ، بحيث يُقرأ عليه في مجلسه كتاب الشمائل للإمام الترمذي ، ورياض الصالحين للإمام النووي ، وتهذيب الأخلاق للعلامة السيد عبد الحي الحسني رحمهم الله جميعاً كما قدَّم للمؤلفات الحديثية .

(4) أدب الأطفال والشباب في الصحافة العربية لم يكن معروفاً في شبه القارة الهندية ، بل الواقع أن المعنيين باللغة العربية لم يلتفتوا إليه التفاتاً ما ، وكان جل اعتمادهم على أدب الصحافة في العالم العربي ، وقد طرق شيخنا رحمه الله هذا الموضوع ، وقام بتعريفه لدى الخاصة والعامة ، وقد أنشأ تحقيقاً لهذا الغرض صحيفة باسم الرائد ، وهي أول صحيفة تتناول موضوع أدب الصحافة العربية للناشئين في الهند على نطاق أوسع ، ومن فضل الله تعالى أن هذه الصحيفة لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في نشر أدب الأطفال باللغة العربية .

(5) موضوع التعليم والتربية من الموضوعات المهمة في إعداد وتنمية النشء الجديد ، وقد نال هذا الموضوع في القرن العشرين الميلادي أهميةً قصوى في جميع الأوساط ، فكانت الحاجة إلى أن تكون هناك لجان لتدريب الدعاة والمعلمين ، فسبقت ندوة العلماء في هذا المجال ، وأنشأت معهداً دعوياً وفكرياً للتدريب ، وأسند إلى شيخنا رحمه الله موضوع التعليم التربية في المجتمع الإنساني ، فأعد محاضرات وألقاها أمام المستمعين ، وهي محاضرات قيمة لبناء المجتمع الصالح على أسس سليمة وقواعد متينة ، وظلت هذه المحاضرات أساساً لفتح كثير من دور التعليم والتربية ، ومراكز العلم والعمل ، وطُبعت هذه المحاضرات بالعربية والأردية : باسم : مقالات في التربية والمجتمع .

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر :

لا شك أن شخصية شيخنا رحمه الله كانت شخصيةً مثاليةً ، وكانت قدوةً يُقتدى بها ، وأسوةً يتأسى بها ، وقد أجمع كل الطوائف والفرق من المسلمين وغير المسلمين على صلاحه وتقواه ، وزهده في الدنيا ، ودرايته للموضوعات وحله للمشكلات على أحسن صورة ، وقد قاد الأمة الهندية في هذه الآونة الأخيرة قيادةً رشيدةً بحلمه وصبره ، وتجربته الواسعة ، وحينما فقدنا وجوده الآن بوفاته ، فكأنه أنشد بلسان الشاعر :

سيذكرني قومي إذ جد جدهم   وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر