نظرة إجمالية في مقاصد سورة ( ق )

كيف نواجه تحديات الردة عن الإسلام
يونيو 3, 2022
التعليم والدعوة وتأثيرهما على المجتمع
يوليو 11, 2022
كيف نواجه تحديات الردة عن الإسلام
يونيو 3, 2022
التعليم والدعوة وتأثيرهما على المجتمع
يوليو 11, 2022

الدعوة الإسلامية :

نظرة إجمالية في مقاصد سورة ( ق )

الباحث حماد بن محمد يوسف [1]*

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد :

فإن الله عز وجل أنزل القرآن على عباده ، وأمرهم بالتمسك به ، وتفهمه ، وتدبره ، قال جلَّ في عُلاه : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ‌لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )  [ سورة ص : 29 ] ، وقد ذم الله عز وجل الذين أعرضوا عن كتابه فلا يتدبرونه ولا يتعظون به ، قال عزَّ مِن قائل : ( فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ ‌يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) [ سورة النساء : 78 ] . وقال تعالى : ( أَفَلَا ‌يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [ سورة محمد : 24 ] .

ولا يكون التدبر إلا بالوقوف على الغايات التي أرادها الله عز وجل في كتابه ، وهي التي تُسمى في اصطلاح العلماء بالمقاصد القرآنية ، إذ إنها أكبر مُعين على التدبر ، بل هي مفتاح التدبر ، يقول الإمام       أبو إسحاق الشاطبي – رحمه الله – ( ت 790هـ ) في تفسير الآية السابقة :     ” فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد ، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ؛ فلم يحصل منهم تدبر ” [2] .

وقد أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالتذكير بالقرآن ، فقال سبحانه : ( ‌فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) [ سورة ق : 45 ] ، ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الإكثارَ من موعظة الناس بالقرآن ، بل كان – صلوات ربي وسلامه عليه – يخطب الناس به ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت :    ” لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً ، سنتين أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يقرؤُها كلَّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب     الناس ” . رواه مسلم [3] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( ت 728هـ ) : ” قد تضمنت [ سورة ق ] من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام ؛ فيقرأ بها في خطبة الجمعة ، وفي صلاة العيد ، وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح ، وكل ذلك ثابت صحيح ” [4] .

ولا غرو ، فإن هذه السورة المكية قد عالجت قضيةً عقَديةً    مهمةً ، ألا وهي : ” قضية المكذبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من نبأ البعث والحساب ” [5] ، فهي ” سورة عظيمة رهيبة ، شديدة الوقْع بأسلوبها وحقائقها ، تأخذ بمجامع القلوب ، تهز النفوس هزّاً ، وتثير فيها الخوف من الله ، وتوقظها من الغفلة ” [6] .

فقد افتتحت السورة بالقسم بالقرآن الكريم ، تنويهاً بشأنه ، وبياناً لعظيم منزلته ورفعته على كل كلام ، وتنبيهاً لإعجازه ، وتصديقاً للرسول صلى الله عليه وسلم في ما جاء به من نبأ البعث والحساب ، قال تقدست أسماؤه : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) ) ، ثم شرعت السورة في عرض شبهة المشركين الساذجة ، حيث أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، متعلِّلين بأن كون الرسول بشراً ينافي الحكمة الربانية ، ( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) ) ، وكذلك كذّبوا بالبعث بعد الموت واستبعدوا وقوعه ، واستدلوا بعقولهم الفاسدة على أن بِلى الأجساد ، وتفرق أجزائها في مناحي الأرض ومهاب الرياح لا تُبقي أملاً في إمكان جمعها ، وأنكروا علم الله سبحانه بمواقع تلك الأجزاء ، وجحدوا قدرته على إعادة الأرواح لتلك الأجساد ، وتضمن ذلك إنكارَ حكمة الله في خلق الإنسان ، فقالوا : ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) ) .

فردّ الله عليهم سبحانه رداً موجزاً تضمن تقرير كمال علمه وقدرته سبحانه فذكر أنه ” قد علم ما تنقص الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم ، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء ، فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها وتأليفها خلقاً جديداً ” [7] ،( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) ) .

ثم بين الله تعالى أن المشركين التبس عليهم الأمر ، وذلك لاستعجالهم في التكذيب بالقرآن ، وعدم النظر والتأمل في أدلته . فقال تعالى : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) ) ، ” وهكذا كل من حاد عن الحق ، تتقاذفه الأهواء ، وتمزقه الحيرة ، وتقلقه الشكوك ” [8] .

ثم دعت  السورة إلى إعمال العقل الصحيح والتأمل في ” العالم العلوي وبنائه ، وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه ، ثم إلى العالم السفلي ، وهو الأرض ، وكيف بسطها الله عز وجل ، وهيأها بالبسط لما يُراد منها ، وثبّتها بالجبال ، وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته ” [9] ، فكل ذلك دال على كمال قدرته سبحانه ، وعلمه المحيط بكل شيئ ، وعلى عظيم حكمته ، وبالغ إتقانه لكل ما خلق ، ودقيق صنعه ، وغير ذلك من صفات الكمال . ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) ) ، فـ ” كلما كرر شهد المتفكر المتأمل آيات الله في الكون ، تعلم منها أشياءَ جديدةً ، وزادته معرفةً بحقائق عن خالقها ومبدعها ”  [10] ، وعلم يقيناً أنه ما خُلق عبثاً ، بل لأجل حكمة جليلة ، وغاية سامية ، وعلم أنه محاسب على أعماله ، وأنه لا بد من جزاء وحساب .

ثم استدل على وقوع البعث ، وإظهار تقريبه [11] ، بذكر ” أبهر الآيات وأَدَلهِّا عليه ، والتي تتجدد على مرور الدهر ” ، وهو المطر وما يكون بإنزاله من الإنبات وحصول الثمار والأقوات للآدميين والبهائم ، وإحياء الأرض بعد موتها .  فقال سبحانه ممتناً على عباده : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ     نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) ) .

ثم انتقل الكلام بعد ذكر آيات الله في الأكوان والآفاق إلى ذكر آياته في الأنفس من المكذبين للرسل من الأمم السابقة ، فقرر       ” النبوة بأحسن تقرير ، وأوجزِ لفظ ، وأبعدِه عن كل شبهة وشك ؛ فأخبر سبحانه أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون رسلاً فكذبوهم ، فأهلكهم بأنواع الهلاك ، وصدّق فيهم وعيدَه الذي أوعدتهم به رسلُه إن لم يؤمنوا ، وهذا تقريرٌ لنبوتهم ولنبوة من أخبر بذلك عنهم من غير أن يتعلم ذلك من معلم ولا قرأه في كتاب ، بل أخبر به إخباراً مفصلاً مطابقاً لما عند أهل الكتاب ” [12] . قال تعالى : ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) ) .

ثم استدل سبحانه بقدرته سبحانه ” على الخلق الأول ، على قدرته على إعادة الخلق وإحياء الموتى والبعث في القيامة الكبرى ” [13] . ” لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من البدء ” [14] . قال جل في علاه : ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) ) .

ثم تستطرد السورة في بيان بعض تفاصيل الخلق الأول ، و ” التنبيه على أعظم آيات قدرة الله وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد ، وهو خلق الإنسان المركب من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات … ؛ كل ذلك من نطفة ماء ” [15] ، فتذكر الإنسان بخلق الله له ، وعلمه به ، وقربه منه ، وأنه سبحانه يعلم أحوالهم كلها دقَّها وجلَّها ، سرَّها وعلانيّتها : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) ) ، ثم تَلفِت الأنظارَ إلى رقابة الله عز وجل على خلقه : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) ) .

ثم تنتقل السورة إلى ذكر ” القيامة الصغرى ، وهي سكرة الموت ، وأنها تجيء بالحق ، وهو : لقاؤه سبحانه ، والقدوم عليه ، وعرض الروح عليه ، والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى ” [16] : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) ) .

ثم تأتي المشاهد المرعبة بأسلوب يرجُّ الأفئدة رجّاً ، حيث ينفخ الملك الموكل بالنفخ في الصور النفخةَ الثانيةَ ، وهي نفخة البعث ، فيخرج الناس من قبورهم ، ويرى المكذبون عياناً ما كانوا يجحدونه في الدنيا من الحساب والعذاب : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) ) .

ثم يستطرد السياق في عرض لَقطات من الموقف العصيب الرهيب في محاكمة المجرمين وبيان مصيرهم ، والأمر العام بإلقائهم في جهنم .    ( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) ) .

ثم تزداد رهبة الموقف وشدته ، فيتنصل الكافر من كفره وعناده بإلقاء تبعته على قرينه الذي كان يزين له الكفر ، فيتبرؤ قرينه أيضاً من تحمل تبعة كفر الإنسان : ( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ  بَعِيدٍ (٢٧) ) .

فيقول الله تعالى زاجراً المتخاصمين : ( قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) ) فيا له من هول شديد ، ورعب أكيد !!!

ليس هذا فحسب ، بل يكشف السياق عن جانب أشد وأعظم ، وهو ” ترويع المدفوعين إلى جهنم أن لا يطمعوا في أن كثرتهم يضيق بها سعة جهنم ، فيطمع بعضهم أن يكون ممن لا يوجد له مكان فيها ” [17] ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) ) .

ثم يأتي السياق بعرض صفحة أخرى ، ” تجذبُ أصحابَ القلوب الواعية والنفوسِ الطيبة ، وتحملها على السير في السبيل القويم ، وتبثّ الطمأنينة والغبطة والرضا فيها ” [18]، وتدعو المشركين إلى الإيمان ، واختيار التقوى ، وتركِ ما هم فيه من التكذيب والغفلة . ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) ) .

” ثم تختم السورة بتوكيد القضايا السابقة ، ولكن بأسلوب جديد ، ليكون أكثر وقعاً ، وأشد تركيزاً ” [19] فتذكر القلوب بمصارع الغابرين ، وأحوال المكذبين السابقين ، وتنذر المشركين بالعذاب الدنيوي قبل عذاب الآخرة : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) ) .

ثم تؤكد السورة على سعة القدرة الإلهية الدالة على إمكان البعث وتحقيق البعث ، وتكذِّب ” أعداءَ الله من اليهود حيث قالوا أنه استراح في اليوم السابع ” [20] ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) ) .

ثم يأمر الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم على الصبر ، ويرشده إلى ما يستعين به عليه من التسبيح والتحميد اللذين تشتمل عليهما الصلاة ، ويأمره بـ ” التأسي به سبحانه في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه ، كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود : إنه استراح ! ” ولا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعه منه ” [21][22] . يقول سبحانه : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) ) .

ثم يمضي السياق في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتذكيره صلى الله عليه وسلم بما يكون من أمر الآخرة من ” نداء المنادي برجوع الأرواح إلى أجسادها للحشر ” [23] والخروج من الأجداث ؛ لأن ازدياد اليقين بالآخرة وتجدُّدَه من أعظم ما يعين على الصبر ، فباليقين ينشرح الصدر ويستمدّ قوّةً معنويةً كبيرةً تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها :   ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) ) .

ثم تؤكد السورة على أن المحيي والمميت هو الله لا شريك له ، مع الاستدلال بذلك على البعث الذي هو الإحياء الأعظم ، والاستدلال بإمكان الحشر بعد تحقيق أمر البعث : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) ) .

ثم تُختَم السورةُ بالتأكيد على تقرير البعث والرسالة ، وبيان حقيقة الرسالة المحمدية والدعوة الإسلامية ، وأنها دعوة فكرٍ وإقناع ، وليست دعوةَ عنفٍ وإكراه : ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥) ) .

وتأتي خاتمة الختام : ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥) ) لتؤكد على أن التذكير والذكرى مداره على هذا القرآن ، ولتعلِّم العلماءَ والدعاةَ أن يكون محور دعوتهم مرتكِزاً على هذا القرآن العظيم ، وربط الناس به على كل الأحوال ، وفي كل مجال [24] . ولهذا خُتمت به السورة كما بُدئت به : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) ) .

وبالجملة ، فقد تناولت سورة ق الأصول الكبرى للعقيدة الإسلامية ، من الإيمان بالله ، وملائكته [ الآيات 17 – 18 ، 23 ] ، وكتبه [ 1 ، 45 ] ، ورسله [ 2 ، 14 ، 45 ] ، واليوم الآخر [ 20 – 35 ،41 – 44 ] ، والقدر [ 4 ] ، وإثبات صفاتِ الكمال لله وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب ، فقررت شمول علمه عز وجل [ 4 ، 16 – 18 ، 45 ] ، وشمول قدرته في خلق السماوات والأرض [ 6 – 11 ، 15 ، 38 ] ، وفي إهلاك المكذبين [ 12 – 14 ، 36 ] ،  كما صوّرت مشاهد القيامتين : الصغرى [ 19 ] والكبرى [ 20 – 35 ، 41 – 44 ] ، والعالمين : الأكبر ، وهو عالم الآخرة ؛ والأصغر ، وهو عالم الدنيا . وذكرت خلقَ الإنسان ووفاتَه وإعادتَه وحالَه عند وفاته ويومَ معاده ؛ لتعطي بذلك تصوراً شاملاً عن حياة الإنسان التي تبدأ من ولادته ، وتمرُّ بالموت ، ثم تنتهي بالبعث والحساب ، ثم المصير إلى الجنة أو النار . كما أن السورة كشفت عن أحوال أهل الباطل في الاستدلال بالعقل الفاسد ، وأسباب تكذيبهم بالحق [ 2 – 5 ] . وقررت مكانة العقل في الإسلام ، وأنه غير معارض للنقل الصحيح ، ودعت إلى إعماله للوصول إلى الحق ، من خلال التفكير في آيات الله الكونية [ 6 – 11 ] ، والاعتبار بمصارع المكذبين السابقين  [ 12 – 14 ، 36 ] . فكان في السورة أعظمُ تسليةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وتحذيرٌ شديدٌ لأعدائه المكذبين من سوء عاقبة الكفر .

فينبغي للعلماء والدعاة أن يعتنوا بهذه السورة ، سورةِ ق ، تلاوةً وتدبراً ، وأن يحيوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءتها في خطبة الجمعة ، وفي صلاة العيد ، وصلاة الفجر ، وأن لا يكتفوا بقراءة أجزاء منها ؛ لأن موافقة السُنة لا تحصل بالاجتزاء ، لأن قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم للسورة إنما كانت لما اشتملت عليه السورة من أهم مقاصد القرآن [25] .

والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم ، وأن يوفقنا لخدمة كتابه الكريم ، وأن يرزقنا فهمه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين [26] .

* كلية الشريعة ، بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة . البريد الشبكي : mdhammadyusuf1@gmail.com

[2] انظر : الموافقات ، للشاطبي ( 4/208 – 209 ) .

[3] رواه مسلم في الجمعة ( ح 873 : 52 ) ( 3/13 ) .

[4] درء تعارض العقل والنقل ، لابن تيمية ( 7/65 ) .

[5] انظر : مفاتيح الغيب للرازي ( 28/145 ) ، والتحرير والتنوير لابن عاشور ( 26/275 ) ، ومعارج التفكر للميداني ( 3/11 ) ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، للبقاعي           ( 18/396 ) .

[6] كوكبة الخطب المنيفة ، للسديس ( 1/51 ) .

[7] الفوائد لابن القيم ، ص 7 .

[8] كوكبة الخطب المنيفة ، للسديس ( 1/51 ) .

[9] الفوائد لابن القيم ، ص 9 .

[10] معارج التفكر للميداني ( 3/41 ) .

[11] انظر : التحرير والتنوير لابن عاشور ( 26/295 ) .

[12] الفوائد لابن القيم ، ص 10 .

[13] انظر : المستدرك على مجموع الفتاوى ( 1/89 ) ، والنبوات لابن تيمية ( 2/678 ) .

[14] أضواء البيان ، للشنقيطي ( 7/686 ) .

[15] انظر : الفوائد لابن القيم ، ص 12 .

[16] الفوائد لابن القيم ، ص 13 . وانظر : مجموع الفتاوى ( 4/265 ) .

[17] التحرير والتنوير لابن عاشور ( 26/317 ) .

[18] انظر : التفسير الحديث ( 2/241 ) ، بتصرف يسير .

[19] كوكبة الخطب المنيفة ، للسديس ( 1/53 ) .

[20] الفوائد لابن القيم ، ص 19 .

[21] هذا لفظ حديث ، أخرجه البخاري ( 6099 ) ، ومسلم ( 2804 ) عن أبي موسى الأشعري .

[22] الفوائد لابن القيم ، ص 19 ، وانظر : إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ، له ( 2/340 ) .

[23] الفوائد لابن القيم ، ص 20 .

[24] انظر : كوكبة الخطب المنيفة ، للسديس ( 1/57 – 58 ) .

[25] انظر : زاد المعاد لابن القيم ( 1/203 ط الرسالة ، 1/233 ط عطاءات العلم ) .

[26] يُنظر للاستزادة : ” المقاصد القرآنية في سورة (ق) ” . حماد بن محمد يوسف . مجلة تدبر : المدينة المنورة . العددالثامن ، رجب ١٤٤١هـ – مارس ٢٠٢٠م ، ص 23 – 85 .