ميزان الله عصمة من الضياع

الصراع بين الحق والباطل في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة ( الحلقة الأولى )
أغسطس 28, 2022
الصراع بين الحق والباطل في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة ( الحلقة الثانية )
سبتمبر 12, 2022
الصراع بين الحق والباطل في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة ( الحلقة الأولى )
أغسطس 28, 2022
الصراع بين الحق والباطل في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة ( الحلقة الثانية )
سبتمبر 12, 2022

التوجيه الإسلامي :

ميزان الله عصمة من الضياع

الشيخ الطاهر بدوي *

إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداةً من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان . هذا حق ، ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات ، متأثر بشتى المتأثرات ، ليس هناك ما يسمى ” العقل البشري ” كمدلول مطلق !

إنما هناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعلان في مكان ما ، وزمان ما . . . وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى ، تميل بها من هنا وتميل بها من هناك . . . فلابد إذاً من ميزات ثابتة ترجع إليها هذه العقول الكثيرة ، فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها ، ومدى الشطط والغلو ، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات ، وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان ، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان . . . الميزان الثابت ، الذي لا يميل مع الهوى ولا يتأثر بشتى المؤثرات .

ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين ، فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها ، فتختل جميع القيم مالم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم الصادر من رب العالمين الذي خلق الصنعة فأتقن صنعها ، ثم أعد لها منهج صيانتها وحمايتها ، فحرسها بالعين التي لا تنام وأكنفها بالكنف الذي لا يضام .

والله سبحانه وتعالى يضع هذا الميزان للبشر ، للأمانة والعدل ولسائر القيم ، وسائر الأحكام ، وسائر أوجه النشاط في كل حقل من حقول الحياة قال جل ذكره مخاطباً الذين انقادوا له مخيَّرين ، فاختاروه إلها لهم لينظم حياتهـم كما أراد هو ، لأنهم يعلمون علم اليقين أنه الإله الذي خلقهم والذي يحبهم والذي يعلم كيف يسعدون هنا في هذه الأرض بالخلافة التي أنيطوا بها وفي الآخرة دار النعيم المقيم ، يخاطبهم ويضع أسس أداء الأمانة إلى أهلها وكيفية إقامة العدل بين الناس ، يقول لهم تعالى : ” يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ  وَٱلرَّسُولِ  إِن كُنْتُمْ  تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ” . ( النساء : 59 ) .

وفي هذا النص البليغ يبين الله سبحانه شرط الإيمان وحدَّ الإسلام في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة وقاعدة الحكم ومصدر السلطان . . . وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده ، والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصّاً ، من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام . . . ليكون هنالك الميزان الثابت الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام .

إن ” الحاكمية ” لله وحده في حياة البشر ، ما جلَّ منها وما دقَّ وما كبر منها وما صغر . والله سبحانه قد سنَّ شريعة أودعها قرآنه ، وأرسل بها رسولاً عليه أزكى الصلاة والسلام ، يبينها للناس ، ولا ينطق عن الهوى ” إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ” ( النجم : 4 ) ، فسنته على أنواعها الثلاثة القولية والفعلية والسكوتية من ثم شريعة من شريعـة الله . . . وفي آية أخرى يؤكد تعالى هذا المفهوم بقوله : ” مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ”        ( النساء : 80 ) ، ” وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ” ( الحشر : 7 ) ، فالرسول الكريم هو المفوّض من قبل الله تعالى ليشرع لأمته ، على خلاف سائر الأنبياء والمرسلين الذين كلفوا فحسب بتبليغ الناس أوامر الله تعالى وتوجيهاته .

ولله واجب الطاعة ، ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة ، فشريعته واجبة التنفيذ . . . وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله ابتداء ، وأن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بما له من هذه الصفة ، صفة الرسالة من الله تعالى ، فطاعته إذن من طاعة الله الذي أرسله بهذه الشريعة وببيانهـا للناس في سنته ، وسنتُه وقضاؤه على هذا جزء من الشريعة فهو واجب النفاذ أيضاً . . . والإيمان يتعلق وجوداً وعدماً بهذه الطاعة وهذا التنفيذ بنص القرآن نفسِه : ” إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ” . فأما أولوا الأمر ، فالنص الكريم يعين من هم . . . فهم من المومنين ( منكم ) أي الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبيّن في الآيـة الكريمة ، من طاعـة الله وطاعة الرسـول وإفراد الله تعالى بالحاكميـة وحق التشريع للنـاس ابتداءً والتلقي منه وحده ، فيما نص عليه والرجوع إليه أيضاً فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء ، مما لم يرد فيه نص ، لتطبيق المبادئ العامة في النصوص عليه .

وإذا أمعنت النظر وتأملت جيداً في النص الكريم تجده يجعل طاعة الله وطاعة الرسول كلتيهما أصلاً ويجعل طاعة ” أولي الأمر  منكم ” ، تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله . . . فلا يكرر لفظ الطاعة   عند ذكرهم ، كما كررها عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله بعد أن قرر أنهم        ” منكم ” بقيـد الإيمان وشرطه ، فولي الأمر لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ، فعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحكم في رعيته شريعة الله ورسوله وإذا اجتهد فيما ليس فيه نص صـريح فطبقاً لمبادئ  الشرع الحنيف . . . فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه .

وطاعة أولي الأمر ” منكم ” بعد هذه التقريرات كلها ، في حدود المعروف المشروع من الله تعالى والذي لم يرد نصٌّ بحرمته ، ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شريعته السمحة عند الاختلاف فيه ، والسنة تقرر حدود هذه الطاعة على وجه الجزم واليقين : لقد ورد في الصحيحين من حديث الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إنما الطاعة في المعروف ” . وفيهما أيضاً من حديث يحي القطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” السمع والطاعة على المرء المسلم ، فيما أحب أو كـره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ” . وأخـرج مسلم من حديث أم الحصين : ” ولو استعمل عليكم عبد ، يقودكم بكتاب الله ، اسمعوا وأطيعوا ” .

بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله الكريم ، أميناً على إيمانه هو ودينه ، أميناً على نفسه وعقله ، أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة ، ولا يجعله بهيمةً في القطيع ، تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع . . . أو كالحمار الذي يحمل أسفاراً . . . لا يدري ولا يعي ولا يعقل لا يدري من حمّله وما حمله وإلى أين يذهب بحمولته . . . فالمنهج واضح وحدود الطاعة واضحة ، والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد ، ولا تتفرق، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون ذلك فيما ورد فيه نص صريح . فأما الذي لم يرد فيه نص ، وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئـات ولا يكون فيه نص قاطع ، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق ، مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام ، فإنه لم يُترك كذلك تيهاً ولم يترك بلا ميزان ، ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتضريع . . . ووضع هذا النص القرآني الكريم ببلاغته العجيبة ، منهج الاجتهاد كله ، وحدّده بحدوده وأقام ” الأصل ” الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً ، قال تعالى : ” فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ  وَٱلرَّسُولِ ”      ( النساء : 59 ) ، والمراد به ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً ، فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو فـردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . . وهذه ليست عاتمةً ولا فوضى ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول ، وهناك في هذا الدين مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح تغطي كل جوانب الحياة الأساسية وتضع لها سياجاً خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين .

تلك الطاعة لله والطاعة للرسول ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة رسوله الكريم ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول   . . . هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر . . . فلا يوجد الإيمان ابتداءً وهذا الشرط مفقود ، ولا يوجد الإيمان ثم يتخلف عنه أثره الأكيد . . . فبهذا تسعد البشرية في الدنيا والآخرة وتتمتع بالسّلام كله وبكل السلام على إطلاقه الناتج عن إقامة العدل والمساواة بين الناس وتحكيم شرع الله ورسوله في الحياة . . . فليست المسألة أن أتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضا الله تعالى وثواب الآخرة وهو أمر عائل عظيم ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة التي هي بدورها مطية الآخرة .

* كبير علماء الجزائر .