من نماذج التطور الدلالي في القرآن الكريم

اليوم العالمي للبيئة : منصة حيوية لتعزيز التقدم في الأبعاد البيئية
يونيو 2, 2021
مجهودات الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في مجال الصحافة العربية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يونيو 2, 2021
اليوم العالمي للبيئة : منصة حيوية لتعزيز التقدم في الأبعاد البيئية
يونيو 2, 2021
مجهودات الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في مجال الصحافة العربية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يونيو 2, 2021

دراسات وأبحاث :

من نماذج التطور الدلالي في القرآن الكريم

الباحث سلمان عارفي الندوي *

التطور الدلالي ( Semantic Change ) مصطلح من مصطلحات علم الدلالة الحديث ، ويعد من أهم وأقدم مباحثه لدى اللغويين    المحدثين ، وهو عبارة عن تغير دلالات الألفاظ والمفردات في اللغة عبر العصور بسبب عوامل عديدة ، وظاهرة التطور الدلالي شائعة في جميع لغات العالم ، وذلك يرجع إلى كون اللغة ظاهرةً اجتماعيةً ، تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عوامل التطور ، وقد أكد الدارسون هذه الحقيقة ، لذلك هم يشبهون اللغة بالكائن الحي الذي ينمو    ويتطور ، فالعوامل التي تؤدي عبر الزمان إلى تغيير الألفاظ والمفردات هي التي تؤدي إلى تغيير دلالاتها ، وهذا التطور يلغي أحياناً معنى كلمة ويستبدله بمعنى آخر ، وأحياناً يضيف إليها معنىً جديداً ، غير أن الكلمة لا تخرج في وضعها اللغوي عن دلالتها الأصلية ، فهي تبقى في شكل ما ، وقد لاحظنا ذلك واضحاً بعد ظهور الإسلام ، فقد استبدل كثيراً من الألفاظ التي لا يحسن ورودها على الألسن ، واستخدم ما هو أيسر على النطق ، وأبين في الدلالة على المعنى .

وهناك كثير من العوامل التي أدت عبر الأجيال ولا تزال تؤدي إلى تغيير معاني الكلمات ، وفي هذا السياق يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي : ” إن اللغة تتأثر في تطورها بعوامل كثيرة ، يرجع أهمها إلى ست طوائف : إحداها عوامل اجتماعية خالصة تتمثل في حضارة الأمة ، ونظمها ، وعاداتها وتقاليدها ، وعقائدها ، ومظاهر نشاطها العلمي والعقلي ، وثقافتها العامة ، واتجاهاتها الفكرية ومناحي وجدانها ونزوعها . . . . وهلم جراً . وثانيها تأثر اللغة بلغات أخرى . وثالثها عوامل أدبية تتمثل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللغة ، وما تبذله معاهد التعليم والمجامع اللغوية وما إليها من سبيل حمايتها والارتقاء بها ، ورابعتها انتقال اللغة من السلف إلى الخلف . وخامستها عوامل طبيعية تتمثل في الظواهر الجغرافية والفيزيولوجية . . . . وما إليها . وسادستها عوامل لغوية ترجع إلى طبيعة اللغة نفسها وطبيعة أصواتها وقواعدها ومتنها ” [1] .

ومن ثم تأثرت ألفاظ اللغة العربية ودلالاتها بمختلف الأفكار والعقائدالدينية بعد ظهور الإسلام ، فشاهدت اللغة العربية تغيراً ملموساً في معاني بعض مفرداتها وكلماتها التي كان العرب يستخدمونها في معان معجمية بسيطة أو فيما وضعت لها من دلالات محددة ، كما قد تعرّف العرب على ألفاظ ومصطلحات جديدة في كل مجالات الحياة الدينية والاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها مما لم تكن معروفةً عند العرب قبل الإسلام ، فقد أعطى الإسلام بعض الألفاظ معاني ودلالات جديدةً ، ومثل ذلك ما نجد في مجال الدين وعقائده كألفاظ : ” الإسلام ، والإيمان ، والرسول والصلاة ، والزكاة ،    والصيام ، والحج ، والألوهية ، والرهبانية ، والكفر ، والشرك ، والإلحاد ، والرّدة ، والفسق ، والنفاق ، وغيرها ، وفي أمور الحرب والسياسة والإدارة مثلاً كألفاظ : ” أمير المؤمنين ، والخليفة ، والغزوة ، والبيعة وغيرها ، وفي مجال العلوم والفنون مثلاً كمصطلحات : ” علوم التفسير ، والحديث ، والفقه ، والكلام ، وغيره ، إذا استعرضنا هذه الكلمات والمفردات وجدنا أنها كانت تستخدم أصلاً في دلالاتها اللغوية فقط قبل الإسلام [2] .

فقد عرّف الإسلام – مثلاً – ألفاظَ ” المؤمن والمسلم والكافر والمنافق وغيرها ” ، فالعرب إنما عرفت ” المؤمن ” من الأمان والإيمان وهو التصديق ، ثم زادت الشريعة لكلمة الإيمان شرائط وبيّن لها أوصافاً سمّي بها المؤمن بالإطلاق مؤمناً ، وكذلك الإسلام والمسلم ، فقد عرفوا منه    ” إسلام الشيئ ” فقط ، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما نقله إلى معنى خاص ، وكذلك كانوا لا يعرفون من ” الكفر ” إلا الغطاء والستر ، فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه ، وكان الأصل من ” نافقاء اليربوع ” ، ولم يعرفوا في الفسق إلا قولهم : ” فسقت الرطبة ” إذا خرجت من قشرها ، وعرّف الشرع بأن الفسق الأفحاش في الخروج عن طاعة الله جلّ ثناؤه ، ومما جاء في الشرع ” الصلاة ” وأصله في لغتهم : الدعاء ، وكذلك ” الصيام ” أصله عندهم الإمساك ، ثم زادت الشريعة النّية وحظرت الأكل والمباشرة وغير ذلك ، وكذلك الحجّ ، لم يكن عندهم سوى القصد والإرادة ” [3] .

ولا شك أن القرآن الكريم هو العامل الأساسي الذي أضفى على هذه الكلمات دلالات جديدةً ، وسنستعرض هنا بعض الكلمات التي أعطاها القرآن دلالات جديدةً ، فمنها كلمة ” الأمة ” وهي في معناها المعجمي القصد ، والإرادة ، وأيضاً ” القوم أو الجماعة ” ، ولكن القرآن الكريم قد استعملها في أربعة معان [4] ، وهي : الجماعة ، كما في قوله تعالى : ” وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ” ( الأعراف : 164 ) ، وقوله   تعالى : ” فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ” ( النساء : 41 ) ، كما جاءت الأمة في القرآن بمعنى ” الدين والملة” ، كقوله تعالى : ” بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ ” ( الزخرف : 22 ) ، وبمعنى الرجل المنفرد الجامع    للخيرات ، كقوله تعالى في وصف سيدنا إبراهيم عليه السلام : ” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ” ( النحل : 120 ) ، وبمعنى ” الوقت والحين ” كقوله تعالى : ” وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ” ( هود : 8 ) ، هكذا أصبحت كلمة ” الأمة ” ذات دلالات جديدة لم تعرفها العرب قبل الإسلام .

ومنها ” الحَلف والقسم ” [5] من الألفاظ التي عدّتها المعاجم مترادفةً ، كما لم يفرّق بينهما العرب والشعراء في العصر الجاهلي ، فاستعملوا كليهما بمعنى واحد وهو : اليمين ، ولكن القرآن قد فرّق بينهما ، فاستعمل الأول ( الحلف ) بمعنى اليمين الكاذب ، كما في قوله تعالى :  ” وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ” ( المجادلة : 14 ) ، وقوله تعالى : ” وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ” ( القلم : 10 ) ، واستعمل الثاني ( القسم ) بمعنى اليمين الصادق ، كقوله تعالى : ” لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ” ( البلد : 1 ) ، وقوله تعالى : ” فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ” ( الواقعة : 75 – 76 ) ، ومنها ” الغيث والمطر ” كانا بمعنى واحد عند العرب في أشعارهم ، ولكن القرآن فرّق بينهما ، فاستخدم الغيث بمعنى الخير والعطاء والرحمة بالعباد ، والنجاة لهم ولأنعامهم معللاً أن الغيث من الإغاثة ، كما قال الله عزّ وجل : ” إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلأَرْحَامِ ” ( لقمان : 34 ) ، ويقول عزّ وجل : ” وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ” ( الشورى : 28 ) ، أما المطر فجاء في القرآن الكريم بمعنى العذاب والغضب والانتقام ، كما في قوله تعالى : ” وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ ” ( الفرقان : 40 ) ، وقوله تعالى : ” وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ ” ( الشعراء : 173 ) [6] .

وكذلك استخدم القرآن عدداً من التراكيب بدلالات جديدة لم تكن معروفةً عند العرب ، كما قال الله عزّ وجل : ” وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ” [7] ( الإسراء : 13 ) ، لقد عرف العرب الطير بمعنى الشؤم ، فكانوا يتشاءمون بسوانح الطير وبوارحها ، فجاء الإسلام وأبطل هذه العقيدة ، وأعطى هذا التركيب دلالةً جديدةً ، فطائر كل إنسان : ما يقدّر له من العمل ، وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم    مفارقته ، فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التخلص من نتائجه ، هكذا استخدم هذا التركيب بدلالة جديدة هي : أن الله عزّ وجل جعل كل إنسان مسؤولاً عن عمله . ومن هذه التراكيب قول الله عزّ وجل : ” فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ” ( الأنعام : 45 ) فكان لفظ ” الدابر ” معروفاً لدى العرب بمعنى ” آخر كل شيئ وخلفه ” ، والدّبار بمعنى يوم الأربعاء ، واستخدمه القرآن بمعنى الأصل والنسل في هذا التركيب ( فَقُطِعَ دَابِرُ   ٱلْقَوْمِ ) أي أهلك الله أصلهم وخلفهم من نسلهم ، فلم تبق لهم باقية [8] .

فالأسباب الدينية هي عاملة قوية ومؤثرة لتحويل الألفاظ والمفردات إلى معان ودلالات جديدة ، وكل لغة في العالم  تتأثر بديانتها إذا كان أهلهم من أتباع أي ديانة ، لأن الدين يمثل جانباً مهماً للحياة الإنسانية ، فكلما حدث تغير في هذا الجانب المهم ، حدث تغير – لا محالة – في اللغة التي تعبر عن شرائعه وقوانينه ، فتعرف اللغة دلالات جديدة في ألفاظها أحياناً ومصطلحات حديثة أخرى ، وهكذا تستمر في تطورها إلى المصير الذي لا نهاية له .

المصادر والمراجع :

  • القرآن الكريم .
  • أبو عودة ، عودة خليل ، التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن ، مكتبة المنار ( الأردن – الزرقاء ) ط 1 ، 1985م .
  • جنان منصور كاظم ، التطور الدلالي للألفاظ في النص القرآني : دراسة بلاغية ( رسالة الدكتوراة ) 2005م ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، جامعة بغداد .
  • تمام محمد السيد ، ألفاظ وتراكيب ودلالات جديدة في السياق القرآني ، ( رسالة الماجستير ) 2010م ، قسم اللغة العربية ، كلية الآداب جامعة الشرق الأوسط .
  • وافي ، علي عبد الواحد ، علم اللغة ، دار نهضة مصر ، القاهرة ، ط 9 ، 2004م .

* باحث الدكتوراه ، مركز الدراسات العربية والإفريقية ، كلية اللغة والأدب والثقافة ، جامعة جواهر لال نهرو ، نيو دلهي ، الهند .

[1] د . علي عبد الواحد وافي ، علم اللغة ، دار النهضة ، مصر ، ص 8 .

[2] علي عبد الواحد وافي ، فقه اللغة ، دار نهضة مصر ، 1973م ، ص 119 .

[3] عبد السلام غجاتي ، أشكال التطور الدلالي ، ( محاضرة ) ، ص 55 – 56 ، د . علي عبد الواحد وافي ، فقه اللغة ،  دار نهضة مصر للطباعة والنشر ، 1973م ، ص 119 ، والصاحبي ، لابن فارس ، ص 79 و 80 .

[4] تمام محمد السيد ، ألفاظ وتراكيب ودلالات جديدة في السياق القرآني ، ( الدراسة ) قسم اللغة العربية وكلية الآداب ، جامعة الشرق الأوسط ، 2010م ، ص 62 .

[5] المرجع نفسه ، ص 72 .

[6] المرجع نفسه ، ص 105 .

[7] المرجع نفسه ، ص 191 – 193 .

[8] تمام محمد السيد ، ألفاظ وتراكيب ودلالات جديدة في السياق القرآني ، ( الدراسة ) قسم اللغة العربية وكلية الآداب ، جامعة الشرق الأوسط ، 2010م ، ص 182 .