فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( الحلقة الأولى )
ديسمبر 4, 2021الإيمان والمادية وصراعهما في الحياة الإنسانية ( الحلقة الثانية )
يناير 2, 2022الدعوة الإسلامية :
لماذا ذكر الله النملة في القرآن . . . ؟
الأخ عبد الرشيد الوافي *
القرآن كلام الله ومعجزة نبيه الكبرى ، وهو يتضمن عدداً من المعجزات العلمية والمعرفية ، وما زال ولا يزال العلماء يحاولون تحليلها ومعرفتها ، والنملة من المخلوقات العظيمة التي وضع الله فيها سر خلقه ، فهذا المخلوق يراه الإنسان للوهلة الأولى بأنه أضعف المخلوقات ، ولكن حينما يفكر ويدقق فيه يجد سر خلقه تعالى فيه ، قد ذكر الله تعالى النملة ، وأفرد لها آيات في سورة سمّاها بـ ( النمل ) متحدياً به من ينكر عظمته وحسن تدبيره في خلقه .
إن النملة حشرة صغيرة نطؤها بأقدامنا ، ونعدّها من أضعف الحيوانات ، ولكن شأنها عجيب جداً ، فإنها تفعل فعل الملوك وتدبر وتوسوس مثل الساسة والقادة ، وتتخذ القرى تحت الأرض ، ولبيوتها أروقة ودهاليز وغرف ، وتجمع بعض النملات حبوباً وذخائر وقوتاً للشتاء . !
ولكثرة عجائب النملة وغرائبها ورد قوله تعالى حكايةً عن سليمان عليه الصلاة والسلام ، قال جلّ شأنه : وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ ( النمل : 17 – 19 ) .
فانظروا. . . كيف نسب الله لها العقل والفهم . . . ؟ ! ففي هذه الآية إشارة إلى خصائص النملة كلها لتوقظ العقول إلى ما أعطيتها من الدقة وحسن النظام والسياسة وما أتيح لها من حسن الهندسة في مساكنها ودهاليزها ، ولا أبالغ إذا قلت : إن أنبل الحشرات وأحذقها وأعقلها وأكثرها فائدة هو النمل ، فهذا البحث المتواضع يسلط الضوء على النملة وغرائبها وعجائبها وأعمالها .
ذكاء النمل :
ألمح القرآن إلى حقيقة علمية وهي ذكاء النمل وقدرته على مواجهة الأخطار ، وذلك من خلال هذه القصة التي حدثت مع نبي الله سليمان عليه السلام ، فقد تمكنت نملة صغيرة من تحديد مكان سليمان والطريق الذي يمر به ، وهذا لم يكن ليتم لولا هذه القدرات الخارقة التي يتمتع بها النمل ، ولقد كشف العلم الحديث عن بعض العجائب من سلوك النمل الذكي وتطور جهازه العصبي ، بعد دراسة طويلة باستخدام المجهر انتهى العلماء المحدثون إلى أن دماغ النملة يتكون من فصين رئيسين يشبه مخ الإنسان .
النمل أقوى من الإنسان :
لأول مرة لا يعتقد أحد هذه الحقيقة ، ولكنها حقيقة أثبتها العلم الحديث ، لو كان في إمكاننا أن نستنطق النمل ونجعله يقول بصراحة وصدق ما في قلبه ويخبرنا ما هي أعظم المزايا التي يفتخر بها لقال بإعجاب : ” قوّتي ” . ذلك لأن للنمل بالنسبة إلى حجمه قوة عضلية تفوق قوة أعظم المصارعين والرياضيين من البشر ، يصف العالم الطبيعي ( المستر د . دي بوا ) تجربة أجراها ، فبيّن أنه رأى نملة تحمل حصاة من أسفل العرمة إلى أعلاها ، فوزن النملة والحصاة وزناً مضبوطاً بأدق الموازين ، فوجد بعد الحساب أن الرجل لكي ينافس النملة في رفع الأثقال يجب أن يحمل حملاً وزنه نصف طن ، ويصعد به خمساً وعشرين درجة من درجات السلالم العادية .
مساكن النمل :
النملات تعيش جماعات في أماكن مبنية تحت الأرض أو فوقها كالآكام ، ومساكن النمل مقسمة إلى حجرات تختلف منافعها وأغراضها ، وبإمكاننا أن نشاهد حجرات كبيرات ليعيش فيها النمل ، وهناك نملات يربين الصغار ويعتنين بهن إطعاماً وتنظيفاً وترتيباً كما تربي النساء أطفالهن من البشر ، وتحت هذه الحجرات حجرات أخرى كوّنها النمل مخازن للبذور والحبوب ليدخر القوت للأيام القادمة ، وهذه الحجرات يتصل بعضها ببعض بطرق نظامها غريب جداً كما أن النمل في خارج تلك المنازل قد صنعت طرقاً غريبةً توصل إلى مداخل مختلفات .
بقر النمل :
هل سمعنا عن بقر النمل . . . ؟ أظن أن أكثرنا يجهلونه ، أما بقر النمل فهو نوع من البعوض النباتي المائل إلى الخضرة ، فالنمل يقنص هذا البعوض ويحمله إلى غشه ويرعاه ويغذيه ، وهذا البعوض يفرز مادة لزجة يستطيبها النمل ، ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يفرزها ما لم يدغدغه النمل بخرطومه ، وقد حاول العالم ( دارون ) أن يجعل بعوضة تفرز عسلها حين دغدغها بشعرة فلم تفرز شيئاً ، فلما أطلق عليها نملة دغدغتها فأفرزت العسل .
النمل جراح :
هل خطر لنا أن النمل جراح ماهر ؟ أظن أن معظم الناس غافلون عنه ، فلا بد لنا من الإلمام بعملياته الجراحية ، فإنها عجيبة جداً ، وفي البرازيل نوع من النمل القاطع للورق يجيد الجراحة كأمهر جراح ، فمتى جاءت إليه نملة تعاني من جرح ينادي بعض الجنود الاختصاصيين ، ثم يضم شفتي الجرح معاً ، ويأمر الجندي أن يمسكهما بفكيه ، ثم يخيطهما الجراح على طول الجرح بواسطة خيوط يفرزها من نفسه .
للنمل مقبرة :
ومن أغرب الأمور أن للنمل عادة لا يعرفها سائر الحشرات أو الحيوانات ، وهي أنه يدفن موتاه في مقبرة خاصة ، وذلك أن بعض النملات ترفع الجثة بخراطيمها وتمشي خلفها النملات الأخرى في موكب كبير إلى مكان معين تدفن فيه موتاها .
النمل فلاح :
النمل فلاح أيضاً ، لعلنا نعجب من ذلك ونسأل أنفسنا بشك وريب أنه كذلك ، والواقع أن للنمل حدائق يزرعها ويجتني منها طعامه الذي لا يجده في كل مكان ، وله اصطبلات يحرس فيها أبقاره التي يحتلب عسلها ، وهناك نوع من النمل يسمى قاطع الورق ، فهو يقطع ورق الشجر بمقص فمه الحاد ، ويحمله إلى عشه ، ويمضغه حتى يصبح كالعجين ، ويفرشه على الأرض ، وبعض النملات تبحث عن نبات المشروم في الحقول ، وتنقله إلى حديقتها ، وتزرعها في الأرض التي أعدتها لذلك .
جمع المواد الغذائية :
ولأعضاء مجتمع النملات طرق فريدة فذة في جمع المواد الغذائية وتخزينها والمحافظة عليها ، ومن عاداتها أن تقضم البذور قبل تخزينها حتى لا تعود إلى أن تنبت مرةً أخرى ، وهناك بعض البذور التي إذا تكسرت إلى فلقتين فإن كل فلقة يمكنها أن تنبت من جديد ، لذلك فإن النمل يقوم بتقطيع مثل تلك البذور إلى أربع قطع كي لا تنبت ، وإذا ابتلت البذور بفعل المطر أخرجها إلى الهواء والشمس لتجف ، ولا يملك الإنسان بين يدي هذا السلوك الذكي للنمل إلا أن يسجد لله الخالق العليم الذي جعل النمل يدرك أن كلا من تكسير جنين الحبة وعزل البذرة عن الماء والرطوبة يجعلها لا تنبت .
النمل يربي صغاره :
وهل نصدق أن النمل يجيد التمريض والتربية ؟ ربما نحسب أن ذلك كذب ، ولكن العلم الحديث أثبت أنه حق ، حينما تبيض ملكة النملة بيوضها تتجمع النملات العاملات حولها ، وتحمل البيوض بأفواهها وتنطلق بها إلى المكان الدافئ الذي أعدته لها ، ثم تشرع تميّز البيوض بحسب حجمها ، فتضع الكبيرات في صف ، والصغيرات في صف آخر ، ومتى نقفت النملات الصغيرات بيوضها ، وخرجت منها تضعها العاملات في شكل دائرة ، وتجعل رؤوسها متجهة إلى خارج الدائرة لكي تهون عليها تغذيتها .
وفي المناطق الاستوائية نوع من النملات ، تأخذ صغارها إلى خارج الوكر في يوم الصحو لتعريضها لنور الشمس وللهواء الطلق ، وتسير بها إلى هنا وهنالك كأنها تنزهها ، ثم إن النملات المربيات تبالغ في تنظيف أوكارها ولا سيما أوكار الصغار أكثر مما تفعل ربات البيوت ، وهذه المربيات تضع في عشوش الصغار نوعاً من الإسفنج تصنعه من المواد الناعمة المختلفة ، فمتى اتسخت خراطيم النملات وعلق الوحل على أفواهها تسرع المربيات إلى هذا الإسفنج وتمسكه وتمسح به أفواه الصغيرات وخراطيمها .
خاتمة :
ختاماً . . . إن هذه الدنيا عجب وأي عجب ، وإن الأمر لعظيم ، فما أعجب هذا النظام للنمل الذي نطؤه بأرجلنا ونحقره . . . ! وإن الله تعالى لم يذكر النملة في القرآن الكريم إلا ليلفت انتباهنا إلى عظمة هذه الكائنات التي يحسبها الإنسان مخلوقات تافهة ، ولكنها بحق مخلوقات ذات قدرات خارقة ، تعمل بخطة فطرية أودعها الله تعالى في دماغها .
* باحث دكتوراه ، جامعة كاليكوت ، كيرالا ، الهند .