الإيمان والمادية وصراعهما في الحياة الإنسانية ( الحلقة الثانية )

لماذا ذكر الله النملة في القرآن . . . ؟
ديسمبر 4, 2021
إنها الحضارة الإلهية !
يناير 2, 2022
لماذا ذكر الله النملة في القرآن . . . ؟
ديسمبر 4, 2021
إنها الحضارة الإلهية !
يناير 2, 2022

الدعوة الإسلامية :

الإيمان والمادية وصراعهما في الحياة الإنسانية

( الحلقة الثانية )

سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

تعريب : محمد فرمان الندوي

أنزل الله تعالى القرآن الكريم كمعجزة ربانية ، وهو كلام الله الذي لا يعادله كلام آخر ، كان في العرب شعراء فطاحل ، يعتزون بكلامهم ، ويعتقدون أن أي شاعر لا يضارعهم في شعرهم وأدبهم ، لكن لما نزل كلام الله تعالى ، واطلع عليه العرب دُهشوا منه ، ولم يجدوا في أنفسهم قوةً لتحدي هذا الكلام ، فتحداهم القرآن الكريم : إذا ظننتم أن القرآن ليس كلام الله تعالى ، فأتوا بمثله ، وقال في مفتتح هذه السورة : ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا . قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ ، وذلك لتنكشف هذه الحقيقة أن نظام الكون كله بيد الله تعالى ، وهو الذي يدبر الأمر ، فليس معناه أنه ترك الكون هملاً بعد ما خلقه ، ووكله إلى أحد ، بل معناه أن الله تعالى خلق الكون ، وكل ما فيه من المخلوقات تحت تصرفه وقدرته ، فلا يمكن أن يبدل أحد شيئاً منه .

وتهدف سورة الكهف إلى أن تبشر الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، فبشرهم الله تعالى بالأجر الحسن ، وهو يرزقهم يوم القيامة أجراً لا ينفد ، لا يستطيع إنسان أن يتصور في هذه الدنيا كيف يكون أجر الآخرة ، لأن هذه الدنيا فانية ، ومتاعها ونعميها يدرك الفناء  كذلك ، ومن حسنات الآخرة أن كل شيئ يبقى إلى أبد الدهر ، فلا يفنى ولا ينفد ، ولا يحذر في الآخرة الموت والهلاك ، وكل ما يكرم به أهل الإيمان في الجنة يخلد خلود الزمان .

وتشير هذه السورة إلى أن القرآن الكريم أنزل لإنذار الذين اتخذوا لله ولداً ، وأنهم سيجزون جزاءً سيئاً نتيجةً لهذه القولة القبيحة ، وقد صرح الله تعالى أن هذا الادعاء كان وراءه الجهل وعدم العلم ما أنزل الله به من سلطان ، وكان زعم هؤلاء المجرمين على القياس ، بحيث إن الله تعالى قد أعطى سيدنا عيسى عليه السلام خيارات وخوارق للعادة ، فهو ابن الله ، رغم أن سيدنا عيسى عليه السلام نبي من أنبياء الله ، وصفي من أصفيائه ، وقد أفرط اليهود إفراطاً في شأن يعقوب عليه السلام ، وجعلوا عزيراً عليه السلام ابناً لله تعالى ، فلا يكون معنى       ( مختار ومرضي ومحبوب ) ابناً وولداً أبداً ، الواقع أن الأنبياء كلهم عباد الله تعالى ، خلقهم الله تعالى ، فلا يكونون جزءاً من الله ، ونظراً إلى هذه الحقيقة قال الله تعالى : مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ ، أليس من السُخف أن يفتري الإنسان الكذب على الله الذي خلق الكائنات كلها ، ووفر للإنسان جميع النعم الظاهرة والباطنة ، وبيده الأمر كله ، يحيي ويميت في دقيقة وثانية ، ويدفع البلايا والمحن الشداد في طرفة عين ، لكن الإنسان ظلوم جهول ، يتكلم بمثل هذه الأقاويل عن الله سبحانه وتعالى كما كان يقولها الكافرون .

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً .

لفت القرآن في هذه الآية النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة : يا محمد صلى الله عليه وسلم ! لا تجزع من كفر الكافرين والمشركين ، ولا تبخع نفسك وراء هدايتهم وإيمانهم ، فإنك لستَ مكلَّفاً لذلك ، وما عليك إلا البلاغ ، يعلم الله تعالى أن هؤلاء المشركين يؤمنون أم لا يؤمنون ؟ فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وعنده علم الماضي والحال والمستقبل ، مثال ذلك أن رجلاً إذا كان جالساً في داخل الغرفة ، فلا يخبر إلا بما في الغرفة ، وأما الرجل الذي كان جالساً خارج الغرفة ، وهو ينظر كل شيئ في الخارج فهو يخبر كل من يأتي إلى الغرفة ، ومن دخل الغرفة ، كذلك كان نظام الله تعالى أنه خلق الماضي والحال والمستقبل ، فهو يعلم ماذا وقع في الماضي ، وما يقع الآن ، وماذا يحدث في المستقبل ؟ فيعلم الله تعالى عن كل إنسان : ماذا يكسب غداً ، فقال تعالى عن نبيه : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً .

إن الله تعالى أرحم الراحمين ، لا يضل إنساناً عن سبيله ، بل يضل الإنسان بعمل من أعماله ، ولم يخير الله الحيوان كما خيَّر الإنسان ، فلا يمكن أن يغرس حيوان غرساً ، ولا يثمر ثمراً ، ولا ينبت نباتاً ، ولا يزرع زرعاً ، ولا يحفر بئراً ، ولا ينشئ سقيا ماء ، فلا يعمل حيوان عملاً باختياره ، فإذا وجد عشباً أكله ، وإذا رأى بركة ماء شرب منها ، لكن الله تعالى خلق الإنسان مخيراً ، وأعطاه يتصرف في دائرة محدودة ، ذلك ليعلم الله تعالى أنه يستعمل إرادته لصالح الأعمال أو عكس ذلك ، وهل يجتنب المعاصي والمنكرات أم لا ، رغم أن الله تعالى يعلم من يهتدي ، ومن يضل ؟ لذلك خاطب نبيه قائلاً : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ       ( الشعراء : 3 ) .

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ( الكهف : 7 ) .

أخبر الله تعالى في هذه الآية بأساس الحياة الإنسانية أن ما زيَّنا الأرض من الجمال والبهجة ، وما أودعنا فيها من المنافع ، ما حرَّمناه على المؤمنين ، وهم ينالون جزاءً أحسن من ذلك في الآخرة ، أما نعم الدنيا فإن المؤمنين والمشركين يشاركون فيها ، وقد هيأ الله تعالى للمؤمنين والكفار فرص الانتفاع بنعم الدنيا ، لكن أهل الإيمان ينتفعون بها حسب ما جاء في الشريعة الإسلامية ، ولا ينال نعم الآخرة في الجنة إلا المؤمنون ، أما الكافرون فإنهم ينتفعون بها في الدنيا كيفما شاءوا ، ويحرمون منها في الآخرة تماماً ، بل يعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوا من السيئآت ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( الأعراف : 32 ) ، وقال :

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً .

وأشارت الآية إلى حقيقة الدنيا ، وهي أن الدنيا فانية ، لا تبقى إلى الأبد ، بل يأتيها يوم القيامة ، فيمحو الله كل ما على الأرض ، وتكون الدنيا صعيداً جرزاً ، لا يبقى فيها إنس ولا جن ، ولا يكون فيها شجر ولا حجر ، فكل ما ترون أمامكم من رونق وبهاء وزينة وجمال يجعله الله هباءً منثوراً .

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ( الكهف : 9 ) .

الرقيم هو الموضع الذي كان فيه غار أصحاب الكهف ، وأصحاب الكهف بضعة رجال ، عاشوا زمن الكفار والوثنيين ، وكان ملكهم كافراً وظالماً ، يجبر رعاياه على عبادة الصنم والوثن ، لكن هؤلاء آمنوا بعيسى عليه السلام ، وعملوا بشريعته ، فهددهم الملك بالعودة إلى الكفر وعبادة الأصنام ، وألا يضيق عليهم الخناق ، فخرجوا من مناطقهم ، وكان على بُعد منهم جبل ، كان فيه غار شبه غرفة ، لا يسكنه أحد ، ولا يخشى هناك خطر لعدو ، فاختفوا فيه ، وقد رضي الله تعالى بثباتهم على الإيمان أمام الملك الظالم الكافر ، فضرب على آذانهم في الكهف سنين عدداً ، وناموا ثلاث مأة وتسع سنين ، ولما استيقظوا ما استطاعوا أن يقدروا مدة نومهم ، بل ظنوا أنهم ناموا مدةً من الزمن ، وشعروا بالجوع ، فأرسلوا واحداً منهم إلى السوق ، وأوصوا بأن يخفي سرّحاله من الناس ، لكن الحكومة الكافرة كانت قد تبدلت ، ومضى على أصحاب الكهف حين من الدهر ، وكان الملك الجديد نصرانياً ، وحينما رآهم أهل البلد سُروا به غاية السرور ، وقالوا : هؤلاء هم الذين اختفوا محتفظاً بإيمانهم وعقيدتهم ، فرحبوا بأصحاب الكهف ترحيباً ، وقدروا شأنه .

تخبر قصة أصحاب الكهف بأن الله تعالى قادر على تبديل النظام الظاهر ، يمكن أن يحيى إنسان مأة سنة على أكثر تقدير ، لكن لا يمكن أن يحيى إنسان أكثر من ثلاث مأة سنة ، ولا يتأثر جسمه بشيئ ، ولم يتناول الطعام خلال هذه المدة ، كأن الله تعالى أخبر نا بأنكم تنظرون إلى الظاهر ، وتظنون عنكم ظنوناً ، رغم أن ما تتصرفون فيه يكون بإذن الله تعالى وبقدرته ، وأنا أملك الظاهر والباطن كليهما .

خلق الله تعالى الدنيا كلها لنا ، وخلقنا لعبادته ، وجعل الإنسان فيه خليفةً ، ليسير بهذا النظام وفق ما أمره الله تعالى به ، فالمالك الحقيقي هو الله ، يسير العالم بإذنه وبأمر منه ، يحكم الإنسان الدنيا ظاهراً ، لكن الحكومة الحقيقية لله تعالى ، خيّر الله تعالى الإنسان فقط ، ليدبر نظام حكومته ، فليس الإنسان هو الأصل في إدارة النظام وتدبير الأمور ، بل هوخليفة الله تعالى ، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ( البقرة : 30 ) .

موضوع سورة الكهف الأساسي أن هناك نظامين : وهما نظام باطن ، يملكه الله تعالى ، ونظام ظاهر ، يديره الإنسان ، ويظن نفسه مالكاً حقيقياً ، ولا يذكر قدرة الله تعالى فوقه ، وقد سيطر الآن على العالم هذا الاتجاه ، فلا بد لنا من صيانة أنفسنا بهذا الاتجاه ، والرجوع إلى العقيدة الإسلامية الصافية ، كأن هذا الاتجاه المادي صورة مصغرة للدجال ، الذي يكون شعاره وعلامته المادية ، وإذا ظهر الدجال قرب القيامة أتى بعجائب وغرائب يتحير منها الناس ، ويظنونه متصرفاً   حقيقياً ، فيضل أهل الإيمان عن إيمانهم ، ويكون أسلوبه خداعاً ينخدع منه عامة  المؤمنين ، إلا عدداً قليلاً يعصم من فتنة الدجال ، جاء في الحديث الشريف : قال صلى الله عليه وسلم : إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ( سنن ابن ماجة ، كتاب الفتن ، باب فتنة الدجال 4215 ) .

تشير قصص هذه السورة إلى الصراع بين الإيمان والمادية في الحياة الإنسانية ، فإن هناك فكرة إيمانية ، وفكرة مادية ، وقد أخبر الله تعالى أهل الإيمان بأن الدنيا خلقت للإنسان ، فلا بد للإنسان أن يستفيد منها ، ويستخدمها في صالح الإنسانية ، لكن الإنسان خُلق للآخرة ، فعليه أن يبني آخرته ، وينتفع بالدنيا حسب ما أمره الله به .