عوائد البعثات العلمية في العصر الحديث : ” مصر نموذجاً “

إضاءات على مفهوم ” التجديد ” ومشروعيته في الإسلام
يناير 6, 2021
التعليم الديني عن بُعد في الوضع الراهن بين الإيجاب والسلب
يناير 6, 2021
إضاءات على مفهوم ” التجديد ” ومشروعيته في الإسلام
يناير 6, 2021
التعليم الديني عن بُعد في الوضع الراهن بين الإيجاب والسلب
يناير 6, 2021

دراسات وأبحاث :

عوائد البعثات العلمية في العصر الحديث :

” مصر نموذجاً ”

د . سعيد بن مخاشن *

إن البعثات العربية من أبرز العوامل الأساسية التي أنتجت احتكاك الدول العربية بالدول الغربية ، واستيثاق الصلات بينهما ، والاتصال المباشر على الصعيدين العلمي والثقافي ، وهي التي أينعت عطاءات النهضة العلمية على نطاق وسيع ، وأنضجت ثمارها الطيبة على رقعة فسيحة ، وذلك لما أحس محمد علي والي مصر وأيقن بعد اعتلائه على أريكة الولاية أن النهضة الحقيقية لا تتحقق إلا بمشاركة أبناء البلاد العربية وإسهامهم مساهمةً جادةً في مواكبة مسيرة النهضة العلمية وتحقيق أغراضها المرجوة ، فجعل يوفد طلبة العلم النابهين في بعثات علمية إلى مختلف دول أوروبا وبخاصة إلى فرنسا لتسليحهم بالعلوم المتضاربة الجديدة ، وتثقيفهم بالمعارف المتباينة الحديثة من جهة ، واستيثاق الصلات الثقافية والعلمية والعسكرية المباشرة بين مصر وبين دول أوروبا من جهة أخرى بعد انقطاعها رحباً من الزمان ، وإن كان هذا الترابط عسكرياً محضاً في بداية الأمر ، ثم تعدى إلى العلوم المتنوعة الجديدة ، والمعارف المتعد دة الحديثة .

رأى محمد علي أن تشمل نهضته جميع نواحي الحياة ، فأكثر من إنشاء المدارس العالية والابتدائية ، وقد بدأ بالمدارس العالية ، وكان على حق فيما فعل ، حتى يجد بجانبه جماعةً من المتخصصين في المواد المختلفة يشرفون على مراحل التعليم الأخرى ، ويسيرون بالنهضة سريعاً ، فأسس مدرسةً للصيدلة ، وأخرى للهندسة في القلعة ثم نقلت إلى بولاق ، ومدرسةً للولادة والتمريض . ورأى أن الحاجة ماسة إلى أساتذة مختصين عالمين بعلوم الغرب وثقافته ، فجلب الأساتذة من فرنسا في كل فن من الفنون ، ولكنه أدرك أن النهضة الحقة لا تتم إلا على يد أبناء البلاد ، فأكثر من البعثات ، وفي سنة 1836م أرسل بعثةً إلى فرنسا عدتها أربعة وأربعون طالباً ، ذكر أسماءهم ” الميسو جومار ” ( كان مهندساً في الجيش الفرنسي بمصر وعضواً في المجتمع العملي أيام حملة نابليون ) – وقد عهد إليه محمد علي بالإشراف على بعثاته – في المجلة الآسيوية (عدد أغسطس سنة 1828 ص 109 ) وقد تخصصوا في شتى العلوم والفنون : من حقوق ، وعلوم سياسية ، وهندسة حربية ، وطب ، وزراعة ، وتاريخ طبيعي ، وميكانيكا ، وكيمياء ، وطباعة ، وحفر ، وغير ذلك مما استلزمته النهضة الحديثة ، ومن أشهرهم وأعظمهم أثراً إمام البعثة الشيخ رفاعة الطهطاوي .

وقد تحدث أحمد إسكندري وأصحابه في هذا الصدد : ” لقد سلف عليك أن مصر بعد أن ظلت الأزمان الطويلة في تمام الانقطاع عن بلاد الغرب . وأنها قد بدأت تتصل به من عهد الحملة الفرنسية ، وإن كان هذا الاتصال لم يجد عليها شيئاً أو لم يجد عليها لوقته ، إلا أنه لما استقر الأمر في مصر لمحمد على ، رأى الحاجة شديدة إلى إنشاء جيش منظم مدرب على الأساليب العسكرية الحديثة ، ولم يكن له بد في تحقيق هذا الغرض من أن يستقدم رجالاً من أساتذة الفن العسكري ليدربوا الجند في البلاد ، وأن يبعث في الوقت نفسه إلى أوروبا طائفةً من الشبان لتلقي هذه الفنون وما إليها هناك .

ومن هذا الحين بدأت العلاقة ذات الأثر الفعلى ، تنعقد بين مصر وبلاد الغرب ، وإن كان أثراً عسكرياً محضاً .

على أنه لم يمض كثير من الزمن حتى جعلت العلاقات العلمية بينهما تقوى وتستوثق على مر الأيام . وكان هذا أيضاً باستقدام العلماء وإرسال البعوث ” [1] .

ويعضده أحمد هيكل بقوله : ” كذلك أرسل محمد علي البعثات إلى أوروبا ، ليقوم أبناؤها فيما بعد بمطالب الجيش ، وللتدريس في تلك المدارس التي هي في خدمة الجيش . وقد تعددت البعثات وتنوعت بين هندسية ، وطبية ، وزراعية ، وصيدلية ، وقانونية ، وسياسية ، وكيماوية ، كما كان منها بعثات للتخصص في الطباعة ، والحفر ، والميكانيكا وغيرها ” [2] .

إن هذا الاتصال طرأ عليه تقدم ملموس وتعدى إلى الاتصال المباشر على الصعيد الثقافي والعمراني الذي نتج بإرسال البعثات والوفود ، واستقدام العلماء والخبراء في مختلف العلوم والمعارف . ويقول د . منذر معاليقى : ” تسربت مبادئ الثورة الفرنسية إلى الديار العثمانية ، في أوائل القرن الماضي ، إثر الحملة الفرنسية على مصر ، وما تبعها من اتصال مباشر بالثقافة الغربية وأفكارها الإصلاحية الليبرالية ، التي ظهرت بشائرها في فترة والي مصر محمد علي ، الذي قوي الترابط الثقافي والعمراني بين البلدين ، وبخاصة إثر إرسالية البعثات العلمية والوفود المتخصصة إلى الخارج ، واستقدامه الخبراء والمفكرين الأجانب ، الذين اضطلعوا بمسؤلية إنقاذ البلاد من حالتها المختلفة ، وتعريفها إلى حضارة الغرب ونظمه القديمة ” [3] .

وفوق هذا وهذا فلقد كان من أثر التعمير والتثمير في عهده ، وتوثيق أسباب الرفاهية في البلاد استدراج العديد الأكبر من الغربيين إلى استيطان مصر ، أو الاختلاف إليها للسياحة . كما بعث تقدم الحضارة كثيراً من موسري المصريين على السياحة في بلاد الغرب . ولقد كان من أثر ذلك كله استيثاق الصلات بين مصر وبلاد الغرب وما زالت هذه الصلات تطرد في توثقها إلى اليوم [4] .

البعثة الأولى :

إن البعثة الأولى التي تم إيفادها تحت رئاسة المستشرق الفرنسي المهندس ” جومار ” ، وإشراف رائد النهضة العلمية رفاعة الطهطاوي كانت تحتوي على أربعة وأربعين طالباً . كما أشار بذلك أحمد إسكندري وأصحابه عن إيفاد محمد علي البعثات العلمية إلى أوروبا وإقامة مدرسة لطلبة مصر وأبنائها في باريس لمواكبة مسيرة النهضة العلمية : ” لم تقف همة محد علي عند ذلك القدر ، بل لقد امتد به العزم إلى أن يأخذ هذه البلاد في جميع أسباب الحياة بمظاهر الحضارة    الغربية ، فرأى أن يتعجل الفائدة بإيفاد البعوث العلمية إلى أوروبا .

ففى سنة 1242هـ ( 1826م ) بعث إلى باريس أربعة وأربعين من متقدمي الطلاب ليتقسموا طلب الفنون والعلوم المختلفة من إدارة ملكية ، وإدارة عسكرية ، وأخرى بحرية ، والعلوم السياسية ، والطب ، والتاريخ الطبيعي ، والكيمياء ، والفلزات ( المعادن ) والزراعة ، والطباعة ، والحفر وغير ذلك . وكان هؤلاء مزيجاً من المصريين وغير المصريين . وقد جددوا في طلب العلم حتى حذقوا ما تحرروا له من الفنون ، وحتى فاق بعضهم لداتهم من الطلبة الفرنسيين أنفسهم . فلما عادوا إلى مصر كانوا عدةً قويةً لمحمد علي فيما اضطلع به من وجوه الإصلاح في مختلف المرافق في البلاد . ولقد أعظم التاريخ شأن كثيرين منهم بما أظهروا من الفضل والبراعة ، وما انتهضوا به من جلائل الأعمال ، في سعة كفاية وعظيم إحسان .

وما برح – رحمه الله – يوالي إيفاد البعوث العلمية إلى بلاد   الغرب ، أفراداً وجماعات لتلقي العلوم العالية في أجل مدارسها شأناً ، حتى زادت عدتهم في أثناء ولايته على ثلاث مأة طالب .

على أنه لم يقنع بكل ذلك ، هذا . فلقد أقام في باريس نفسها مدرسةً خاصةً نظم فيها نحو أربعين طالباً مصرياً كان فيهم اثنان من أولاده ، واثنان من أحفاده [5] .

يرى عمر الدسوقي أن محمد علي : ” في سنة 1815م أسس مدرسةً حربيةً إعداديةً ، واتخذ لها قصر ابن العيني مكاناً ، وكان كل تلامذتها في أول الأمر من غير المصريين إلا أنهم لم ينجحوا فالتفت إلى المصريين ، ونقلها إلى أبي زعبل ، وأكثر بها من الأساتذة الفرنسيين ، وتعجلا للفائدة كان قد سبق وأرسل في سنة 1813م طائفةً من شبان المماليك لدراسة الفنون العسكرية بإيطاليا . وفي سنة 1818م أرسل بعثةً أخرى إلى إنجلترا لدراسة علم الحيل ( الميكانيكا ) وغيرها ” [6] .

يتحدث أحمد هيكل عن البعثة الأولى وبصماتها البينة ومظاهرها الجلية على النهضة العلمية : ” وهكذا كان أول لقاء عملي بين المصريين والثقافة الغربية في العصر الحديث . وقد أنتج هذا اللقاء ثماراً طيبةً ، فقد عاد هؤلاء المبعوثون بعلم جديد وعقلية جديدة إلى بلادهم ، فعلموا في المدارس وعملوا في المصالح ، وترجموا وألفوا وخططوا ، وبهذا وضعوا أساس الحركة الثقافية والأدبية الحديثة . كما بدءوا تطوير اللغة بما ترجموا إليها من علوم حديثة . وما أمدوها به من مصطلحات جديدة ، ثم بما عبروا عنه من أفكار وموضوعات منوعة . أكثرها يتصل بالحياة ، ويرتبط بموكب الثقافة الإنسانية المتطورة ” [7] .

مشروعات محمد علي بإرسال البعثات :

يتحدث جرجي زيدان عن مشروعات محمد علي وآماله الإصلاحية لإيناع النهضة العلمية ، وإنضاج ثمارها وعطاءاتها ، ودفع عجلتها إلى الأمام بإيفاد طلبة العلم من متعدد الأديان ومختلف الأقطار لتسليح العلوم المتضاربة ، وتثقيف المعارف المتباينة : ” إن محمد علي ثَم رأى الحاجة ماسةً إلى أطباء لتطبيب الجند ، فأنشأ المدرسة الطبية في أبي زعبل سنة 1826م ، وكان هناك مستشفى كبير يسع 0 160 مريضاً ، عهد بإدارتها إلى الدكتور كلوت ( بك ) كما سيجيئ . ثم أخذ في سائر مشروعاته الإصلاحية في الصناعة والتجارة والعلم ، وآماله في الإصلاح متجهةً نحو فرنسا ، وتعجيلاً لثمار سعيه في إعداد الجند المنظم    وتطبيبه ، والعمل على استخراج المعادن ، واستثمار الأرض وإنشاء المعامل وغيرها ، رأى أن يرسل من يتعلم ذلك إلى فرنسا ، فاختار بضعةً وأربعين شاباً من أمم مختلفة عهد بإدارة شؤونهم إلى المستشرق الفرنسي              ” جومار ” ، وعين لكل جماعة منهم العلوم التي يتعلمونها وهي البعثة العلمية الأولى ” .

ثم استطرد جرجي زيدان قائلاً بعد ذكر أسمائهم ومكان ولادتهم ، وما ذهبوا لطلبه من العلوم والفنون : ” يظهر من هذا الجدول أن البعثة العلمية الأولى إلى فرنسا كان عددها 44 طالباً ، عاد منهم 3 والباقون 41 بينهم ثلاثة رؤسائهم : عبدي آفندي المهردار في الإدارة   المدنية ، ومصطفى آفندي مختار الدويدار في الإدارة العسكرية ، والحاج حسن الاسكندراتي في البحرية ، يبقى 37 طالباً ، منهم 4 أرمن مسيحيون ، و24 مسلمون بينهم ثلاثة مشايخ .

وقد كان لهذه البعثة دوي في عالم الأدب بأوربا ولا سيما في باريس [8] .

البعثة الطبية الأولى :

وارتأى كلوت بك أن يستعين في تثقيف تلاميذه بإرسالهم إلى فرنسا ليتقنوا في الطب . فانتخب سنة 1832م اثني عشر تلميذاً من النبهاء أخذهم بنفسه إلى باريس ، وامتحنوا بحضور الجمعية العلمية الطبية ، فشهدت لهم بالبراعة ، وكانت الأسئلة تطرح عليهم بالفرنسية ويجيبون بها ، لأنهم أتقنوها في المدرسة التي تقدم ذكرها فنالوا الشهادات ، وهذه أسماؤهم :

أحمد الرشيدي ، حسن الرشيدي ، محمد منصور ، إبراهيم النبراوي ، حسين الههياوي ، عيسوي النحراوي ، مصطفى السبكي ، محمد الشباسي ، محمد السكري ، محمد الشافعي ، أحمد بخيت ، محمد علي النقلي [9] .

ويقول عمر الدسوقي : ” ثم توالت البعثات ، ومن أشهرها البعثة الطبية الكبرى في سنة 1832م ، وقد اختير طلبتها من نابهي مدرسة الطب المصرية ، ومن نوابغ رجالها محمد علي البقلي . وفي سنة 1844م أرسلت بعثة ضمت خمسة أمراء من أسرة محمد علي ، ومنهم الأمير إسماعيل ، ولذا سميت ببعثة الأنجال ، وهي أكبر بعثات محمد علي وآخر بعثاته الكبرى ، وقد اختار تلامذتها سليمان باشا الفرنساوي من نوابغ تلاميذ المدارس المصرية ، ومن أجل هذه البعثة فتح محمد علي مدرسةً بباريس . ومن أشهر رجالها علي مبارك باشا ، وحسن أفلاطون باشا ، ومحمد عارف باشا ، ومحمد شريف باشا .

وقد أرسل محمد علي إحدى عشرة بعثة آخرها سنة 1847م ، وكان شديد العناية بأعضاء البعثات يتقصى أنباءهم ، ويشرف على دراستهم باهتمام ، ويكتب لهم من حين لآخر رسائل يستحثهم فيها على العمل والاجتهاد ، وينبههم إلى واجباتهم ، وذلك لشدة حاجته في نهضته إلى من يقف بجانبه ، وينفذ مشروعاته الضخمة ، وقد ذكر رفاعة نموذجاً من الرسائل التي وجهها محمد علي إلى طلبة البعثات ، يوبخهم فيها على تقصيرهم ، ويحثهم على الاجتهاد ، ويتعجلهم في قطف ثمار تحصيلهم .

كان لهذه البعثات كلها أثر بالغ في تقدم مصر ونهضتها ، وإرسال نور العلم دافقاً قوياً في ربوعها ، كما كان لها أعظم الفضل في إحياء اللغة ، وجعلها مسايرة للعلم الحديث ، بما ترجم أعضاؤها من كتب وما أدخلوه من مصطلحات ، وما ألفوه في شتى نواحي العالم ” [10] .

محمد علي وطلاب البعثة بعد العودة :

لم يكتف محمد علي ، على إرسال البعثات العلمية وتوجيه عنايته الفائقة على مؤهلاتهم العلمية وكفاءاتهم الأدبية ، بل كان حريصاً على مساهماتم في دفع عجلة النهضة إلى الأمام إثر عودتهم من أوروبا . ويقول عمر الدسوقي : ” وقد بلغ من حرصه – أي محمد علي – على معرفة ما أفادوه من بعثاتهم أن كان يحبسهم في القلعة عقب عودتهم ولا يسمح لهم بتركها إلا إذا ألفوا أو ترجموا كتاباً في المادة التي تخصصوا فيها ، ثم بدفع الكتاب إلى المطبعة ” [11] .

ويعضده د . منذر معاليقي بقوله : ” ويقال : إنه عقب عودة طلاب البعثة الأولى من فرنسا ، استقبلهم محمد علي بديوانه في القلعة ، وسلم كلاً منهم كتاباً بالفرنسية ، في المادة التي اختص بها ، وطلب إليهم ترجمتها إلى اللغة العربية آمراً بإبقائهم في القلعة لا يأذن لهم بمغادرة حيث يتموا ما عهد به إليهم . هذه المدرسة وإن كانت في البدء أنشئت خصيصاً لمصلحة الدولة ، ومنفعة حكومتها وبخاصة عندما جعلت من خريجيها أقلاماً لها ، يقومون على ترجمة الكتب اللازمة لمدارس الحكومة المختلفة ، إلا أنها مع مرور الأيام ، تمكنت من بسط جناحها على الأرض المصرية . ومدت بقية المدارس التربوية والمؤسسات الإدارية والثقافية بأعلام النهضة من كتاب ومفكرين سطعت أسماؤهم في دنيا العالم بأسره ” [12] .

ومع هذا كله فما برح سيل البعثات العلمية يتدفق إلى بلاد الغرب تدفقاً . فوزارة المعارف تبعث في كل عام عدداً كبيراً من محرزي الشهادات العالية ليتحرروا في العلوم والفنون المختلفة التي لا يستطيعون تناولها أو التبريز فيها في بلادهم كما يرسل الأهلون أبناءهم لهذا في رعاية وزارة المعارف وتحت إشرافها [13] .

إن هذه البعثات التي قارب عددها الأربع مأة أنفق محمد علي عليها مبالغ طائلة قدرت بربع مليون جنيه مصري ، إلا أن البعثة الطبية لعام 1832م والتي كان طلابها من مدرسة الطب المصرية ، وبعثته الأنجال لعام 1832م التي ضمت خمسةً من أفراد أسرة الخديوي ، من بينهم حفيده إسماعيل تعدان من أهم البعثات التى هيأت للبلاد المنافع والخيرات [14] .

موقف شوقي ضيف تجاه البعثات :

على حين نرى الناقد البصير للعصر الحديث د . شوقي ضيف أنه كان يرى أن الخديو محمد علي قام بهذه البعثات والإرساليات لتحقيق أغراضه المرجوة الشخصية ، وأحلامه المقصودة الذاتية ، ولم تكن على دافعة النزعة القومية ، ولا باعثة الوطنية المصرية ، حتى إذا رأى ابنه الخديو عباس أحلام محمد علي لم تتحقق ، قام بإغلاق المدارس التي فتحها محمد علي ، فيقول : و ” كانت مصر قد تهيأت لتفتح صدرها للعلم الأوروبي ، ووجد طريقه إلى المدارس التي أنشئت من حربية ، وصناعية ، وهندسية ، وطبية . ولما كان المعلمون في هذه المدارس من الفرنجة وكان لا بد للمصريين أن يحسنوا اللغات الأجنبية ليفهموا    عنهم ، وجدت الحاجة إلى مدرسة الألسن وإلى بعوث ترسل إلى الغرب ، حتى يتقن المصريون اللغات الغربية ، وأنشئ في أثناء ذلك كثير من المدارس الابتدائية والثانوية .

وكل هذا ساعد فيه محمد علي ليوجد جيشاً قوياً لنفسه يحقق به أحلامه في إمبراطورية ضخمة ، فلم يكن غرضه التعليم من حيث هو أورد الحياة العلمية الخصبة إلى مصر من حيث هي ، وإنما كان غرضه شخصياً لنفسه ولأحلامه ، فلما لم تتحقق أحلامه انصرف عن التعليم ، وأغلق ابنه عباس المدارس من بعده . ولكن الصلة بين مصر وأوروبا أو بين الحياة العقلية المصرية والحياة العقلية الأوروبية قامت ، ولم يعد من الممكن أن يقضى عليها لسببين : أولاً وجود طائفة من العلماء المصريين الذين بعثوا إلى أوروبا وعادوا ليثبتوا حركة المزج الحديثة بين حياتنا وحياة الأوروبيين . وثانياً مهاجرة كثير من الأوروبيين إلينا وتأسيسهم للشركات والمدارس في ديارنا ، وزار مصر كثيراً من أدبائهم وأخذت تؤثر بتاريخها القديم والحديث في أدبهم والأدب الأوروبي عامةً .

لذلك لم يلبث سعيد أن فتح المدارس ، وأخذت الحركة تنمو وتؤتي أكلها في عصر إسماعيل فإنه استجاب للروح المصرية ، ودعم الصلة بأوروبا ، فأنشأ ” دار الأوبرا ” و ” المكتبة الخديوية ” وأكثر من المدارس الابتدائية والثانوية ، وأقام مدرسةً للبنات ، وبذلك أصبح العلم للعلم ، ولم يعد العلم للجيش كما كان الشأن في أوائل القرن ” [15] .

وهذا الأمر جدير بالذكر ، أن اتصال الشرق بالغرب قد سبق في عهد فخر الدين ( 1572 – 1635م ) ( لكنه لم يكن على نطاق وسيع ، بالإضافة كان مصبوغاً بصبغة دينية )  ، وجرت منذ ذلك الحين حركة البعثات الأوروبية إلى الشرق بواسطة الإرساليات ، وتأسست في روما وباريس وغيرهما من كبريات المدن الأوروبية مدارس لتعليم أبناء الشرقيين ولا سيما اللبنانيين منهم ، وقد تخرج من تلك المدارس طغمة مباركة من أرباب العلم والثقافة ( منهم إبراهيم الحاقلاني ، والمطران جرمانوس فرحات ، والأب بطرس مبارك ، ويوسف سمعان السمعاني ) الذين لمعوا في سماء المعرفة ، وكان لأقوالهم وكتاباتهم أصداء عالمية ، وكان من أبحاثهم في آثار الشرقيين حافز لعلماء الغرب حفزهم على دراسة أدب الشرق ونتاج عقله ، وكان من ذلك حركة الاستشراق التي لها تأثير كبير على النهضة الحديثة والتي وجهت الباحثين شطر الدراسات العلمية ، والأخذ بأساليب البحث العلمي ، وتصحيح النظريات القديمة في التاريخ والنقد والعلوم [16] .

البعثات العلمية في عهد عباس :

أما البعثات العلمية في عهد عباس فقد انكمشت مع إغلاقه للمدرسة البحرية المخصوصة عام 1849م ، وبالرغم من قلة المبعوثين في عهده الذين لم يتعد عد دهم عامة 48 مبعوثاً ، فإنه لم يفكر في إيفاد أحدهم للتخصص في الشئون البحرية أو صناعة السفن ، وأنه قد استدعى بعضهم [17] .

البعثات العلمية في عهد سعيد :

إن حركة البعثات في عهد سعيد فقد خمدت ولم يرسل إلى أوروبا في عهده سوى 14 طالباً [18] .

البعثات العلمية في عهد إسماعيل :

إن خديوي إسماعيل لم يقنع في نشر العلم في فتح المدارس وتشييدها ، بل لقد أحيا أيضاً سنةً جديدةً في إرسال البعوث من متقدمي طلاب المدارس إلى بلاد الغرب المختلفة لتروي العلم العالي من أصفى مناهله . كما استقدم من بلاد الغرب كثيراً من فطاحل العلماء ليستعين بهم على ما هو بسبيله من وجوه الإصلاح في مرافق الحياة [19] .

كما أوفد إسماعيل البعثات إلى جميع أنحاء أوروبا ليضطلع أعضاؤها من العلوم ، والآداب ، والفنون ، والصناعة . وبلغ عدد الذين أوفدوا إلى أوروبا للتعليم 174 طالباً سنة 1873م [20] .

البعثات العسكرية في عهد إسماعيل :

– بعثة حربية مصرية ، أوفدت إلى فرنسا ، وكانت برئاسة شاهين باشاه ( من يوينه إلى أكتوبر 1864م ) وقوامها ستة عشر عضواً كلهم  مصريون .

– البعثة الحربية الفرنسية أوفدت إلى مصر سنة 1864م ، وقوامها في البدء سبعة أعضاء برئاسة مرشربك .

– البعثة الأميركية ، وكان قوامها في البدء 21 ضابطاً برئاسة موت باشاه ، وقد بلغ عدد الضباط الذين دخلوا منهم في خدمة الخديو  48 .

– بعثات الطلبة المصريين الذين أوفدوا إلى المدارس العسكرية بأوروبا ليستكملوا دراسة الفن العسكري [21] .

* أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة مولانا آزاد الأردية الوطنية .

[1] أحمد الإسكندري وآخرون : المفصل في تاريخ الأدب العربي ، دار إحياء العلوم ، بيروت ، 1994م ، ص 518 .

[2] د . أحمد هيكل : تطور الأدب الحديث في مصر ، دار المعارف ، القاهرة ، ص 27 .

[3] د . منذر معاليقي : معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية ، دار إقرأ ، بيروت ،   ص 68 .

[4] أحمد الإسكندري وآخرون : المفصل في تاريخ الأدب العربي ، دار إحياء العلوم ، بيروت 1994م ، ص 548 .

[5] نفس المصدر : ص 520 .

[6] عمر الدسوقي : في الأدب الحديث ، الطبعة الثامنة ، دار الفكر العربي ، ج 1 ، ص 20 .

[7] د . أحمد هيكل : تطور الأدب الحديث في مصر ، دار المعارف ، القاهرة ، ص 27 .

[8] جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية ، مكتبة الحياة ، 1978م ، ج 4 ، ص 22 .

[9] نفس المصدر : ج 4 ، ص 31 .

[10] عمر الدسوقي : في الأدب الحديث ، الطبعة الثامنة ، دار الفكر العربي ، ج 1 ، ص 21 – 22 .

[11] عمر الدسوقي : محاضرات عن نشأة النثر الحديث وتطوره ، مطبعة الرسالة ، 1961م ، ص 3 .

[12] د . منذر معاليقي : معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية ، دار إقرأ ، بيروت ،  ص 119 .

[13] أحمد الاسكندري وآخرون : المفصل في تاريخ الأدب العربي ، دار إحياء العلوم ، بيروت ، 1994م ، ص 533 .

[14] د . منذر معاليقي : معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية، دار إقرأ، بيروت ،    ص 18 .

[15] شوقي ضيف : الأدب العربي المعاصر في مصر ، دار المعارف ، الطبعة الرابعة عشرة ،    ص 14 – 15 .

[16] حنا فاخوري : الجامع في تاريخ الأدب العربي ، دار الجبل ، بيروت لبنان ، ج 2 ، ص 10 .

[17] خلف عبد العظيم سيد الميري : تاريخ البحرية التجارية المصرية ، 1854 – 1879 ،   القاهرة ، ص 35 .

[18] د . صلاح أحمد هريدي : عن دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر ، عين الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، 2000م ، ص 273 .

[19] أحمد الإسكندري وآخرون : المفصل في تاريخ الأدب العربي ، دار إحياء العلوم ، بيروت 1994م ، ص 548 .

[20] جورج جندي بك ، جاك تاجر : إسماعيل كما تصوره الوثائق الرسمية ، القاهرة 1947م ، ص 126 ، نقلاً عن دراسات ، ص 276 .

[21] نفس المصدر .