صلة العلم القرآني بالقلم ومنهاجه التعليمي

(2) الزعيم السياسي أحمد حسن وزوجته إلى رحمة الله تعالى
أبريل 20, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور البروج والطارق والأعلى والغاشية والفجر والبلد والشمس والضحى والشرح والتين والعلق والقدر والبينة والعاديات والقارعة )
يونيو 3, 2022
(2) الزعيم السياسي أحمد حسن وزوجته إلى رحمة الله تعالى
أبريل 20, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور البروج والطارق والأعلى والغاشية والفجر والبلد والشمس والضحى والشرح والتين والعلق والقدر والبينة والعاديات والقارعة )
يونيو 3, 2022

التوجيه الإسلامي :

صلة العلم القرآني بالقلم

ومنهاجه التعليمي

بقلم : الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ العلق : 1 – 5 ] .

الدين الذي لم ينس هذا القلم المتواضع حتى في الحلقة الأولى من وحيه ، ولم ينسه لدى هبوب النفحة الأولى من النفحات الربانية ، لم ينس أن يؤكد أن العلم مرتبط بالقلم ، لم ينسه في خلوة غار حراء ؛ التي ارتادها نبي أمي ، يتلقى الرسالة الإلهية لهداية البشرية ، ذلك النبي الذي لا عهد له بالقلم ، ولم يعرف من ذي قبل كيف يحرِّك القلم ، ولم يتعلم في الكتابة والقراءة بتاتاً ، شيئ لن يجد الإنسان نظيره في تاريخ العالم البشري ، ولا يمكنه أن يتصور هذا المكان العالي ، لا يمكنه أن يتصور ينزل وحي على نبي أمي بين أمـة أمية في منطقة لم تعرف القراءة والكتابة معرفةً تذكر ، فضلاً عن المدارس ، والمعاهد ، ودور التعليم ، والجامعات في الوقت الذي تم فيه لأول مرة اتصال السماء بالأرض بعد عدة قرون ، ولا يبتدئ هذا الوحي بكلمة ” اعبد ” ولا بكلمة ” صلِّ ” أو ما إليهما من الكلمات المتجانسة ، وإنما يبتدئ بكلمة ” اقرأ ” يخاطب المنزل عليه بالقراءة ولا عهد له بها ، لكي يقرر ، ويؤكد له أن الأمة التي يكلف بهدايتها ، وتربيتها ، وتعليمها هي أمة ليست ولعةً بالعلم فحسب ، بل ستكون معلمة العالم ، مولعةً بنشره ، وتصعيده ، وترقيته ، والعهد الذي تقوم فيه بوظيفة الهداية ، والتبليغ ، والتربية ، والتعلم ، إنه ليس عهد الأمية ، والوحشة ، والجهل ، وعهد الظلمة ، والهدم ، والتخريب ، وإنما هو عهد العلم ، والعقل ، والتفكير ، وعهد النظر ، والحكمة ، وعهد البناء والتعمير ، وعهد حث الإنسانية ، عهد الرقي والتقدم .

كانت التجربة الفريدة الطريفة – لو صح التعبير – في تاريخ الديانات ، وتاريخ العالم : أن الوحي الأول الذي نزل على النبي الأمي بين الأمة الأمية كانت بدايته بكلمة ” اقرأ ” : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )        [ العلق : 1 ] ، كان من الخطأ الفادح أن انقطعت صلة العلم بالرب ، فحاد عن الصراط المستقيم ، فجاء الوحي الإلهي الذي نزل على النبي الأمي يصله بالله ، ويربطه بالرب تبارك وتعالى ، حيث جاء ذكر العلم مقروناً باسم الرب ، لكي يعلم البشر ضرورة بداية العلم ، والتعليم ، والقراءة باسم الرب الذي وهب هذه النعمة الغالية ، ومنَّ بها على عباده ، وهو الذي خلقه ، فلا يتقدم تقدماً متّزناً إلا تحت توجيهه ، وهدايته ، إنّ الآية التي نتحدث عنها ، إنّها ذات ثورة ، وانقلاب عظيم في التفكير ، والعقلية ، والنفسية ، قرعت الآذان البشرية في بداية الإسلام ، وكان ذلك شيئاً لم يخطر من أحد على بال ، ولم يتصوره في حال من الأحوال ، لو سئل الأدباء ، والحكماء ، والفلاسفة ، والعلماء في العالم البشري عن مفتتح هذا الوحي الذي سينزل على النبي الأمي ، لم يكن أحد منهم – يعرف طبيعة تلك الأمة التي نزل بينها الوحي ويعرف عقليتها – ليقول : إنه سيبتدئ بكلمة ” اقرأ ” . كان لهم أن يتنبؤوا بكل شيئ ، ولكن لم يكن لهم ليتكهنوا أن الوحي سيكون استهلاله بكلمة ” اقرأ ” ، ثم إنه لم يبتدئ بكلمة ” العلم ” وإنما بالقراءة ، والقراءة تتضمن الكتابة  والقلم ، والورق ، بينما العلم قد يكون وهبياً لا يحتاج إلى القلم ، والقراءة ، والكتابة ، والورق ، مما دل على أن هذا العالم سيكون وليد القلم ، وليد الورق ، وليد الكتابة ، وليد المكتبات ، والكتب ، والمؤلفات ، والصحف ، وليد التجارب ، وليد الذكاء : ( نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) [ القلم : 1 ] .

هذا الدين لن يفارق العلم :

مما يجب الانتباه له : أن الوحي الإلهي أكد أن طبيعة هذا الدين : أنه لن يفارق العلم ، لأن الرسالة الأولى التي وجهته إلى البشرية تأمر بالقراءة ، وكيف يسوغ أن يبقى المسلمون جاهلين ، لا يعرفون القراءة ، والمسلم الذي قطع صلته عن العلم ليس بمسلم حقيقي ، ولا يجوز له أن يدعي أنه ممثل صحيح للإسلام ، ثم يجب الانتباه لهذه الدعوة الثورية :    ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [ العلق : 1 ] ، كيف ينبه هذا الوحي الإلهي على أن تكون هذه الرحلة – رحلة العلم – في هداية هاد كامل ، وليس هو إلا الله العليم الكريم ؛ لأن الرحلة طويلة شاقة ، معقدة خطرة ، والطريق وعرة ذات منعطفات كثيرة ، تعترضها بحار ، وأنهار ذات عمق سحيق ، وتتخللها غابات كثيفة ، فيها سباع مخوفة ، وحيَّات ، وعقارب سامة ، وكل حيوان ضار .

لكنه ليس مجرد علم ، ليس عبارةً عن معرفة بالدُمى واللعب ، وليس عبارةً عن التسلية ، وليس مما يحرش فيما بين الإنسان والإنسان ، والأمة والأمة ، وليس عبارةً عن معرفة طرق ملء البطون ، وعبارةً عن تحريك اللسان ، ولوك الكلمات ، بل هو : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )    [ العلق : 1 – 5 ] .

فهل رفع من قيمة القلم أحد في التاريخ البشري أكثر من ذلك ؟ حيث يذكر بهذه الأهمية ، وبهذا التمهيد الكريم ، في خلوة غار حراء ، وفي الوحي الأول الذي ينزل من السماء ، ذلك القلم الذي ربما لم يكن بالإمكان تواجده في بيت من بيوت مكة ، لا أكاد أدري لئن رحتم تبحثون عنه رجعتم بفائدة أم لا ، ربما وجدتموه في بيت ورقة بن نوفل ، أو أي رجل تعلم الكتابة في ديار العجم ، القلم الذي ربما لا تجدون ذكره في دواوين الشعراء العرب الجاهليين المعاصرين مهما قلبتم الصفحات ، وأعدتم القراءة .

عصارة كل علم وثقافة : ( عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) :

ثم دل على حقيقة خالدة ذات انقلاب عظيم ، وهي أن العلم لا حد له ، ولا نهاية ، فقال : ( عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ [ العلق : 5 ] ، وليس العلم الحديث ( SCIENCE ) إلا انعكاساً لـ ( عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ [ العلق : 5 ] ، وكذلك التكنولوجيا ليس إلا مظهراً لـ ( عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ [ العلق : 5 ] ، وينزل الإنسان على القمر ، ولا يعني ذلك إلا ( عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ [ العلق : 5 ] ويغزو الفضاء ، ويطوي أرجاءه طياً ، ويسخر أشعة الشمس ويشق طريقه بين النجوم والكواكب ، ويحلم بالنزول بين السماكين ، إن كل ذلك ليس إلا عبارة عن ( عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ [ العلق : 5 ] .

على كل الأمة التي كان أساسها الأول على القراءة ، وخاطبها الوحي الإلهي الأول بذكر القلم ، إن تلك الأمة لن تفارق العلم والمعرفة ، لأنها تلازمه ملازمة الظل ، أو ملازمة الغريم .

ثم يجب أن يكون في الاعتبار لدى إنشاء كل مدرسة ، أو   جامعة ، أو اتخاذ منهـج تعليمي لتعليم هذه الأمة ، أن يكون الهدف من كل ذلك ترسيخ الإيمان بالعقائد والحقائق التي آمنت بها من ذي قبل ، وأن يتأتى هذا الترسيخ عن طريق القلب ، والعقل معاً ، ولا يكفي اطمئنان القلب ، أو العقل فقط ، لأنه حينئذ سيحدث صراع بينهما في الحياة الفردية للإنسان ، وسيتدرج هذا الصراع إلى الحياة الجماعية . . . وعلى ذلك فيتخرج جيل يتصارع مع مجتمعه ، ويتصارع مع دينه وعقيدته ، وتضيع كل القوى في إزالة ” الأنقاض ” فقد رأى بعض قادة الشعوب والبلاد الإسلامية : أنّه يجب أولاً إزالة الأنقاض ، وركزوا كل عنايتهم على إزالة الأنقاض من العقائد والحقائق ، واستنفذت هذه العملية كل قواهم ، واستغرقت فرصة أعمارهم ، ولم يتمكنوا من عرض دعوتهم ، ونشر رسالتهـم ، وزرع أفكارهم التي كانوا بصدد نشرها .

فإذا كان هناك منهاج تعليمي يعمق إيمان الأمة بالعقائد والحقائق التي تحتضنها فهو منهاج موفق ، ولا سيما بالنسبة إلى الإنسان المسلم الذي جاء يحمل رسالةً ، ويحتضن دعوةً ، فيجب أن يكون منهاجه التعليمي ، والثقافي بحيث يرسخ الإيمان في قلب المثقف ، وقلب الدارس وقلب الطالب الجامعي ، وقلب الفيلسوف ، وقلب المفكر ، ويجعلهم جميعاً توفر لهم عقولهم دلائل لذلك ، ويستخدمون الثروة العلمية القديمة والجديدة المنتشرة على ظهر البسيطة في تحقيق هذا الغرض الأكبر لتقرير هذه الدعوى الكريمة .

حماية الدين من التحريف والمسلمين من الانحراف :

وعلى حملة علوم الدين وأصحاب الرسوخ والاختصاص فيها من المتخرجين في الجامعات الإسلامية والمدارس الدينية ، وعلى الدعاة ، عهدة صيانة الإسلام عن التحريف ، والمسلمين عن الانحراف ، والحفاظ على الدين ، والذب عن حوزته ، ويحتاجون من أجل القيام بذلك إلى الصفات الدقيقة السامية المثالية ، والقوة الروحية الداخلية ، والثقة بخلود الدين ، والغيرة عليه والقدرة على التمييز الدقيق بين الجاهلية والإسلام ، والإشراك ، والتوحيد ، والسنة والبدعة ، والامتياز بالاشتغال بالحديث الشريف [1] ، ومطالعة تاريخ المصلحين المجددين للدين في عصور      مختلفة [2] ، إلى ما لا يحتاج إليه بطبيعة الحال من يستعمله الله في نشر دين من الأديان ، ولذلك فإن هذا الواجب وضع على عاتق العلماء ، ونائبي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخُص به العلماء الربانيون المتفقهون في الدين الغيارى عليه ، المميزون بين الإسلام والجاهلية – بجميع أنواعها وألوانها – المطلعون على تاريخ الديانات ، والصحف التي تعرضت لتحريفات المحرفين ، وإغراض المغرضين ، وقد جاء في حديث صحيح :    ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ” [3] .

وما كانت لتجري هذه الكلمات العميقة المعاني ، والدقيقة الدلالات إلا على لسان نبي مرسل صادق مصدوق ، فلو قرأتم تاريخ الإصلاح والتجديد في الإسلام ، والمساعي والمجهودات التي قام بها  العلماء ، والأئمة ، والقائمون بحفظ الدين لوجدتم جميع الجهود المبذولة في سبيل الحفاظ على الدين تأتي تحت هذه العناوين الثلاثة ، إن للكلمات أعماقاً وآفاقاً هي أوسع وأعمق مما تبلغ إليه فهوم الرجال ، وتحد بحدود النماذج والأمثال .

ومن واجبات العاملين في مجال الدعوة الإسلامية هو صيانة الحقائق الدينية ، والمفاهيم الإسلامية من التحريف ، وإخضاعها للتصورات العصرية الغربية ، أو المصطلحات السياسية والاقتصادية التي نشأت في أجواء خاصة ، وبيئات مختلفة ، ولها خلفيات ، وعوامل ،  وتاريخ ، وهي خاضعة دائماً للتطور والتغيير ، فيجب أن نغار على هذه الحقائق الدينية ، والمصطلحات الإسلامية غيرتنا على المقدسات ، وعلى الأعراض ، والكرامات ، بل أكثر منها وأشد ؛ لأنها حصون الإسلام المنيعة ، وحماه ، وشعائره ، وإخضاعها للتصورات الحديثة ، أو تفسيرها بالمصطلحات الأجنبية إساءة إليها لا إحسان ، وإضعاف لها لا تقوية ، وتعريض للخطر لا حصانة ، ونزول بها إلى المستوى الوطني المنخفض ، ولا رفع لشأنها كما يتصور كثير من الناس .

العناية بتربية السيرة :

والوظيفة الثانية للجامعات تربية السلوك والسيرة ، حتى يكون المتخرجون فيها قدوةً للعلماء والدعاة ، فضلاً عن أفراد الأمة ، وآحاد الناس ، فلتُوجد الجامعات سيرةً يربأ صاحبها بنفسه عن أين يبيع ضميره  ” بحفنة من شعير ” . إن الفلسفات ، والنظم المضادة للإسلام ترى أن إنسان اليوم يمكن شراؤه في السوق بقيمة أو بأخرى ، فإن لم يرض بهذه الكمية من الثمن فسيرضى بكمية أكثر منها . . . وسر النجاح الحقيقي لجامعة ما أن تربي السيرة ، فتخرج رجالاً من المثقفين لا يرضون أن يبيعوا ضمائرهم بأي قيمة مهما كانت رفيعةً غاليةً ، ولا تستطيع فلسفة هادمة أو دعوة منحرفة . أو حكومة ذات سياسة خاطئة ، أو قوة مدمرة ، مهما كانت لبقة ذات دهاء ، أن تشتريهم بأي ثمن غال ، ويقولون بملء أفواههم بلسان المقال ، أو بلسان الحال :

نرى العنقاء أكبر أن تصادا

” إن حرية القلب هي سيادة ، وسلطان ، أما العناية الزائدة  بالبطن . فهي مدعاة للموت ، والخيار بيديك ، فإما هذا ، وإما ذاك ، يا أيها الطائر اللاهوتي ! ( يخاطب الإنسان المسلم ) اعلم : أن الموت خير من القوت الذي يقصر جناحك ، ويمنعك من التحليق ” .

من عوامل التأثير في المجتمع وقوة المقاومة للتحديات والمغريات :

ويحلو لي أن أنقل هنا قطعةً من كتابي : ” رجال الفكر والدعوة في الإسلام ( الجزء الأول ) ” بمناسبة الحديث عن زهد الإمام أحمد بن حنبل وتوكله على الله وعزوفه الزائد عن أموال الحكومة ، وعطاء الخليفة والأمراء :

” وقد رأينا الزهد [4] والتجديد مترافقين في تاريخ الإسلام ، فلا نعرف أحداً ممن قلب التيار ، وغيَّر مجرى التاريخ ، ونفخ روحاً جديدةً في المجتمع الإسلامي أو افتتح عهداً جديداً في تاريخ الإسلام ، وخلف تراثاً خالداً في العلم والفكر والدين ، وظل قروناً يؤثر في الأفكار والآراء ، ويسيطر على العلم والأدب ، إلا وله نزعة في الزهد ، وتغلبٌ على  الشهوات ، وسيطرة على المادة ورجالها ، ولعل السر في ذلك : أن الزهد يكسب الإنسان قوة المقاومة ، والاعتداد بالشخصية والعقيدة ، والاستهانة برجال المادة ، وبصرعى الشهوات ، وأسرى المعدة ، ولذلك ترى كثيراً من العبقريين والنوابغ في الأمم ، كانوا زهاداً في الحياة ، متمردين على الشهوات ، بعيدين عن الملوك والأمراء والأغنياء في زمانهم ، ولأن الزهد يثير في النفس كوامن القوة ، ويشعل المواهب ، ويلهب    الروح ، والدعة ، والرخاوة تبلِّد الحس ، وتنيم النفس ، وتميت القلب ” .

روح التضحية والفداء :

والمسؤولية الثالثة للجامعة الإسلامية أن تخرَّج شباباً يقفون حياتهم لخدمة الأمة ، ويستعدون للتضحية والفداء ، ينعمون بالجوع بما لا ينعمون بالشبع والري ، والتنعم ، والتمتع بالحياة ، ويطيبون نفساً بالحرمان ، ما لا يطيبون بالوجدان ، ويصرفون أوقاتهم وقواهم الخيرة ومؤهلاتهم الفكرية والعلمية ، والرصيد العلمي والفكري الذي زودتهم به جامعاتهم في رفع رأس الأمة عالياً وفي إعلاء كلمة الله ، وفي صنع أمة ذات رسالة ، وبناء بلد مسموع الكلمة ، مرهوب الجانب .

فهذان أمران لا بد منهما : الأمر الأول أن توفر الجامعات الإسلامية غذاءً يشبع العقل والقلب معاً ، وضوءاً ينير لهما الطريق في وقت واحد ، حتى يتجها جنباً إلى جنب ، وبتعاون متبادل إلى تعزيز الإيمان بالحقائق والعقائد التي آمنت بها الأمة .

تكوين اختصاصات وقدرات ممتازة في الدراسة والتحقيق :

ولا بد أن يكون نصب أعينكم هو تخريج الرجال ذوي القدرات العالية ، وأريد أن أصارحكم بهذه المناسبة أن قيمة بلد من البلاد ليست في كثرة جامعاتها ومعاهدها ، إنها نظرية بالية قد تقادم عهدها ، وأصبح أصحاب يُعرفون بالرجعية ، وقصر النظر ، بل القيمة في كثرة أبنائه الذين يثبتون تميزهم ، واختصاصهم في علم من العلوم ، وفي مجال من مجالات البحث والتحقيق ، ويقفون حياتهم للبحث والدراسة ، ونشر العلم والثقافة . وتثقيف الأمة والشعب ، ورفع معنويات أمتهم ، وصنعها أمةً ذات قلب وضمير أبي ، وفي كثرة الشباب الذين ينقطعون إلى خدمة الدين ، والعلم ،والأمة ، والبلد ، ضاربين بالشهرة الكاذبة ، ورقيهم الشخصي عرض الحائط ، وذلك هو المقياس الحقيقي الأصيل ، الذي يقاس به البلد والأمة ، وليكن هذا هو المقياس الوحيد في الشرق   والغرب ، فلا تقيم لبلد قيمة إلا نظراً إلى عدد الشباب الذين يتسامون عن لذائذ الحياة الرخيصة ، والمناصب والجاه ، والتقدم الشخصي ، ويتوافرون على العمل الجاد البناء ، وعلى العمل العلمي الإيجابي النافع ، وعلى رفع مستوى الأمة عقلياً وفكرياً ، وعلى التوصل إلى نظريات علمية ذات أهمية ، وعلى بحث علمي مضن يتطلب الصبر ، والتحمل على تعزيز البلاد من جميع النواحي .

إن قيمة الشعوب والأمم – فضلاً عن قيمة الجامعات والمؤسسات – وسر عظمتها ، وما تستحق به من إجلال وإكبار ، وتقدير واعتراف ، وجود أصحاب تفوُّق ، واختصاص ، وشهرة عالمية في علوم وآداب ، ومجالات علمية ، وبحوث ، واكتشافات جديدة ، وهذه كانت ميزة الأمة الإسلامية ، فقد كانت للمسلمين الرئاسة العلمية والزعامة الفكرية نحواً من ألف سنة على الأقل [5] ، بإقرار من المؤرخين الأوروبيين .

ومن واجبات المتخرجين في جامعاتنا النابغين أن يهيئوا بديلاً عن كتب المستشرقين وعلماء الغرب في التاريخ الإسلامي ، وفي تاريخ الحضارة الإسلامية ، والفكر الإسلامي ، والعلوم الإسلامية ، كالحديث ، والفقه ، وأصول الفقه ، وتاريخ التشريع الإسلامي ؛ التي اعتبرت مرجعاً في هذه المواد ، وقُررت من كثير من أساتذتها ومن الباحيثن في هذه الموضوعات وأصحاب رسائل الدكتوراه ، فبثت السموم في عقول كثير من الدارسين والباحثين الناشئين ، وأنشأت شبهات حول الإسلام والمصادر الإسلامية وأحدثت في نفوسهم يأساً عن مستقبل الإسلام ، ومقتاً على حاضره ، وسوء ظن بماضيه ، كما أن لها سهماً كبيراً في الحث على ” إصلاح الديانة ، وإصلاح القانون الإسلامي ” [6] وليكن للبلاد الإسلامية والشعوب المسلمة اكتفاء ذاتي في الثقافة ، والتربية ، كما يجب أن يكون لها استقلال في مجال السياسة ، والاقتصاد .

تلك هي أهداف حقيقية يجب أن نصبو إليها ، ونضعها في  اعتبارنا ، ونجعلها نصب أعيننا ، أما مجرد التعليم والتثقيف والتأهيل لشغل الوظائف والمناصب ، فليس مما يثنى به على جامعة ، وليس أبداً مما يجلب الحمد ، ويستخرج الإعجاب .

نفح روح الإيمان واليقين في الحياة والمجتمع :

يجب أن يكون هدف الجامعة – التي قامت في هذا العهد العصيب ، وفي هذه البلاد المتأزمة – أن تعمل على إزالة الاضطراب والقلق الذي يسود جميع الدول الإسلامية منذ مأة عام تقريباً . . . تفككت عُرى عقائدنا منذ بدأ الغزو الفكري والحضاري الغربي ، وحدث صراع نفسي وفكري استنفدت مقاومته معظم القوى العقلية ، والفكرية ، والعلمية لدى الدعاة . . . إنّ ذلك الوضع غير طبيعي يجب أن يزول في أقرب وقت ، لكي تتوجه هذه القوى والقدرات إلى الأهداف البناءة ، وإلى إنقاذ البلد ، ودفع عجلته إلى الأمام .

الحقيقة أن الأدب والشعر ، والفنون الجميلة ، والحكمة ، والفلسفة . والتأليف والتصنيف ليس من وراء كل ذلك إلا غرض واحد ، وهو أن تتولد في صاحبه حياة جديدة ، وإيمان جديد ، وبالتالي في الأمة التي هو عضو فيها ، والمجتمع الذي هو جزء منه .

وأود أن أنشد لكم أبياتاً قالها شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال ، وهو يخاطب الأديب والشاعر ؛ لأنه ينطبق على الوضع الذي نعيشه جميعاً :

” يا أهل الذوق والنظر العميق ! أنعم وأكرم بنظركم ، ولكن أي قيمة للنظر الذي لا يدرك الحقيقة ؟ لا خير في نشيد شاعر ولا في صوت مغن ، إذا لم يفيضا على المجتمع الحياة والحماس ، لا بارك الله في نسيم السحر إذا لم تستفد منه الحديقة إلا الفتور ، والخمول ، والذوي والذبول ” .

إن الأوضاع التي نمر بها اليوم نحتاج فيها إلى أن نأتي بأعجوبة ، وتلك الأعجوبة سوف لن تتحقق إلا عن طريق الرسالة الإسلامية ؛ لأنها وحدها التي تجعل حاملها يصنع المعجزات ، ويأتي بخوارق العادات ، ويبطل المقاييس ، ويحطم المعايير التقليدية ، ويسخر من كل الموازين التي آمن بها العالم الغربي الجاهلي ، يقول الدكتور محمد إقبال :

” أنا لا أعارض التذوق بالجمال ، والشعور به ، فذلك أمر    طبيعي ، ولكن أي فائدة للمجتمع من علم لم يكن تأثيره في المجتمع كتأثير عصا موسى في الحجر والبحر ، وذلك : أن الأمم لا يرتفع شأنها ومكانها في خريطة العالم حتى تقدر على صنع المعجزات ” .

[1] انظر للتفصيل في محاضرة العلامة المؤلف بعنوان ” دور الحديث في تكوين المناخ الإسلامي وصيانته ” في ” محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة ” للعلامة الإمام السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، طبع دار ابن كثير ، دمشق .

[2] ليرجع إلى سلسلة العلامة الندوي ” رجال الفكر والدعوة في الإسلام ” ، طبع دار ابن كثير ، دمشق .

[3] قال الهيثمي في مجمع الزوائد ( ١/١٤٠ ) رواه البزار .

[4] ليس المراد به الزهد الأعجمي أو المسيحي الرهباني ، فلا رهبانية في الإسلام ، ولا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات ، إنما المراد به سمو النفس والنظر ، والزهد في زخارف الحياة ، وفضولها وكمالياتها والتهافت على حطام الدنيا ، والتنافس في الجاه والمنصب .

[5] إذا اعتبر القرن الثاني الهجري – وهو زمن الحكم الأموي الواسع – بداية تأثير المسلمين العلمي والفكري في الشعوب والبلاد المتحضرة التي كان يحكمها المسلمون ، وسُلِّم استمراره إلى القرن الحادي عشر الهجري ، فقد نشأت الحركة الانتقالية في أوربة             ( Renaissance ) في القرن الرابع عشر المسيحي ، وانتشرت في القرن السابع عشر المسيحي والحادي عشر الهجري وتميزت بازدهار الأدب والفن بانبلاج فجر العلم الحديث في الغرب المسيحي .

[6] ليرجع للتفصيل إلى بحث العلامة الندوي بعنوان ” المستشرقون ونفوذهم في ميدان التفكير ” في كتابه ” الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية ” ، طبع دار القلم ، الكويت ، والمجمع الإسلامي العلمي ، لكهنؤ ( الهند ) .