تعالوا إلى السعادة المفقودة !

الكعبة المشرفة وآثار تقديسها في وحدة الأمة
يوليو 13, 2021
معروف الرصافي وتأثر شعره بالقرآن الكريم ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 13, 2021
الكعبة المشرفة وآثار تقديسها في وحدة الأمة
يوليو 13, 2021
معروف الرصافي وتأثر شعره بالقرآن الكريم ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 13, 2021

الدعوة الإسلامية :

تعالوا إلى السعادة المفقودة !

د . محمد أشرف علي الندوي الأزهري *

قد تباينت الآراء في مفهوم السعادة وأساسها وأنواعها ، فهناك من الناس من يرى أن السعادة لا تتحقق إلاَّ بجمع الأموال ، وبعض منهم يرونها في رجاحة العقول وجودة الأفكار وصحة الجسم ، وهناك من يراها في الأكل الحلال والتقدم والرقي ، ومنهم من يراها في الأعمال الصالحة والمواظبة عليها وفي طمأنينة القلب والأمن في البيت وفي الإيمان بالله والتوكل عليه ، وعدد كبير منهم يرونها في مجرّد قراءة الصلاة والتسليم على سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا مانع من دخولِ كلِّ ما ذُكر في معنى السعادة ما دام لم يكن متنافياً مع شريعة الله ومكارم الأخلاق التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم  لإتمامِها .

ولا ريب في أن سعادة الدنيا مقرونة بسعادة الآخرة ، والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة إنَّما هي برضا الله ووجهه للمؤمنين المتقين كما أخبرنا القرآن الكريم : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ سورة النحل : 97 ] . والحقيقة في ذلك أن السعادة مجموعة في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما أن الشقاوة تعبّر عن مجموعة من معصيتها ، قال الله تعالى :  ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) [ سورة الأحزاب : 71 ] . وقال  أيضاً : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا ) [ سورة الأحزاب : 36 ] . هذه الآيات القرآنية تنمُّ عن الأسباب المؤدِّيَة إلى السعادة والشقاوة وطرقهما وأسُسهما ، أما السعادة المطلوبة فهي اتخاذ الخطوط العريضة للحياة السعيدة التي يتمنّاها كلُّ مسلم أن يسير عليها في تنظيم مسيرته للحياة على نور وبصيرة ، والطريق الصحيح للسعادة التي يسعى إليها معتمداً على الأدلّة الشرعية من الكتاب والسنة ، لأنها الطريق الوحيد لتنقية الحياة وتقويم الأيام والليالي على رضوان من الله تعالى .

فليعلم أن السعادة هي سرُّ حب الحياة ، وإنها تتمثَّل في أن يكون الإنسان مُحقِّقاً لأهدافه وطموحاته ، لذلك يجب عليه أن يعرف شخصيته ومكانته ورفع شأنه ، ويعرف ماذا يريد أن يكون ؟ سواء كانت له منزلة أم لا ، فإنه مهما كان ، له قيمة وميزة خصّه الله بها وميَّزه بها ، فهو به ميزةٌ غير موجودة بأي شخص آخر ، وإنما عليه اكتشافها وتحقيقها والمعرفة بذاته ، ومن ثمّ سيعرف النعمة بحياته ، فأول خطوة في طريق السعادة للإنسان أن يرضى بما هو عليه ، ويحاول تطوير نفسه ، فإلإنسان دائماً ما يعيش ظروفاً قاسية تجعله يشعر بعدم الوجود ، وذلك أمر طبيعيٌّ ، فالإنسان خُلق لكي يُختبر ، إما أن يمُرّ بالشقاوة والتعب أو أن يمضي في غيرهما من حوادث الزمن ، ومما لا شك فيه أن يجد في حياته كثيراً من الصراعات والصدمات والأزمات أو يواجه نقصاً في  الرزق ، فالله يمتحنه في هذه الدنيا لكي يصبر على المكاره ، ويتحمّل المشاق ، فيعوضه بأشياء لم يكن يتصوّرها عوضاً على الصبر ، فعلى كل إنسان أن يتحمّل كلَّ ما يكرهه ولا ييأس منه ، ويتخطى كل ما يواجهه من الضيق والمشقة في حياته ، ومن الناس من مرّ بمثل هذه الصعوبات وواجهها بهمة عالية ثم أعد نفسه على اعتيادها فقد وجد حياته سعيدة وهنيئة في الأيام القادمة ، ووصل إلى استكمال طريقه ونجاح حياته ، ونسي كل المعوقات والمشاكل ، وتعلم منها دروساً وعبراً تنفعه في دينه ودنياه ، ومن هنا هو ينجح ويسعد بحياته .

ومما لا يخفى علينا أن المؤمنين بالله هم أصحاب الإيمان القوي والعقل الذكي والعلم النافع ، و هم الذين ينفّذون أوامر الله ونواهيه في حياتهم ، ويصلحون القلوب والأخلاق والنفوس ، ومعهم أصول وضوابط ، يجدون فيها كل ما يأتي إليهم من وسائل السرور والابتهاج ، وأسباب القلق والهم ، لأن الله أخبرهم عن أحسن الحياة ووعدهم بأكبر الجزاء ، فبذلوا جهودهم في سبيل ذلك ، والحقيقة أن راحة القلب وطمأنينته وسروره وزوال همومه وغمومه هو المطلوب لكل واحد ، وبه تحصل الحياة الطيبة ويتمّ السرور والفرح ، ولها أسباب دينية وأسباب طبيعية وأسباب علمية ، فمن الناس من أصاب كثيراً منها فعاش عيشةً هنيئةً وحياةً سعيدةً ، ومن أخفق فيها عاش عيشة الشقاء وحياة التعساء ، ومنهم من هو بينهما بحسب ما رُزق له ، والله الموفق والمستعان به على كل خير وعلى دافع كلّ شر . ومن يرغب في أن يحصل سعادة الحياة يجب عليه أن يجعل نفسه تشعر وتتمتّع بكل حرف بكلمة السعادة  والهناء ، وعليه أن لا يخاف من أحد سوى ربه ، ولو ملأه من البلايا والنوازل . فإنه لن يضره إلا بإذن رب العالمين ، وناصيته في قبضته ، لأن كل شيئ بقضاء وقدر ، وكل شيئ في أم الكتاب مسطر ، ورُب مكروه عند ربك نعمة .

فلا يكره أحد منا ما قدّر الله له ، ولا تنس المصابين   والمنكوبين ، لأن عددهم آلاف مؤلفة في هذا الكون ، هم من النعم مسلوبون ، وهم يشكون ويبكون . فلينظر إلى من هو أسفل منك ولا تنظر إلى من هو أعلى منك في الأموال والأولاد والنعم الأخرى ، فقد جاء في الحديث الشريف ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ” انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ” . ولا يخفى علينا أن الإكثار من ذكر الله هو من أعظم الوسائل لطمأنينة القلب وانشراح الصدر وزوال الهم والغم ، يقول ربنا عز وجل : ( أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ سورة الرعد : 28 ] .

واعلم – أيها القاري – أن اليسر مع العسر ، والنصر مع الصبر ، والغنى بعد الفقر ، والعافية بعد الكوارث ، والدهر حلو ومر ، وعليك بالصبر الجميل ، وتفويض الأمر إلى الله العلي الجليل ، والرضا بالقليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل ، والزم ممارسة الرياضة البدنية ، وتقليل الرغبات في الدنيا ، وإكثار ذكر المنون ، ولا تؤخر عمل اليوم إلى غد ، وإلا تتراكم عليك الأعمال ، وتجهد ، فلكل يوم عمل محدد ، وكن مع كل يوم مولوداً أمجد ، وابدأ الأعمال بأهمها ، وجوّدها حتى تتم ، وتخيّر من الأعمال ما يناسبك وصاحب من هو على التقوى  يصاحبك ، فإن  صاحبك يجعلك من أنفع الناس وأكرمهم وأحبهم ، واعلم أنه هناك رقيباً يحاسبك ، وتحدّث بكل نعمة ومنة أكرمت بها ، لأن التحدث بها يطرد الهموم القاهرة ، ويعيد السعادة الناقرة ، وتعامل الأقارب وغيرهم برؤية المناقب ونسيان المعايب . ويجب عليك أن تنظر إلى من دونك في المواهب من الصحة والعلم والمكاسب ، لأن عندك ما ليس عندهم من المطالب ، كما عليك أن تنسى ما مضى من الأكدار ، وتغفل عما سبق من الأخطار ، وتجاهل ما سبق في الزمان وصار ، فلا تفكر فيه ما سبق الليل والنهار ، وإن حدث لك أسوأ ما يكون فوطّن نفسك على احتماله في سكون ، واجعل التوكل على الله والركون ، فإنه كفاك ما كان ، وسيكفيك ما يكون ، وعليك أن تعيش في حدود اليوم الحاضر ، وتنسى أمس الدابر ، ولا تشتغل بالغد ، فأمس ميّت ، واليوم مولود ، وغداً للناظر . واعلم أن الحياة قصيرة ، فلا تقصرها بالهموم المثيرة والأفكار الخطيرة والأحزان الكثيرة .

فإن الحياة حياة الفرح والسرور ، ولا يكن السعيد فيما يخاف منه في غمة ، ومن خلال مشوار حياته يظل أمل السعادة دائماً يراوده بمشيئة الله تعالى ، ومن ثم يستطيع أن يجدّد حياته ، حتى لا يشعر بالملل والسآمة ، ويعيش مثلما يحبّ من السعادة ، ومن واجبات السعادة أن يشجّع صاحب السعادة قلبه في الأزمات ويثبته في الظلمات ويقويه عند الكربات ، ولا يكن منزعجاً عند نزول الواردات ، ويتجنّب القلق في المصيبات ، ولا يتوغل في فضول النظر والكلام والاختلاط . ومن سعادة المرء أن يُحسن إلى الآخرين بقوله وعمله ، سواء كانا أيّ نوع من أنواع المعروف ، لأن الله عز وجل يدفع بهذا الهموم والغموم عن صاحبه ، وهو يعامل العبدَ مثل يتعامل مع عباده ، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : ” من رفق بعباده رفق الله به ، ومن رَحِمَهُمْ رَحَمَه ، ومَن أحْسَن إليهم أحسن الله إليه ، ومن نفعهم نفعه ، ومن عامل خَلْقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة ، فالله لعبده حَسَبَ ما يكون العبد لخلقه ” .

وكن – أيها الأخ – متوسطاً في الأمور على الدوام ، وبعيداً من الإسراف والتبذير في كل أمر هام ، ولا تكن فارغاً في الفراغ ، واقنع من الدنيا بما بلغ إليك ، ولا تتأثر بكل من راع وتلألأ ، ولا تهتز بكل من طغى وبغى ، وتبعد كل من اعتدى عليك . وغير هذه المقتضيات لوسائل الحياة السعيدة كثيرة يليق بذكرها ، منها قول الله عز وجل : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَيَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ سورة طه : 123 – 124 ] . هذه الآية تدل على مقياس السعادة والشقاوة ، فالأبواب مفتوحة لكل من يقصد إلى الاتجاه المخطط للسعادة ، ولكل من لا يريد إلا الشقاوة ، إذ لا تكون الحياة الطيبة إلا لأهل الإيمان والعمل الصالح ، وأما غيرهم فإن تمتّعوا بالملذات الدنيوية ، ولكنهم في حياة ضيّقة . إذا أن المؤمن الذي يرجو ما عند الله من الجنة والأجر العظيم حتى فإن ضُيِّق عليه في هذه الدنيا ، لأنه يشعر بحياة مليئة بسعادة غامرة نتيجة لإيمانه وصالح عمله .

وقال أحد كبار العلماء : ” إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ” ، وقال أيضاً : ” المحبوس من حُبس قلبه عن ربه   تعالى ، والمأسور من أَسَره هواه ” ، وقال في موضع آخر : ” وما رأيت أحداً أطيبَ عيشاً منه مع ما كان فيه من ضيق العيش فهو من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً ” . وممّا رواه الإمام مسلم في صحيحه مرفوعاً : ” الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى الله مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا . وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ” . ومن وسائل السعادة أن نشتغل بأي علم من العلوم النافعة ، ونرغب في الأمور الدينية مما تشتاق إليه النفس وتستأنس به ، فإن ذلك يشغل القلب عن القلق والحزن ، وعندئذ نترك الهم على الأيام السالفة ، ولا نتوجه إلى الخوف في الأيام الآتية ، ونحرص على إصلاح ما فاتنا من الليل والنهار في الماضي ، ونجتهد في سبيل ذلك ، ونحاول إزالة الأسباب المؤدية إلى الهموم ، ونسعى في اختيار الأسباب الجالبة للفرح ، وننسى ما مرَّ بنا من الأزمات التي لا يمكن ردُّها [1] .

وختاماً أكتفي بأن أكثر العافية وأغلب السعادة لن يجِدها أحد إلا في ذكر الله ومراقبته والتأسي باقتداء حبيبنا وشفيعنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فالسعادة الحقيقية لا نعتبرها في جمع المال وإلاّ كان قارون أكبر الناس وأسعدهم ، وليست هذه السعادة في المنصب والجاه ، وإلا كان هامان أسعد الناس وأعزّهم ، قال الله عز وجل : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) [ سورة الشورى : 20 ] .

نسأل الله عز وجل داعين له أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه ويجعلنا من السعداء ويحفظنا من كل شر وشقاوة .

* الأستاد المساعد في الجامعة العالية بكولكاتا ، الهند .

[1] يراجع لمزيد من التفصيل :

(1) مدارج السالكين لابن القيم ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، الطبعة الثانية ، سنة 1393هـ .

(2) حين يجد المؤمن حلاوة الإيمان للأستاذ عبد الله ناصح علوان ، دار السلام للطباعة والنشر .

(3) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم ، تحقيق عبد الرحمن بن حسن بن قائد ، مطبعة دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع .