النواحي البلاغية المتنوعة في كتب ابن القيم ( رحمه الله تعالى )

دراسة عن واو القسم في القرآن الكريم
ديسمبر 4, 2021
الحنين إلى الوطن في شعر المهجر الأمريكي
ديسمبر 4, 2021
دراسة عن واو القسم في القرآن الكريم
ديسمبر 4, 2021
الحنين إلى الوطن في شعر المهجر الأمريكي
ديسمبر 4, 2021

دراسات وأبحاث :

النواحي البلاغية المتنوعة

في كتب ابن القيم ( رحمه الله تعالى )

الدكتور عبد الوحيد شيخ *

الباحث عبادل أحمد دار §

القضايا الصوتية :

من أهم أصول الإعجاز اللّغوي ، النظام الصوتيّ الفريد الّذي احتواه التركيب اللّغويى القرآنيّ ، وقد كانت لابن القيم – رحمه الله – جهود طيبة في هذا الباب ، إذ جلّى في مواضع عديدة من تصانيفه ، حقيقةَ تصويرِ اللّفظ القرآنيّ لمعناه بجرسه ، وحلّل من خلال النّصوص ، ما بين الخصائص الصّوتية لحروف الكلم ، وما دلّت عليه من المعاني من علاقات ، فلابن القيم – رحمه الله – بحوث قيمة في المستوى الصوتيّ للألفاظ القرآنية ، وشاهد ذلك ما يأتي في هذا المبحث الّذي من أمثلته : حديثه عن العلاقة الموجودة بين مخارج حروف بعض الفواتح ، وبين المعاني الّتي تدور عليها السورة المفتتحة بها ، ثمّ العلاقة بين ما لهذه الأحرف من صفات القوة أو الضعف وما دلّت عليه من معان ، كذلك إشارته إلى أثرامتداد الصوت في الكلمات وقصره ، في زيادة المعنى المتضمن فيها ونقصانه .

من أبواب الإعجاز اللّغوي الّتي جلاّها ابن القيم فيما تعرض له بالتّفسير من نصوص الكتاب الكريم ، الأثر الّذي يحدثه صوت اللّفظ القرآنيّ من حيث الطّول والقصر ، في المعاني من حيث الزيادة والنقص ؛ إذ أصل في ذلك قاعدةً ، فحواها : أنّ امتداد الصوت باللّفظ دالٌّ على اتّساع المعنى ، فيما قصرالصوت دال على عدم اتساعه . يقرر ابن القيم – عن الفرق بين النفي ( بلن ) والنفي ( بلا ) – إنّ  من خواصّها ( أي : ” لن ” الناصبة ) أنها تنفي ما قرب ، ولا يمتد معنى النفي فيها ، كامتداد معنى النفي في حرف ( لا ) ، [ . . . ] وقد قدمّنا أنّ الألفاظ مشاكلٌة للمعاني ، الّتي أرواحها يتفرّس الفطن فيها حقيقةَ المعنى بطبعه وحسّه ، كما يتعرّف الصّادق الفراسة صفات الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته      [ . . . ] وتأمّلْ حرف ( لا ) ، كيف تجد في آيته ألفاً ؛ يمتدّ الصّوت ، ما لم يقطعه ضيق النفس ، فإذن امتداد لفظها بامتداد معناها ، و ( لن ) بعكس ذلك فتأملْه ، فإنّه معنى بديع ” .

وبهذا التوجيه نفسِه ، يوجّه ابن القيم ورود النفي في  ( سورة الكافرون ) متمحّضاً ( بلا ) دون ( لن ) ، إذ يقول : ” وأمّا المسألة الخامسة وهي : أنّ النفي في هذه السورة ، أتى بأداة ( لا ) : دون ( لن ) فَلما تقدم تحقيقه عن قربٍ ؛ أنّ النفي ( بلا ) أبلغ من ( بلن ) ، وأنّها أدلّ على دوام النفي وطوله من ( لن ) ، وأنّها للطّول والمدّ الّذي في لفظها ، طال النّفي  واشتدّ ” .

دلالة الصيغ الصرفية :

لا بد لدارس الإعجاز اللّغوي أن لا يغفل التّنبيه على البنية التّصريفية للمفردة القرآنية ، إذ : ” دراسة الصّرف تمثّل مستوى مستقلاً من مستويات التّحليل اللّغوي [ . . . ] فهو حلقة وسطى بين دراسة الأصوات الّتي تكون الصّيغ الصّرفية للكلمة ، ودراسة التّراكيب الّتي تنتظم فيها هذه الصيغ ” .

وأبواب الإعجاز في المستوى الصّرفيّ ؛ الّتي خاضها ابن القيّم عديدٌة ، منها : التّصرف في الأبنية والاشتقاقات ؛ توافق اُلمفردة القرآنية المعنى الإجماليّ للسّياق الّذي وردت فيه ، ولطائف استعمالات العدد ؛ من إفراد وتثنية وجمعٍ في أساليب القرآن ، وغير ذلك .

القضايا النحوية :

من الجوانب الّتي تناولها ابن القيم – رحمه الله – في القرآن الكريم من منظور الإعجاز اللّغوي والبيانيّ ، الجانب النحوي    التركيبي ، وهذا المستوى متمّم لما قبله ( المستوى الصرفيّ ) ؛ لأنّ : ” معرفة مادة الكلمة ، وأصلها الاشتقاقيّ ، والصّيغة الّتي صيغت بها ، لا تكفي غالباً تحديداً تامّاً دقيقاً ؛ فإنّ كلّ كلمة بعد أنْ أخذت من مادّتها الأصلية ، وبنِيتْ على أحد الأوزان الصّرفية ، استُعملت في مواطن من الكلام ، وخصّصها الاستعمال بمعان أخصّ من المعنى العامّ الّذي تدلّ عليه مادّتها ، وبتعدّد الاستعمال خلال العصور ، وفي مختلف اُلمناسبات ، وشتّى البيئات ، يتمّ للكلمة أكثر من معنى ، ويجتمع لها أكثر من دلالة ” .

ولا ريب أنّ هذه الدّلالات متولّدٌة من طرق تعليق هذه الكلم بعضها ببعض ، وليس هذا التعليق – كما يقرر الجرجانيُّ – سوى توخّي معاني النّحو وأحكامه .

بدائع تعدية الفعل بالحرف في القرآن :

لقد بيّن هذا الأمر وقعّد له القواعد ومهّد التمهيدات ممّا أعان للاحقين به في اكتشاف القضايا الأخرى على وجه لائق ، انتقد الإمام ابن القيم على الذين يجعلون حروف المعاني بعضها محلّ بعض وسماهم :   ” ظاهرة النّحاة ، وأما الرّاسخون وفقهاء العربية فهم يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره .

وبعد أن ذكر بضعاً من القواعد مثّل لها بقوله تعالى ( ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ) وقال : ” فإذا عرفت هذا ، ففعل الهداية ، متى  عدّي ( بإلى ) ، تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة ، فأتى بحرف الغاية ، ومتى  عدي      ( باللام ) ، تضمن التخصيص بالشيئ المطلوب ، فأتى باللام الدالّة على الاختصاص والتّعيين ، [ . . .] وإذا تعدّى بنفسه ، تضمن المعنى الجامع لذلك كلّه ؛ وهو التّعريف والبيان والإلهام . فالقائل إذا قال : ( ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ) هو طالب من الله أن يعرّفه إياه ، ويبينه له ، ويلهمه إياه ، ويقدره عليه ؛ فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه ، فجرد الفعل من الحرف ، وأتى به مجرداً معدى بنفسه ، ليتضمن هذه المراتب كلَّها ، ولو عدي بحرف ، تعين معناه ، وتخصص بحسب معنى الحرف ، فتأمله ، فإنه من دقائق اللّغة وأسرارها ” .

والحاصل ، أنّ الفعل في القرآن الكريم ، متى عدي بحروف مختلفة ، فإنّه يحمل مع كلّ حرف معنى زائداً على الحرف السابق .

حسن النظم القرآني :

لا ريب أنّ في الأسلوب القرآنيّ دلالةً على حسن النّظم ، وبرهاناً على براعة تصريف القول ، وقد كشف ابن القيّم – رحمه الله – النّقاب عن بعض ذلك ، فممّا أورد في هذا الصّدد ، قوله عند الكلام عن سرّ التّرتيب في قوله تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ) .

وتأمّل هذا التّرتيب البديع في تقديم ما قدّم وتأخير ما أخّر يطلعْك على عظمة هذا الكلام وجلالته . فبدأ أوّلاً بذكر أصول العبد ، وهم آباؤه المتقدّمون طبعاً وشرفاً ورتبةً ، وكان فخر القوم بآبائهم ، . . . ثمّ ذكر الفروع ، وهم الأبناء ، لأنّهم يتلونهم في الرّتبة ، وهم أقرب أقاربهم إليهم ، وأعلق بقلوبهم ، وألصق بأكبادهم من الإخوان والعشيرة .ثمّ ذكر الإخوان ، وهم الكلالة وحواشي النّسب فذكر الأصول أولاً ، ثمّ الفروع ثانياً ، ثمّ النّظراء ثالثاً ، ثمّ الأزواج رابعاً ؛ لأنّ الزّوجة أجنبيّة   عنده ، ويمكن أن يُتعوّض عنها بغيرها ، وهي إنّما تُراد للشّهوة ، وأمّا الأقارب من الآباء والأبناء والإخوان ، فلا عوض عنهم ، ويرادون للنّصرة والدّفاع ، وذلك مقدّم على مجرّد الشّهوة . ثمّ ذكر القرابة البعيدة ، خامساً ، وهي العشيرة وبنو العمّ ، فإنّ عشائرهم كانوا بني عمّهم    غالباً ” ، وذكر غيرها من المناسبات .

كان للإمام ابن القيم إلمام شديد في بيان هذه الأمور فقد عرض بالبيان لكثير من الخصائص النّحوية للأسلوب القرآنية ، وبالحسن الذي اشتمل عليه النظم القرآني ، وكان يحلّل النّصوص القرآنية تحليلاً فنّياً راقياً ، وأظهر ما تضمّنته هذه النّصوص من الخصائص التّعبيرية واللطائف الخلابة .

القضايا البلاغية :

لقد اهتمّ  الإمام ابن القيم ببيان كثير من النّواحي البلاغية في القرآن الكريم ، منها :

التّقديم والتّأخير :

لكل كلمة في الجملة العربية ترتيب خاصّ بحسب وضعها  اللغوي ، غير أنّه قد يعرض من المزايا والمقتضيات ما يدعو إلى نقل بعض الكلمات عن موضعها ، وذلك لغرض بلاغي وهو سر من أسرار التعبير ، ويحتلّ هذا الموضوع في البلاغة العربية مكاناً سامياً .

التقديم والتأخير عند ابن القيم :

وذكر مثـال على ذلك في التفسير القيم قوله تعـالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إذ قُدِّم المفعول به على الفعل والفاعل ، وهو الضمير ( إِيَّاكَ )  ،  ” وبنى ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) على أربع قواعد ، التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان ، والقلب وعمل القلب والجوارح ” .

ووقف العلماء والمفسرون على وجه التقديم في آية الفاتحة وكل له رأيه في ذلك فقول الزمخشري : ” قدم مفعولي ( نَعْبُدُ ) ونستعين لقصد الاختصاص ” .

” والمعنى : نخصّك بالعبادة ونخصّك بالاستعانة فلا نعبد إلا إياك ولا  نستعين إلا بك ، إذ لا تصحّ العبادة إلا لله ولا تجوز الاستعانة إلا به وهو نظير قوله تعالى : ( فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ ) وقال الفخر الرازي : ولو قيل : نعبدك ونستعينك  ، لم يُفِد نفي عبادتهم لغيره .

التّعريف والتّنكير :

يُعدّ التّعريف والتّنكير من الأساليب التي لقيت عناية كبيرة من الذين تحدّثوا عن النّحو والمعاني ، وتركّزت عنايتهم على علل أوردها السابقون ، ومنهم الزّمخشري وأبو حيان وأبو السّعود ، فهذا عبد القاهر الجرجاني يقول في أسلوب التّعريف والتّنكير : ” إنّه من عجيب الشّأن وله مكان في الفخامة والنّبل ، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقه والمعوّل فيه على مراجعة النفس واستقصاء التّأمّل ” .

وأرد الإمام ابن القيم هذه الآية كمثال لهذا الأمر : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ) .

فقال : تأمّل تنكير القلوب وتصّريف الأفعال بالإضافة إلى ضمير القلوب ، فإن تنكير القلوب يتضمّن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ، ولو قال : أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في  الجملة ” .

فأفاد التنكير هنا ” الشمول والعموم ” ، لأن يدخل فيه كل من كان على هذه الصفة والشاكلة .

وقال أيضاً مبيناً دلالة التعريف : ” وفي قوله تعالى : ( أَقْفَالُهَآ ) بالتّعريف نوع تأكيد فإنّه لو قال : أقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى ضمير القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة العقل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها ، التي لا تكون لغيرها والله أعلم ” .

ونجد الزمخشري يصفها بسؤاله قلت : أما التّنكير ففيه وجهان : أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك أو يراد على بعض القلوب وهي قلوب المنافقين وأما إضافة الأقفال ؛ فلأنه يريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح ” .

المشاكلة :

أول من أطلق تسمية المشاكلة أبو علي الفارسي كما نص عليه الدكتور أحمد مطلوب :

وهي أن يُذكر الشيئ بلفظ غيره لوقوعه في صُحبته ، كقوله تعالى : ( تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ) ، والمراد ولا أعلم ما    عندك ، وذكر قوله تعالى : ( فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ ) .

والجواب من أوجه :

الأول : أن المراد به التبكيت  ، والمعنى : حصلوا ديناً آخر مثله ، وهو لا يمكن .

الثاني : أن كلمة ( مثل ) صلة .

الثالث : أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف ولا تحريف . فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف ولا تحريف فقد اهتدوا .

الرابع : أن المراد إن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين .

ففي كلمة ” آمنتم ” الأولى مشاكلة ، لأنه لا يوجد دين مثل هذا الدين وهو الإسلام ، إذاً وقْع هذه الكلمة هنا ” مشاكلة ” ، لكلمة ” آمنوا ” الثانية .

التجنيس :

وتعريفه : أن يتفق اللفظان في النطق ويختلفا في المعنى ، كقوله : ( لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ) ، وقال عنه ابن القيم الجوزية : ( لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) ، ومعبودهم لا يعقل ، ثم ازدوج مع هذا الكلام ، وقوله تعالى : ( وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ) ، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان ” .

وهذا يسمى جناس الإشتقاق ، والمقصود به اتفاق اللفظتين في الاشتقاق ومثاله قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) ، فلفظ ” أَقِم ” ولفظ ” القيّم ” مشتقان من مادة لغوية واحدة وأطلق عليه علماء البلاغة اسم الجناس المطلق لتلاقي اللفظين في الاشتقاق وهو مُلحَق بالجناس .

الفاصلة القرآنية :

الفاصلة عبارة عن حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن أفهام المعنى وعدت فواصل القرآن بلاغة ، والأسجاع عيباً ؛ لأن الفواصل تابعة للمعنى . أما الأسجاع فالمعاني تابعة لها .

ويرى الدكتور فاضل السامرائي : القرآن الكريم لا يعنى بالفاصلة على حساب المعنى ولا على حساب مقتضى الحال والسياق بل هو يحسب لكل ذلك حسابه فهو يختار الفاصلة مراعى فيها المعنى والسياق والجرس ، ومراعى فيها خواتيم الآي ، وجوّ السّورة ، ومراعى فيها كلّ الأمور التّعبيرية والفنيّة الأخرى بل مراعى فيها إلى جانب ذلك كله عموم التّعبير القرآني وفواصله بحيث تدرك أنّه اختار هذه الفاصلة في هذه السّورة لسبب ما ، واختار غيرها أو شبيهاً بها في سورة أخرى لسبب دعا إليه وجمع بين كل ذلك ، ونسقهُ بطريقة فنية في غاية الرّوعة والجمال حتى كأنّك تحسّ أنّها جاءت بصورة طبيعية غير مقصودة مع أنّها في أعلى درجات الفنّ والصّياغة والجمال فما أجله من كلام وما أعظمهُ من تعبير .

ونجد ذلك واضحاً في قوله تعالى : ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) .

وقوله تعالى : ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .

ويرى ابن القيم : ” إن سورة إبراهيم خصّت بوصف المنعم عليه ، وسورة النحل بوصف المنعم ؛ لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان ، وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات الألوهيةـ فجاء كل تعبير في مكانه المناسب للسياق فضلاً عن الفاصلة ” .

النتيجة :

لقد دلّ ممّا سبق على إمامة ابن القيم رحمه وطول باعه ورسوخ قدمه في علم البلاغة القرآنية ، وكونه عالماً فاضلاً ومجتهداً ذا رأي سديد ، وبأن كتبه مليئة بالقضايا البلاغية ، والنحوية والصوتية مما تتعلق بالقرآن الكريم ، وغير ذلك مما سبق بيانه ، فيجب الاقتناء بها لكي نطلع على اصطياد فهم الإعجاز القرآني .

المصادر والمراجع :

  1. الإتقان في علوم القرآن ، جلال الدين السيوطي ( ت 911هـ ) ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار التراث ، القاهرة ، ط 1405هـ .
  2. الإيضاح في علوم البلاغة ، محمد بن عبد الرحمن القزويني ( ت 739هـ ) ، شرح الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ، جزءان ، الشركة العالمية للكتاب ، بيروت – لبنان ، ط 3 ، 1989م .
  3. التعبير القرآني ، الدكتور فاضل صالح السامرائي ، بيت الحكمة ، بغداد ، 1989م .
  4. التفسير الكبير ، للإمام فخر الدين الرازي ( ت 606هـ ) ، بإشراف عبد الرحمن محمد ، المطبعة المصرية ، ط 3 ، 1965م .
  5. بدائع التفسير الجامع لما فسره ابن قيّم الجوزية ، جمعه يسري السيد محمد ، وراجعه ونسق مادته صالح احمد الشامي ، دار ابن الجوزي ، ط 2 ، 1427هـ .
  6. دلائل الإعجاز في علم المعاني ، عبد القاهر الجرجاني ( ت 471هـ ) ، تعليق : محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجي ، مصر ، ( د . ت ) .
  7. فن البديع ، د . علي نجم أحمد ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط 1 ، 2007م .
  8. لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ، تأليف الدكتور فاضل صالح 1427هـ ، السامرائي ، شركة العاتك للطباعة والنشر ، القاهرة ، ط 2 ، 2006م .
  9. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي ( ت 885هـ ) ، تحقيق : محمد عبد المعين خان ، طبعة مجلس في عام 1969م ، المعارف الإسلامية ، حيدر آباد ، الدكن ، الهند .
  10. البناء النحوي في المثل القرآني ، ( رسالة ماجستير ) ، محسن طاهر إسكندر ، كلية الآداب ، جامعة البصرة ، 2001م .
  11. محمد بن أبي بكر الرازي : مختار الصحاح ، ترتيب محمود خاطر ،  ط 1 ، دار الفكر ، لبنان ، 1421هـ – 2001م .
  12. محمود بن عمر الزمخشري ، أساس البلاغة ، تحقيق محمد باسل عيون السود ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1419هـ .
  13. أبو الحسين أحمد بن فارس ، معجم مقاييس اللّغة ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، ( د . ط ) دار الفكر ، لبنان ، 1399هـ – 1979م .

* الأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا ، أونتي بورة ، كشمير ، الهند .

  • باحث بالجامعة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا ، أونتي بورة ، كشمير ، الهند .