الحوار في القرآن بين الإنسان وأعضائه
يناير 2, 2022السلام العالمي في الأسوة النبوية
فبراير 7, 2022الدعوة الإسلامية :
العلماء والإعجاز العلمي للقرآن
الشيخ الطاهر بدوي *
لقد حث القرآن الكريم على النظر في الكون ، والتأمل في آياتـه ونواميسه ونظامه ، والتفقه في كل من كتـاب الله المقـروء ، وهو القرآن الكريم وكتابه المنظور وهو الكون الفسيح الذي نشاهده أينما وجهنا أبصارنا إلى أي اتجاه .
وقد اتجه بعض المفسرين للقرآن الكريم اتجاهاً علمياً متخصصاً في تفسير الآيات العلمية والكونية ، ومنهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير والشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره : ” الجواهر ” الذي تناول فيه استعراضاً شاملاً لعلوم الكون وطبقات الأرض والكائنات الحية والظواهر الفلكية والإمام الشهيد سيد قطب في ” ظلال القـرآن ” .
وكذلك الشيخ حنفي أحمد في كتابه : ” التفسير العلمي للآيات الكونية ” والدكتور عبد الله شحاتة في كتابه : ” تفسير الآيات الكونية ” وغيرهم كثير ممن هداهم الله سبحانه وتعالى إلى توسيع مدلول الآيات القرآنية وما ورد فيها من إشارات كونية عظيمة ، نحن في أشد الاحتياج إلى فهم أسرارها والاستفادة منها . وللمسلم أن يفخر بدينه الذي قدم له الكون كما يقول العلم الحديث ، كلاً متكاملاً ، لا ممزقاً ولا منفصلاً ، ولقد كان الإسلام في تكامل نظرته إلى الكون أكثر تكاملاً من العلم الحديث ذاته ، الذي نظر إلى جزئيات الكون منفصلةً ، بينما نظر إليها الإسلام متصلةً في النهايـة ، بالله سبحـانه وتعالى على قمة النظام الكوني كله ومنسجمة مع القانون الإلهي العام الأعظم للكون . وإلى هذه الآيات القرآنية والكونية يشير الإمام عبد الواحد بن عاشر رحمه الله في منظومته فيقول :
أول واجب على من كُلَّفا ممكنا من نظر أن يعرفا
الله والرسـل بالـــصـــفــات مما عـــلــيـــه نصب الآيات
ويقول الدكتور جورج أريل دايفيز في مظاهر القدرة الإلهية :
” إن كل ذرة من ذرات هذا الكون تشهد بوجود الله تعالى ، وأنها تدل على وجود الله حتى دون حاجة إلى الاستدلال بأن الأشياء المادية تعجز عن خلق نفسها ” . والحقيقة أن ميزة القرآن الكبرى أنه أورد صورةً بسيطةً واضحةً وسهلةً للكون وللطبيعة تنسجم تماماً مع تكوين الإنسان ووجوده ، وتمكنه من استخدام الموجودات في تحقيق خلافته في الأرض والعمل على عمارتها . ويقول تولستوي : ” إن منبع التدين غريزي في الإنسـان فلا تتحطم الأديـان بتأثير العلـوم والحضارة أبداً ، والإيمان هو قوة الحياة ، ولا مجال لتصور إنسان بدون إيمان كما لا مجال لتصوره بدون حياة ” ، ولا شك أن دور العلم هو التعريف بالكون ، والقرآن الكريم هو مصدر المعرفة الأصلي للمسلمين ، وفيه وردت الموجودات المنثورة في هذا الكون .
قال تعالى : ” وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ . وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ . وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” ( النحل : 65 – 69 ) .
والماء حياة كل حي ، وهذا النص يجعله حياة الأرض كلها على وجه الشمول لكل ما عليها ومن عليها والذي يحول الموت إلى حياة هو الذي يستحق أن يكون إلهاً . فالذي يولد من غازين سامين الأكسوجين والهدروجين عنصراً لا نتصور الحياة إلا به ، أحق أن يعبد بدون منازع . وعبرة أخرى في الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق جل علاه : فاللبن الذي تدره ضروع الأنعام مستخلص من بين فرث ودم . والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم . هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ، فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب الذي لا يدري أحد كيف يكون .
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم ، عملية عجيبة فائقة العجب ، وهي تتم في الجسم في كل ثانية ، كما تتم عمليات الاحتراق . وفي كل لحظـة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد . ولا يملك إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة ، المتناسقة داخل هذا الجهاز الإنساني ، والذي كل ذرة فيه تهتف بتسبيح الخالق جل علاه والذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ولا على خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى . وقد بقي هذا كله سراً إلى عهد قريب .
وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفةً لبشر . وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلاً على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة . وما يملك إنسان يحترم عقله أن يمارى في هذا ويجادل . ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن الكريم .
وحقيقة أخرى : ” وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ” . هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء ، تتخذون منه سكراً ( والسكر الخمر ، ولم تكن حرمت بعد ) ورزقاً حسناً . والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقاً حسناً ، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب وليس فيه نص بحلها بل فيه توطئة لتحريمها كما سبق . وحقيقة أخرى : ” وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ ” . . . الآية . والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها خالقها عـز وجل ، فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه ، وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها أو في تقسيم العمل بينها أو طريقة إفرازها للعسل المصفى وهي تتخذ بيوتها حسب فطرتها في الجبال والشجر وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتهـا وفي طبيعة الكون حولها من توافق ، والشراب الذي تفرزه النحل من بطنها عسل ” ” مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ” . وقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ” إن أخي استطلق بطنـه ( مشى ) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اسقه عسلاً ” فسقاه عسلاً ، ثم جاء فقال : ” يا رسول الله ! سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً ” قال : ” اذهب فاسقه عسلاً ” . فذهب فسقاه عسلاً ” ثم جاء فقال : ” يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلاً ” . فذهب فسقاه عسلاً فبرئ ” .
ويعلق الإمام سيد قطب رحمه الله على هذه الحادثة ويقول :
” ويُروعنا في هذا الأثر يقين الرسول صلى الله عليه وسلم أمام ما بدا واقعاً عملياً من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه . وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية . وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله . مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري الذي ينثني في النهاية ليصدقها ” .
فلا ينبغي أن يخضع القرآن للابتكارات العلمية أو لتجاربها لأنها من صنع البشر الذي يصيب ويخطئ ، ولأن القرآن كلام الله القديم فهو صالح لكل زمـان ومكان في جميع مجالات الحياتين العاجلة والآجلة ويبقى دوماً معجزة المعجزات وأعجوبة الأعاجيب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهوخير الوارثين . فلا يفسر القرآن بما اخترعه مخلوق ولو بلغ ما بلغ . لأن هذا يقضي بجعل القرآن ككلام البشر والحكم بحدوثه وهذا عين الإلحاد والعياذ بالله .
إن العسل من الأغذية المعروفة ، أصله من مادة سكرية تنفرز في باطن الأزهار من الغدد العسلية فيها فتأتي النحل عند إفرازها فتمصها ، وتتنوع في معدتها تنوعاً كبيراً لأنها تفقد جزءاً من عطريتها ومادتها اللزجة القابلة للتخمر ثم ترسبها في أثناء خلاياها التي بنتها من الشمع لتغذى به أولادها ونفسها في الفصول غير الصحية .
ألا ترى كيف يثني عليه القرآن ويصفه بالدواء لكل الأدواء بقوله : ” فيه شفاء للناس ” ! وقد اكتشف العلم الحديث عدة منافع للعسل حسب استعماله وحسب حال المصاب : ومن ذلك استعماله في الطب كملين خفيف بمقدار بعض أواق خاصة للأطفال . ويستعمل أيضاً كمرهم أو مذبل أو مرطب أو مرخ أو ملطف فيكون بمقدار يسير محلولاً في الماء حيث يسمى بالماء المعسل البسيط أو في مغليات مناسبة ، ويستعمل ذلك في الأمراض الحادة عموماً ولا سيما في الأمراض الالتهابية والصفراوية وآفات الصدر بصفة كونه مسهلاً للنفث وفي الخناقات ونحو ذلك . ويستعمل أيضاً من الظاهر نقياً أو ممدوداً بالماء كملطف على الجروح ولا سيمـا الملتحمة الملتهبـة ونحو ذلك ، وكثيراً ما يدخل في الغراغر والمضامض الملطفة مجتمعاً في العادة مع ماء الشعير ، ولكن تلك المحلولات يسهل تخمرها فتكتسب حينئذ خواص أخرى ولا سيما في الفصول الحارة . وقد أطنب أطباؤنا في ذكر خواصه تبعاً لديسقوريدس وجالينوس وغيرهما ، فذكروا أن أجوده للتداوي أحمر اللون الناصع الطيب الرائحة الصافي الشفاف الذي في مذاقته حرافة مع لذاذة ظاهرة ، وإذا رفع منه بالأصبع سال إلى الأرض ولم ينقطـع . وأما أجوده للأكل فالأبيض الصافي أو الأزرق الصافي . إلى آخر ما ذكروه .
وبعبارة أخرى فالعسل جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرهــا ومحلل للرطوبات أكلاً وطـلاءً ، فهو نافع للمشايـخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه بارداً رطباً ، وهو مغذ ملين للطبيعة ، منقٍّ للكبد والصدر ، مدر للبول ، مذهب للسعال الناتج عن البلغم . وإذا شرب حاراً بدهن الورد نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون ، وإذا شرب بالماء نفع من عضة الكلب ومن أنواع السموم الفتاكة ، ويسمى بالحافظ الأمين لأنه يحفظ جثة الموتى من المكاره العضوية ويحفظ طراوة اللحوم ونضاجة الفاكهة مما قد يصيبها ، وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وأزال صئبانه وطول الشعر وحسنه ونعمه . وإن اكتحل به جلا طلمة البصر وإن استن به بيض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة . ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث ، ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة ويدفع الفضلات عنها . ويسخنها تسخيناً معتدلاً ويفتح سددها ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة ، وهو أقل ضرراً لسدد الكبد والطحال من كل حلو . وهو مع هذا كله مأمون الغائلة ، قليل المضار ، مضر بالعرض للصفروايين ودفعها بالخل ونحوه ، فيعود حينئذ نافعاً له جداً .
وهو غذاء مع الأغذية ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة ، وحلو مع الحلوى ، وطلاء مع الأطلية ، ومفرح مع المفرحات . فما خلف شيئ في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريباً منه ، ولم يكن معول القدماء إلا عليه ، فإنه حديث العهد حدث قريباً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل .
وفي سنن ابن ماجة مرفوعاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ” من لعق العسل ثلاث غدوات شهر لم يصبه عظيم من البلاء ” .
وفي أثر آخر أخرجه ابن ماجة والحاكم في الطب عن ابن مسعود رضي الله عنه : ” عليكم بالشفائين : العسل والقرآن ” . فجمع عليه الصلاة والسلام بين الطب البشري والإلهي وبين طب الأبـدان وطب الأرواح ، وبين الدواء الأرضي والدواء السماوي .
إذا عرف هذا ، فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء ، فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المتجمعة في نواحي المعدة والأمعاء فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول ، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها ، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة ، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء ، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط ، والعسل جلاء ، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء ، لا سيما إن مزج بالماء الحار .
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع ، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار ، وكمية بحسب حال الداء ، إن قصر عنه ، لم يزله بالكلية ، وإن جاوزه أوهن القوى فأحدث ضرراً آخر ، فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقداراً لا يفي بمقاومة الداء ، ولا يبلغ الغرض ، فلما أخبره ، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة . فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى اله عليه وسلم أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء ، برئ بإذن الله . واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقـدار قـوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ” صدق الله وكذب بطن أخيك ” . إشارةً إلى تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ، ولكن لكـذب البطن وكثرة المادة الفاسدة فيه ، فأمر بتكرار الدواء لكثرة المادة .
وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب البشر . فإن طب الرسول الكريم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل ، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة فانه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول وحسن النية واعتقاد الشفــاء به وكمـال التلقى له بالإيمـان والإذعان .
فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور ، إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ، ومرضاً إلى مرضهم قال تعالى في أواخر سورة التوبة : ” وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ” ( التوبة : 124 – 125 ) .
وأين يقع طب الأبدان منه ؟ فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية ، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع ، وليس ذلك لقصور في الدواء ولكن لخبث الطبيعة ، وفساد المحل وعدم قبوله .
وعن هذا الإعجاز العلمي في الآيات السالفة الذكر يقول الباحث المستشرق ” موريس بوكاى ” : ” لكي نفهم معنى هذه الآية من وجهة النظر العلمية فلا بد من الاستعانة بمعلومات علم وظائف الأعضاء ” تأتي المواد الأساسية التي تتكفل بتغذية الجسم عامة من تفاعلات كيميائية تحدث في القناة الهضمية ، وتأتي هذه المواد من عناصر موجودة في محتوى الأمعاء ، وعندما تصل هذه المواد الموجودة بالأمعاء إلى المرحلة المطلوبة في التفاعل الكيميائي ، فإنها تمر عبر جدار الأمعاء نحو الدورة الدموية ، ويتم هذا الانتقال بطريقين : إما مباشرة بواسطة ما يسمى بالأوعية اللمفاوية وإما بشكل غير مباشر بواسطة الدورة البابية ، التي تقود هذه المواد إلى الكبد حيث تقع عليها بعض التعديلات ثم تخرج من الكبد لتذهب أخيراً إلى الدورة الدموية . بهذا الشكل إذا مرَّ كل شيئ بالدورة الدموية ” . ” والغدد الثديية هي التي تفرز مكونات اللبن وتتغذى هذه الغدد إذا جاز هذا القول بمنتجات هضم الأغذية التي تأتي إليها بواسطة الدم الدائر . الدم إذن يلعب دور المحصل والناقل للمواد المستخرجة من الأغذية ، ويغذي الغدد الثديية منتجة اللبن مثلما يغذي أي عضو آخر ، كل شيئ يحدث هنا إذا ابتدأ من مواجهة محتوى الأمعاء مع الدم في الجدار الأمعائي نفسه ، هذه المعلومة المحددة تعد اليوم من مكتسبات الكيمياء وفسيولوجيا الهضم ، وكانت غير معروفـة مطلقاً في عصر النبي صلى الله عليـه وسلم . أن معرفتها ترجع إلى العصرالحديث أما اكتشاف الدورة الدموية فهو من عمل ” هارفي ” وقد تم الاكتشاف بعد عشرة قرون تقريباً من تنزيل القرآن ” . ” وإني أعتقد أن وجود الآية القرآنية التي تشير إلى تلك المعلومات لا يمكن تفسيره وضعياً ، وذلك بالنظر إلى بعد العصر الذي صيغت فيه هذه المعلومات ” . إن وجود هذه الحقيقة وكثير غيرها يثبت أن هذا الوحي هومن عند الله جل علاه . فالبشرية كلها كانت تجهل يوم ذلك أمثال هذه الحقيقة .
ولا شك أن دراسة العلماء والباحثين الدارسين لطبقـات الأرض وصخورها وكنوزها ومحتوياتها ولطبقات الفضاء والهواء ومعرفة أسرار الكون ونظامه ، امتثالاً لأمر الله تعالى وتلبيةً لرغبة القرآن الكريم في الحث على العلم والمعرفة . إنها تقوم بدور الترجمان لمواد الكون ، كي يتم استخدامها والانتفاع بها من كافة وجوه النفع التي تحملها وعلى أحسن ما يرام .
والله ربنا يقرر أهمية العلماء ، فيقول في محكم تنزيله في سورة الزمر (9) ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلأَلْبَابِ ” . وآيات غيرها كثيرة على هذا المنوال . . . حقاً أنها كلمات الله المعجزة التي عبر عنها الإمام الفخر الرازى رحمه الله بقوله : ” ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً ” .
ولا شك أن العلوم هي التي تكشف لنا عن الموجودات في الكون وعن القوانين التي تحكمها ، وهي تعتبر جزءً من الدين ، ما قامت إلا بتمكين من رب العالمين ، ليعمر الإنسان بها الأرض ، ولينعم بما أودع الله له فيها من خيرات .
وعن تلك التوافقية بين العلم والدين يقول المطران أغناطيوس هزيم : ” نحن نعتقد أنه لا تنافر بين المعطيات الدينية وما يسمى بالمعطيات العلمية ، ولا أعلم كيف أن المؤمن بالله خالقاً للكون يعتبر أن هنالك عناصر تؤلف هذا الكون في الوقت ذاته خارجة عن نطاق التدبير الإلهي ، وإني لأرى بمنظار المؤمن العكس تماماً وهو اعتبار المعطيات العلمية معطيــات دينية على الأقل من حيث مصدرهـا والنواميس التي تتحكم بها ، لأن المؤمن يعلم حق العلم أن خالق الكون بأسره هو بالطبع خالق العناصر الطبيعية التي يتألف منها الكون ، وخالق الحياة في كل تجلياتها . وإذا فحصنا كيفية عمل الله في الخليقة وجدناه يسيرها تبعاً لقواعد وقوانين . وهذه القواعد والقوانين هي التي يكتشفها العلم حقبةً بعد حقبة ” .
إن كل يوم يكشف لنا جديداً في فرضيات العلم تضيف إلى ما قبلها شيئاً أو تهدمه من الأساس وتبقى دائماً الحقيقة القرآنية ثابتة شامخة راسخة ، وكل الذيـن هداهم الله ووفقهم إلى قراءة القـرآن وتدبر آياته ، من يوم أن نزل على أشرف البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى ما شاء الله ، يؤمنون بقدسيته وثبات ما ورد فيه من إشارات كونية بالغة الدقة والشمول والصدق ، ويأنسون بنفحاته السماوية ويرجع ذلك إلى حقيقة ذاتية في القرآن ، تتمثل في كيانه القائم على الحق وفي أسراره العلوية وجاذبيته الإلهية التي تأخذ بقلوب وعقول مرتليه وسامعيه وصدق الله العظيم حين يقول عنه : ” قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” ( المائدة : 15 – 16 ) .
إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص ، يجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيـمان في قلبه . نور تشرق به كينونته فتشف وتحفو ترف ويشرق به كل شيئ أمامه فيتضح وينكشف ويستقيم . ثقلة الطين في كيانه وظلمة التراب وكثافة اللحم والدم وعرامة الشهوة والنزوة . كل أولئك يشرق ويضئ ويتجلى . تخف الثقلة وتشرق الظلمة وترق الكثافة وترف العرامة . واللبس والغبش في الرؤية والتأرجح والتردد في الخطوة ، والحيرة والشرود في الاتجاه والطـريق البهيم الذي لا معـالم فيه . كل أولئك يشرق ويضئ ويتجلى . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق .
لقد رضي الله الإسلام ديناً وهو يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام . سلام الفرد وسلام الجماعة وسلام العالم وسلام الضمير وسلام العقل وسلام الجوارح . سلام البيت والأسرة وسلام المجتمع والأمة وسلام البشر والإنسانية . السلام مع الحياة والسلام مع الكون والسلام مع الله رب الكون والحياة . السلام الذي لا تجده البشريـة ولم تجده يوماً إلا في هذا الديـن وإلا في منهجـه ونظامه وشريعته . ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته . وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة ، يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام ، إذ كانوا يذوقونه مذاقاً شخصياً ويلتذون هذا المذاق المريح .
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة ، والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات من كل ألوان الحرب في الضمائـر والمجتمعات قروناً بعد قرون . إننا نعاني من ويلات الجاهلية والإسلام منا قريب ، ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء . إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان ، ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية قبل أن ننقذ نحن أنفسنا وقبل أن نفيئ إلى ظلال السلام حين نفيئ إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه . والمؤمن اليوم أكثر مما مضى يجب عليه أن تتسع دائرة فكره ومفاهيمه عن الكون والحياة وقدرة الـخالق وضرورة شكره لله عز وجل على نعمائه ما يتناسب مع هذا القدر الكبير من القوى التي سخرها الله سبحانه تعالى لمنفعته : ” وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذٰلِكَ َلآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” ( الجاثية : 13 ) . فقد كشف الله له عن طاقات طبيعية هائلة من أجل أن يبني ويعمر ويتفنن ويبدع ويبتكر ويتقدم ، فيتحقق بذلك الهدف الأسمى من خلافته في الأرض ، تلك الخلافة المسؤولة ، المؤمنة الراشدة التي لا تنحرف عن الصراط المستقيم .
* كبير علماء الجزائر .