الظلم مؤذن بخراب العمران

ثورة في التفكير
يناير 1, 2020
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم
مارس 1, 2020
ثورة في التفكير
يناير 1, 2020
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم
مارس 1, 2020

( الحلقة الأولى )

بقلم : الإمام الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى

( محاضرة تاريخية ألقاها سماحة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله تعالى ) في 6/ يناير عام 1993م ، في قاعة باره دري بـ قيصر باغ ( لكناؤ ) ، وكان الحفل تاريخياً مشهوداً ، حضره عدد كبير من المثقفين والموجِّهين والسياسيين ، وكانت محاضرته كلمةً مستفيضةً ارتجلها بوحي من الأوضاع المتوترة المشتعلة في بعض مناطق الهند ، فأفاض ( رحمه الله تعالى ) في بيان الحقائق التاريخية ، واستعراض لبعض الأحداث الدامية ، في أمانة دقيقة ، ونصح صادق ، وجو خطابي ، وإلهام رباني ، وهي تحمل درساً وعبرةً لكل ظالم متكبر جبار ، وتؤكد على أن المسؤلية الكبرى لمعالجة مرض ” الظلم ” الذي يصاب به الفرد والمجتمع والدولة على السواء ، إنما تعود إلى العلماء والمثقفين ، وعلى رجال الدين وأصحاب القلوب الصافية ، وعلى الزعماء والسياسيين جميعاً )

أكبر سَوءة في التاريخ البشري :

أيها السادة الأفاضل ! أُصارحكم – وسامحوني على ذلك – بأن القراءة والمطالعة هوايتي ، أشتغل بالكتابة والتأليف ، وإني مولَع بمزاولة الكتب والنظر فيها ، وأركز عنايتي وأصرف اهتمامي في دراستي ومطالعتي نحو موضوعين بوجه أخص :

أحدهما : الأديان ودراستها المقارنة .

والثاني : التاريخ وما يتصل به من العلوم .

ولا أعني بالتاريخ تاريخ قُطر أو دولة ، بل تاريخ العام كله ، وإني درست عدداً وجيهاً من الكتب المؤلفة في كلا الموضوعين ، في كل من اللغات : العربية والفارسية ، والأردية ، والإنجليزية ، وقد تحقق لديَّ في ضوء هذه الدراسة الواسعة أن الأديان والديانات والمذاهب كلها ، لم تتفق في التاريخ كله على ذم ” سوءة ” والتنديد بها ، وعلى إبداء الكراهية والاشمئزاز منها كما اتفقت على ذم سوءة ” الظلم ” ، وعلى أن خالق هذا الكون لا يحب الظلم والعدوان .

التاريخ سجل حافل لعواقب الظلم الوخيمة :

والتاريخ خير شاهد على غوائل الظلم وعواقبه الوخيمة ، وإنه سجل حافل لتلك الأحداث والمآسي التي صنعتها أيدي الظالم والعدوان ، يحكي التاريخ عما خيَّم على الدول الكبرى والأقاليم العظمى من انحطاط وإدبار ، وما أصاب العمران من خراب ودمار ، وما أطبق على أوساط العلم ودور الكتب من جهل وظلام ، وأنه كيف طاف على الحضارات والثقافات طائف من الظلم والعدوان ، فأصبحت كأن لم تغن بالأمس .

يزخر التاريخ البشري بأمثلة قضي فيها للأبد على عصور ذهبية للحضارات والدول بمجرد آهة مظلوم ، ونفثة مكروب ، وهمهمة ضائع حقه .

أصدق نصح للدول والبلاد :

من الحقائق الناصعة التي لا يختلف فيها اثنان أن الدول العظيمة والحكومات الواسعة ( مهما بلغت من التقدم والتطور ، ومهما تقادم تاريخها وتعاظم تراثها ، ومهما كثرت وازدحمت وسائلها وذخايرها ) لا شيئ أقوم لها وأنفع ، ولا مؤاساة أصدق لها وأدنى إلى الحقيقة ، وأقرب إلى الواقع ، ولا مشورة ناشئة عن الشعور بالواجب والمسؤلية نحو    الخليقة ، أنفع لها من أن لا يظلم في أرضها ضعيف ، وأن لا يهضم فيها حق ، وأن لا يقتل فيها بريئ ، وأن لا يخذل فيها محروب ، وأن لا ترفع عليها دعوة مظلوم .

صانع فخار ، لن يصبر على كسر أوانيه :

هذه القاعة التي أنا أخاطبكم فيها ، ما حقيقتها وما قيمتها ؟ إنها لا تعدل مدينةً من المدن فضلاً عن دولة ، ولكن لو دهمها    المشاغبون ، وهجم عليها الهاجمون ، وبدأوا يفسدونها ، ويكسرون كراسيها ، وينالون من زينتها وجمالها ، وبدأو يهجمون على الجالسين فيها ، فالقيّم عليها ، والإدارة التي تتولى تنسيقها وترتيبها وتزيينها ، لن يقبل هذا التصرف العشوائي ، ولن يرضى بذلك ، لو ذهب أحدكم إلى دكان صانع فخار ( ولا أشير عليكم بذلك لأني ناصح لكم وأمين ) وما صانع فخار وأي منزلة ينزلها في مجتمعكم وبيئتكم ؟ وكم تساوي أوانيه المصنوعة من الطين عندكم ؟ ولكن لو ذهبتم تكسرون وتحطمون أوانيه ، أباريق وكأسات ، جراراً وأكواباً ، لن يصبر هو على هذا التصرف الغاشم ، ولن يسمح بذلك ، إنه يقوم ليمنعكم وليدافع عن أوانيه ، بل إنه ينقضّ عليكم  كالصقر ، وهذا لا يخص صانع فخار ، إنه شأن كل من يُسلب متاعه ، ويُنهب حقه ، ويُتحدى قوته وأنفته ، إنه لن يصبر على ذلك .

ما ذنب هذا المظلوم ؟

لو حدث مثل هذا الاعتداء في حي من الأحياء العامرة بالحياة ، الفائضة بالشهامة والمروءة والوفاء ، الآهلة بالعلم ، ليخرج في وجه ذلك المعتدي الحي كله على بكرة أبيه ، حتى ستخرج النساء من خدرها ، وسينقطع المولعون بالقراءة والكتابة لبرهة عن شغلهم وعملهم المحبوب ، ويأخذون بيد هذا المعتدى الغاشم ، ويسألونه : ما ذنب هذا المظلوم ؟ وما جريمته ؟ فأنت تعتدي عليه وعلى ممتلكاته كسراً وإحراقاً ؟!

أما الإنسان فلا بواكي له :

وبالقرب من هذه القاعة مكتبة تسمى بـ ” مكتبة أمير الدولة ” ، إنها تثير في روحي وضميري كل بواعث الإجلال والتقدير ، فإني أقدر كل كتاب فيها بل كل صفحة لكل كتاب من كتبها ، ولقد استفدت منها في كثير من كتاباتي ، مع كل هذا الإجلال والإكبار ، أقول لكم – وعلى سبيل المثال – لو أقدم أحد على تمزيق تلك الكتب وإحراقها ، ناله الناس بالأذى ، وانهالوا عليه ضرباً وتأديباً ، مع أن الكتب من السهل إعادة تأليفها وطبعها وتزيين المكتبة بها ثانية ، ولكن لا يسمح أحد لتعريض هذه المكتبة للمخاطر .

أيها السادة ! هذه القاعة ، وتلك الظروف والأواني من الطين ، وهذه المكتبة ، لكل منها من يذب عنها كما يذب الظليم عن فراخه ، إلا الإنسان في هذا العالم – أيها السادة – فلا مدافع عنه ولا بواكي له .

لحم على وضم :

مما يؤسف له أن الإنسان الذي كان درَّة هذا الكون وغرة جبين العالم ، لقد عُدّ اليوم من سقط المتاع وهمل الحيوان ، أصبح لحماً على وضم ، تتخطفه الطيور ، ويطأه من شاء كما يطأ الجمل نابت الهرم ، وعاد المجتمع البشري غابةً يعدو فيها ذئاب الإنس على جنسهم من البشر ، أما الذئب في الغاب فلا يعدو على صاحبه وعلى بني جنسه ، والأسد لا يفترس أخاه ، ولكن غابة المجتمع البشري ، فيصطاد فيها أخ أخاه ، ويفترس إنسان إنساناً ، وأي إنسان ! الكائن الحي الذي أنشأه الخالق من الأرض واستعمره فيها ، به يتجمل العالم وبوجوده تمتاز بلادنا عن  الغابات ، فلا يدخلها الصيادون ، لأنهم يعرفون أن هذه البلاد يسكنها الإنسان ، لا الحيوان ، وأن هذه البلاد هي مراكز العلم والحضارة ، ومحاضن الثقافة والفن والتاريخ ، ليست عرائن الأسود ، وأوكار   الطيور .

كيف يرضى بذلك خالق هذا الإنسان ؟

وهنا أسألكم أيها السادة ! وأجيبوني صدقاً ، إذا كان إنسان لا يرضى بأن تكسر وتحطم أوانيه من الفخار والزجاج ، فكيف يرضى خالق هذا الإنسان ، الذي خلقه في أحسن تقويم وصوّره فأحسن صوره ، وجعله آية قدرته ودليل صنعته في الإبداع والجمال ، وفضّله على جميع الخلق ، وسخَّر له الكون ، كيف يرضى ذلك الخالق بأن يقتل هذا الإنسان بيد إنسان آخر ، وأن تصير هذه البلاد العامرة بـ ” الإنسان ” غابة يصيد فيها إنسان إنساناً ، بكل وحشية وبكل ضراوة ، كيف يرضى بذلك خالق هذا الإنسان ، لا ، بل إن ذلك مجلبة لغضب الرب ، ومدعاة إلى سخطه الذي إذا حلَّ بساحة قوم فساء صباحهم ، ودالت دولتهم .

فذلكة القول أيها السادة ! أن هذه الأديان على ما فيها من خلاف تتفق على شناعة ” الظلم ” وسُوء عاقبته ، وأن الظلم يثير غضب الرب ويستنزل سخطه وعقابه على الظالمين ، فيجب أن يكون الظلم على العمران من الكوارث والحوادث والطوارق ما تقشعر لحسبانه الجلود ، ويشيب به الولدان والصبيان .

حقيقة صارخة لا تجحد :

سامحوني أيها السادة ! على بيان هذه الحقيقة الصارخة ( وإن كان قلبي لا يطاوع لساني ، لأني واحد من ساكني هذا البلد ) ولكن الحقيقة التي لا تُجحد أن الظلم إذا ساد في بلد وعمَّ في أرض كثرت فيها الزلزال ، والأعاصير ، والصواعق ، ويعاني ذلك البلد من القحط ، والجدب ، وقلة الخير ، ونقص البركة ، وغلاء الأسعار ، وتتفشى فيه الأمراض والأوبئة التي تبيد المجتمعات ، والفساد الذي يهلك الحرث والنسل .

الإنسان هو أغلى ما في هذا الكون :

لقد ثبت أن أخوف شيئ على البشرية وأخطره إنما هو الظلم ، لم أجد بين أديان العالم كله ، وبين ثقافات الدول كلها ، وبين المصلحين والزعماء والقادة ، وبين العباد والزهاد والنساك ، لم أجد بينهم اتفاقاً واتحاداً في أمر كاتفاقهم واتحادهم على أن الظلم هو أسوء ما يرتكبه الإنسان من خطيئة ، وعلى أن ” الإنسان ” هو أغلى وأثمن مما في هذا الكون كله ، وذلك لا يخص إنساناً دون إنسان ، بل الإنسان المطلق ، أياً كان دينه ، وأياً كان بلده ، وأياً كان نسله ، وأياً كان لونه ، وأياً كانت طبقته ، وأياً كانت عنصريته ، وأياً كان مستواه ، وأياً كان غناؤه في هذه الدنيا ، نافعاً كان أم غير نافع ، إنه هو إنسان فحسب وآية من آيات الله تعالى ، ومثال فنّي تجلت فيه بديع قدرته ، وواسع رحمته ، ومحكم صنعته ، إنه أروع روائع هذا الكون .

مرض الجنون والخلل في الجهاز العصبي :

أيها الحضور ! إن هذا الإنسان يمرض ، وأحياناً إنه يصاب باختلال العقل وبالجنون ، وبالخلل في الجهاز العصبي ، وهذا الخلل يصاب به الفرد حيناً ، وفي حين آخر يصاب به المجتمع بل القوم كله ، وليس ذلك غريباً في تاريخ النوع البشري ، فالتاريخ يشهد أن هذا الخلل في الجهاز العصبي ، وأن هذا الاختلال للعقل ، الذي نشأ عنه ظلم سافر ، وعدوان ساخر من قيمة الإنسان ومكانته ، إنه لم يصب به أفراد وأشخاص فحسب ، بل أصيب به مجتمعات على بكرة أبيها ، وبلاد بكاملها .

الغريب الذي تحار فيه العقول :

فالخلل والجنون لا غرابة فيه ، وليس مما يقضى منه العجب ، ولكن الغريب بل الأغرب الذي تحار فيه العقول ، وتخاف منه القلوب ، أن ييأس من علاج ذلك الخلل والجنون الأطباء ، وأن لا يبحث المجتمع له عن دواء ، إني شاهدت خلال جولتي الواسعة في أسفار التاريخ نماذج هائلةً مروِّعةً للجنون والاختلال الذي أصاب الحضارة البشرية ، والجيل   البشري ، وتسلط عليه ، وأحاط به وتمشى في العروق كما تتمشى  السِنة في العيون ، وكان يبدو – والعلامات تؤشر ، وتدل القرائن – على أن هذه الحضارة لن تصمد أمام هذا الجنون الهائج المائج ، وأن هذا الجيل البشري لن تبقى له باقية ، فإذا برجال ذوي الهمم العالية ، ذوي الطموح ، ظهروا على مسرح العالم وتصدَّوا لعلاج هذا المرض ، ولهذا الجنون  والخلل ، واستطاعوا أن يغيِّروا مجرى التاريخ ، وإني أقدر في ضوء دراستي الواسعة للتاريخ أن أضرب لكم عشرات من الأمثلة لهذا التغيير في مختلف الأحقاب التاريخية ، ولكن أكتفي هنا بمثال فقط .

التتار سجلوا رقماً قياسياً في الظلم :

عندما نهض التتار من حدود الصين ، واكتسحوا الأرض نهباً وسلباً وغارةً وحرقاً فجعل يراود العقل البشري أن النوع البشري سيفقد كل ما أحرزه عبر تاريخه الطويل ، وأنه سيتخلى عن كل ما لديه ، من معاني الكرامة والإباء والشمم ، وأن العالم البشري الحضاري يجب عليه أن يعيد سفره من حيث بدأ ، لأن كل حي كتب له الفناء ، وكل شيئ يسرع إليه الخراب ، فلن تبقى مكتبات ، ولا مدارس ، لا زوايا    وتكايا ، لا قراءة ولا كتابة ، لا أصحاب قلوب ولا أرباب عقول ، وأعجب ما في هذا المثال أن التتار كانوا في تركستان ، وكان الناس يخافون منه في أوربا ، وهنا أقدم إليكم شهادات مقتبسة من كتب المؤرخين الأوروبيين الموثوق بهم :

يكتب غبن في كتابه الشهير :

” The decline and fall of the Roman empire ”

” لما سمع أهل السويد خبر هجوم التتار عن الروسيين ، غلب عليهم الخوف والهول إلى حد أنهم لم يخرجوا إلى سواحل بحر انجلترا للصيد كسابق عادتهم ” .

يقول ( H.G.Wells ) :

” لو نظر سياسي عبقري في أحوال العالم في فجر القرن السابع لتنبأ أن أوربا كلها ستخضع للتتار في ” غضون قرون ” .

يكتب (Herald lamb ) :

” غارة التتار أضرت بالمدينة وقضت عليها قضاءاً تاماً ، حتى اضطر العالم في نصف معموره إلى إعادة بناء مراكز الحضارة والمدنية وإعادة صياغة هيكلها ، إنهم قضوا على الحكومات والدول ، وأخضعوها ، فقد اختفت وغابت عن منصب القيادة والزعامة خوارزم وبغداد وروسيا وكذلك بولندة لمدة يسيرة ” .

كيف تغير مجرى التاريخ في ظرف نصف قرن ؟

ظل الوضع كذلك حتى نهض في ذلك الوقت العصيب ، والظلام الحالك رجال من أصحاب القلوب الصافية ، ربانيون كانوا يتمتعون بالربانية الصادقة ، والقوة الروحية الدافقة ، وعباد الله المخلصون ، فبذلوا جهودهم ، واجتمعوا بأولئك التتار الغاشمين ، وذكّروهم الله : قدرته وجبروته وأيامه من النعم والنقم ، وخوّفوهم من سخطه وبطشه ، ولقنوهم نصايح ودروساً في اللين ، والرحمة ، والعطف ، ودماثة الخلق ، واستطاعوا جذب القلوب ونزع النفوس إليهم ، بحسن خلقهم ، وقوة روحهم ، وصدق عزيمتهم ، وبإخلاص نواياهم ، فرققت مواعظهم  قلوبهم ، وأذابت مواقُفهم نفوسهم ، حتى أسلم التتار على أيديهم على بكرة أبيهم ، في ظرف نصف قرن ، وصار الملوك عبيداً لهم وخدماً ، ولهذا التغيير أمثلة في التاريخ ونماذج .

دليل إخلاصهم وربانيتهم :

ومما يدل على تقوى أولئك النفوس ، ويدل على مدى إخلاصهم واستغنائهم عن الدنانير والدراهيم وزهدهم في حطام الدنيا ، أننا لا نعرف من أسماء أولئك العباقرة الأفذاذ ، وأولئك المخلصين الرجال إلا قلة    قليلة ، إن إخلاصهم منَعهم من إظهار أسمائهم لئلا ينقص من أجورهم شيئ ، إنهم صنعوا من الوحشيين البربريين الدمويين ، الذين لم يكن لهم حظ في العلم والحضارة ، صنعوا منهم جيلاً ظهر فيهم المؤلفون والكتاب والأدباء والشعراء والمؤسسون للدول ، حافظوا على التراث الحضاري البشري ، وقادوا البشرية نحو الأمن والسلام والرقي لعدة  قرون .

من الغريب أن يخرس اللسان ويجف القلم :

أيها السادة ! هذا الخلل في العقول ، ومرض الجنون ، والاختلال في الجهاز العصبى ، إنه ليس غريباً في تاريخ النوع البشري ، لو أصيبت به طبقة ، أو أصحاب تيار خاص ، أو مجتمع ، أو مدنية ، أو عصر  بأكمله ، فلا غرابة في ذلك ، فإنه قد حدث في التاريخ مراراً وتكراراً ، لكن الغريب المؤلم المؤسف أن يعقم ذلك المجتمع وذلك العصر عن أطباء يعالجون هذا الداء الدوي ، وأن لا تقوم جماعة لمقارعة هذا الطوفان ولا تتولى طائفة مسؤلية إعادة البشرية إلى البشرية التي تخلت عنها ، ومهمة منع الإنسان عن الظلم والعدوان ، وسفك الدماء ، ووظيفة إقامة وشائج المودة والقربى بين إنسان وإنسان ، والغريب أن يخرس اللسان ، ويجف القلم عن كشف اللثام وإزاحة الستار عن عواطف صادقة ومشاعر حقيقية لحب الوطن ، ومعنى الوطنية والولاء للبلد .

صرخة مظلوم أحلى على أذنيه من نغم السماع :

كل من قرأ فلسفة التاريخ ، واطلع على تعاليم الأديان ، ونظر في الكتب السماوية ، واعتنى بأقوال الحكماء والفلاسفة وأهل القلوب ، إنه ليعلم جيداً أن هذا الجنون والطيش لطالما يعتري البشرية ، وإنه يتنوع ويتعدد ، فهناك جنون اتباع الشهوات ، وخلل الاكتئاب والانضوائية ، فيكره إنسان أن يرى إنساناً ، ويجد في الظلم والعدوان لذة لنفسة الأمارة بالسوء ومتعة لروحه الخاوية ، فلا يطربه صوت مغنّ ولا قصيدة شاعر ، لا صرير هواء ولا خرير مياه ، لا يتلذذ مما أباحه له الشرع والفطرة والمروءة من صنوف وسائل الترفيه وأسباب التسريح عن النفس كما يتلذذ من قتل الإنسان وتعذيبه ، وإن صرخة مظلوم وآهة مكروب أحلى على أذنيه من نغم السماع ، إنه انحطاط في الأخلاق لا انحطاطَ بعده ، إنه إذلال للبشرية لا إذلالَ بعده .

هبت الرياح ببشارة بين يدي تغيير وانقلاب عظيم :

وما عدوتُ الحق لو قلت : إن الإنسان أصيب بهذا المرض لا مرة ولا مرتين ، بل آلاف المرات ، نشأت مكتبة بأسرها في تاريخ عدوان قوم وظلمهم ، وفي ابتكارهم وتفننهم في اختراع أساليب الظلم ، وكتبت أسفار جسام في تاريخ استعباد قوم لقوم آخرين ، وفي أحوال إبادة جيل وإحراقه ، ولكن كل ذلك طواه الزمان في مطاوي النسيان ، ودفن في ركام التاريخ ، ولن تجد له اليوم أثراً إلا بعد ما تنبش عنه من تحت ركام التاريخ ، أما تلك الأحداث في زمانها فكان يخيل للناظر إليها والمتابع لها أنها لن ترفع عن البشرية ، وأنها عقاب إلهي ، وكل من دخل في أتونها لا يخرج منه حياً ، عزيزاً ، مكرماً ، مثقفاً ، منتصب القامة ، مرفوع الهامة ، كأنه قد كتب له الشقاء الأبدي ، والفناء السرمدي ، فلن تقوم له قائمة ، ولكن هناك حدثاً تحول في مسار التاريخ ، وهبت الرياح ببشارة كبيرة بين يدي تغيير وانقلاب عظيم ، وانبرت الروحانية إلى الميدان كما ينبري الجيش المغوار إلى المعترك ، ثارت في النفوس مشاعر التضحية والفداء ، فالناس لم يهمهم أنفسهم ولا أعراضهم ، ولا  مناصبهم ، ولا حياتهم ، نزلوا في ساحة الحرب عزلاً عن أي رغبة ومطمع في الدنيا ، فتبدل الخوف أمناً ، وانجلت ضبابة اليأس والقنوط ، وعزب إلى العقل رشده المنشود وصوابه المفقود ، وصحا النشوان وأفاق  السكران ، والذي كان استمرأ الدم البشري ، فما كان يجد لذة سفك الدماء في ألذ مأكل وأهنأ مشرب ، صار هو ملاذاً يلوذ به الإنسان ، وأصبح معقلاً للإنسانية ، تحول السارق حارساً والمقاتل مسالماً وقاطع الطريق أميناً يستودعه الناس ودائعهم .

( للحديث بقية )