الاستبداد والحراك الشعبي ورهاب الإسلام : قضايا الربيع العربي في الرواية العربيّة المعاصرة

انتقادات المستشرقين للحديث الشريف في ضوء الواقع والميزان
مارس 15, 2022
حماية اللغة العربية بين الشعارات والتطبيق
أبريل 20, 2022
انتقادات المستشرقين للحديث الشريف في ضوء الواقع والميزان
مارس 15, 2022
حماية اللغة العربية بين الشعارات والتطبيق
أبريل 20, 2022

دراسات وأبحاث :

الاستبداد والحراك الشعبي ورهاب الإسلام :

قضايا الربيع العربي في الرواية العربيّة المعاصرة

الباحثة رابعة شبير *

توطئة :

الربيع العربي مصطلح جاءت صياغته باستيحاء من تعبير ” ربيع الشعوب ” (Springtime of Peoples ) الذي أطلق على ثورات العامين 1848 – 1849م في معظم أنحاء أوربا وقبلها في فرنسا في عام 1789م [1] ، والتي تم قمعها بسرعة ، فالمصلح مرتبط بالسياق الاستغرابي [2] سياسياً واجتماعياً في استخدامه للحراك الشعبي في عدد من الدول العربية إثر حادث الشاب التونسي بوعزيزي في آخر عام 2010م ، والذي أطاح بالإرث السياسي والثقافي العلماني للحبيب بورقيبة ( 1956 – 1987م ) ، وبحكم زين العابدين بن علي ( 1987 – 2011م ) ، واندلعت شرارتها في دول عربية مثل مصر واليمن قاضية على حكم حسني مبارك ( 1981 – 2011م ) ، وعلي عبد الله صالح ( 1990 – 2012م ) ، باهتزازات في دول عربية مثل المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت ودولة البحرين وجمهورية العراق ، وفي مناطق أخرى مثل جورجيا وقرغيزيا وأوكرانيا ، وما قصة ليبيا ومقتل معمر القذافي عام 2011م واستمرار الثورة في سوريا بصعوباتها ومآسيها والانقلاب الحالي في أفغانستان سوى وجوه من الحراك والتغيير التي تقلق صناع القرار ومنظّري مفاهيم الاستقرار وشرعنة التدخل في الغرب ومن يوالونهم ويطبّلون لهم في الشرق .

المشهد يقدّم الشعب والسلطة ورهاب الإسلام في ثلاثية سياسية وثقافية يتحالف فيها الأول بالثالث ، بينما يقف الثاني حائراً ملتوياً متلوّناً كالحرباء ومستعيناً بأوزار تفتك وتدمر ، وبإمداد إعلامي شرس يتقن عمليات التزييف والتمويه والتضليل ، ولا يهم هذه السلطة سوى البقاء بكل الحيل والمكائد والتحالف مع العدو وإن كان من الصهاينة أو عبدة الأوثان والشياطين . وهل ما رآه العالم في مصر واليمن وتونس– حالياً – وفيما عُرف في ساحة سياسات التطبيع من اتفاقيات وتكتلات ضدية سوى ما يثلج صدور المتآمرين ضد الإسلام ؟

ولا يستغرب أن تجد هذه الظاهرة انعكاسات لها في السرديات الأدبية على المستوى العالمي في لغات غربية وفي اللغة العربية على مستوى الوطن العربي فيما تشكّل به مشهد أدبي لا يستهان بقيمته في سياقات مجتمعية وأدبية هامة .

السياق السياسي :

لم تضع قوى الاستعمار أوزارها بعد الحربين العالميتين ( 1914 – 1918م و 1939 – 1945م ) إلا بعد أن أثخنت الجراح في الحرث والنسل باستخدام الأسلحة الفتاكة التي أوجدتها العلوم والتكنولوجيا الحديثة وعاثت في الأرض الفساد ثم شرعت في نشر أجندتها الاستعمارية لتستعبد شعوب الكتلة المنهزمة في أوربا وإفريقيا وآسيا سياسياً وثقافياً مثل ألمانيا واليابان وبعض الدول العربية ( العراق وبلاد الشام فلسطين وليبيا وتونس والجزائر والمغرب ) إما مباشرةً أو تحت مسميّات الانتداب أو الحماية الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية ، حيث كان المقيم الأوربي هو الآمر والناهي فعلاً ، ومن ينسى الأدوار السياسية والإدارية والثقافية والمالية التي لعبها مقيمون أوربيون فى الدول العربية والشرقية أيام الاحتلال أو بناء الاستعمار مثل المقيم الفرنسي المارشال لويس هوبير ليوطي ( 1854 – 1934م ) في المغرب الذي أسدل الستار على الثقافة المغربية الإسلامية : ثقافة  الموحدين والمرابطين والأدارسة ، بنشر الدعارة وصناعة الخمور وتجارة المخدرات وهتك الأعراض والحرمات ، وجان كليبر الفرنسي ( 1754 – 1800م ) وميلن تشيتهام وهنري مكماهون وريجانلد ونغيت وإدموند ألنبي والبارون لويد الأول وبيرسي لورين وميلز لابسون في مصر بين 1914 – 1936م في مصر أيام النفوذ البريطاني وعشرات من المقيمين الفرنسيين والبرتغاليين والهولنديين والإنكليز في الهند ؟ ولم يتسنح لمعظم الدول العربية أن تستقل من براثن الاستعمار الغاشم إلا بعد عقود من العمل الثوري وسلسلات من الثورة والمقاومة والتضحية وملايين من الشهداء ، فالجزائر – مثلاً – شعب مليون شهيد [3] ، والمشهد لا يختلف من بلد إلى آخر إلا في سياق حجم الدماء المراقة وكمية الفداء والتضحية ، مثل المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وسوريا والعراق وأقطار أخرى من الوطن العربي والإسلامي أو بلاد يشكل المسلمون فيها نسبة ملحوظة مثل شبه القارة الهندية . ثم آن الأوان لبزوغ فجر جديد : فجر الاستقلال حياة الكرامة في ظلال الوطنية الوارفة وأجواء النسيم بعيداً عن القهر الإمبريالي وأيامها السود [4] .

الأجنبي رحل ، ولكنه خلف وراءه رجالاً لا فرق بينهم وبين المحتل الأول إلا في الاسم ، لأن السياسة والإدارة لم تكونا جمهوريتين ، فبقي النظام استبدادياً وظل فرد واحد من أبناء الشعب حاكماً على الشعب كله لمدة مديدة تصل أحياناً إلى عقود ، مثل حكم على عبد الله صالح في اليمن ، وحسني مبارك في مصر ، وزين العابدين بن علي في تونس وآل سعود في المملكة العربية السعودية وحافظ الأسد وبشار الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق وآل صباح في الكويت ومعمر القذافي في ليبيا . إذ أن هولآء كانوا يحكمون على بلاد من غير أن يهتموا برفاهية الشعب ومشاكلهم الاقتصادية وحقوقهم الجمهورية ، فالحاكم كان غنياً لغنى البلد ( لثرواته الكثيرة ، وفي مقدمتها البترول في الدول العربية ) والشعب فقير [5] . وهذا من شأنه أن يخلق الشقاقات بين الطبقة الحاكمة والشعب ، وكثرت المشكلات في غياب التضامن الاقتصادي والاجتماعي ، ومن ثم بذور ثورات الجماهير التي توصف عادة بثورات الربيع العربي التي أقلعت النظام والمخزن في أقطار من الوطن العربي ، في سرديات سياسية تضم حركة الإخوان المسلمين وحركة النهضة والبوليساريو ومرسي والغنوشي والسيسي وقيس سعيد ، وآخرين [6] .

إن هذه الثورات الشعبية التى اكتظت بها عواصم مثل مدينة تونس والقاهرة وصنعاء كانت قوية جداً ، حيث إنها هزت الأنظمة وأزالتها وأحلت محلها أنظمة سياسية ديموقراطية [7] ، ولم يمكن للعالم والإعلام الدولي أن يغض النظر عنها .

الربيع العربي في السردي الروائي :

الأدب مرآة للمجتمع ، فلم يمكن الأدب العربي المعاصر أن يتغاضى عن هجوم الشعب على النظام القديم ، ذلك الهجوم الذي شارك فيه طلبة الجامعات والكليات والرجال والنساء ، والباعة المتجولون والتجار والأساتذة وحتى الجنديون سرعان ما انقلب إلى موضوع أدبي كثر فيه الإنتاج قصصياً وروائياً وشعرياً بجنب التغطية الإعلامية الكبيرة .

ومن هنا ظهور عدد لا بأس به من الروايات العربية التي تعكس ثورات الربيع العربي ، منها :

  1. دفتر الخوف للكاتب أبي بكر العيادي التي تحكي مأساة الشعب التونسي أيام اندلاع الثورة في تونس .
  2. عدو الشمس للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني التي تؤرخ للثورة الليبية وحكم معمر القذافي .
  3. أجندة سيد العمل للكاتب أحمد صبري أبو الفتوح التي تعكس الثورة المصرية وأحداث 25 يناير .
  4. ثورة العرايا للروائي محمود أحمد التي حازت على جائزة إحسان عبد القدوس عام 2013م .
  5. كان الرئيس صديقي للكاتب السوري عدنان فرزات التي تتحدث عن أحداث سوريا قبل الثورة على بشار الأسد .
  6. مدينة لن تموت للكاتب المصري يوسف الرفاعي التي تحكي الدمار والتفكك السياسي والانهيار الاقتصادي في مصر بعد الثورة .
  7. انقلاب للكاتب مصطفى عبيد التي تروي الربيع العربي في مصر .
  8. انتصاب أسود لأيمن الدبوسي التي تروي المنظور النسائي الحر للحراك الشعبي في تونس .
  9. لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة للكاتب السوري خالد خليفة التي تصور تفكك المجتمعات على الإطلاق بعد الثورة في مدينة حلب بالضبط . وكان خليفة كتب رواية سابقة بعنوان ” مديح الكراهية ” لكنها منعت من النشر في سوريا ، بسبب تصويرها لقمع الحكومة السورية للسُنّة عام 1980 .
  10. وقائع الصيف الماضيللكاتبة والصحفية المصرية ياسمين الرشيدي التي تصور الاضطراب السياسي في البلاد من خلال عدسة فتاة مراهقة في القاهرة .
  11. فراكانشتاين في بغداد للقاص العراقي أحمد السعداوية .
  12. الطلياني للروائي التونسي شكرى المبخوت التي تكشف عن المرحلة المضطربة لتونس بين أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات .
  13. غوايا لسليم حداد التي تدور أحداثها في دولة بالشرق الأوسط لم يكشف عنها ، بعد فشل الثورة الشعبية في ذلك البلد لفرض الحرية السياسية والاستقرار . ويتحدث في الرواية عن شخص يدعى راسا ، شاب عربي مثلي الجنس ، يبحث عن صديقه المفضّل ، وهو ناشط تم إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة .
  14. اليقطينة للكاتب/محمد مسعد العودي ، عن الثورات في اليمن بداية عن الإنكليز حتى حكم علي عبد الله صالح .

وغني عن القول أن هذه الروايات – من بين أعمال أخرى كثيرة – التي تعكس ثورات الربيع العربي في الدول العربية هامة جداً من حيث البنية السردية إضافة إلى قيمتها الأيديولوجية ، ومن هنا أهمية الموضوع وصلاحيته للمعالجة في السياق الفكري والأدبي لأوساط تهمها قضايا الحراك الشعبي والتحول الاجتماعي في علاقتها مع الكلمة والأيديولوجيا والثقافة ومعايشة الحال وبناء المستقبل .

البنية السردية :

مجرد جولة في الروايات المذكورة أعلاه تكفي للتدليل على واقعية الوضع السياسي والإداري والاقتصادي المتأزم التي تمخضت عن اندلاع ثورات الربيع العربي ، كما تبرهن على مدى تناغم السرديات الروائية مع الواقع الحقيقي والقيمة الفنية التى تحملها سرديات الربيع العربي في الحقل الروائي في سياق مدى تلقي روايات الربيع العربي في الأوساط العربية والعالمية .

رواية ” ورقات من دفتر الخوف ” لأبي بكر العيادي الصادرة مؤخراً في زخم الأحداث التي شهدتها تونس ، وهي كما يدل عليها عنوانها تصوّر الخوف في أجلى مظاهره ، كحالة عامة تفشت في البلاد واستبدّت بالعباد ، تخيّر منها الكاتب أمثلةً دالةً عما كان الناس يعانونه من قمع وتعذيب ونفي واستيلاء على ممتلكاتهم ، وعما كانت البطانة والحاشية تمارسانه من ابتزاز واضطهاد وتجاوز للقانون بمباركة طاغية يسوس بالقهر شعبه ، ليحاول تفسير سكوت التونسيين طوال ثلاثة وعشرين عاماً عن ظلم ذلك الرجل الذي وصل إلى السلطة بانقلاب ، ويتلمس الطرائق التي توخاها ، والوسائل التي استند إليها لزرع الخوف في النفوس ، لا يستثني من شعبه إلا من أسلم له القياد راغباً أو راهباً ، فهي سيرة جماعية من خلال سيرة الذات التي تشكل موقفاً لشريحة من المثقفين آمنوا بالكلمة الصادقة ، وتواروا وراء صدقهم في أزمنة القمع السياسي [8] .

أما رواية ” عدو الشمس . . البهلوان الذي صار وحشاً ” للمغربي محمد سعيد الريحاني ، فهي أولى رواية عن ثورة 17/ فبراير ، الثورة الليبية . وبعد إلقاء القبض على معمر القذافي في سبتمبر 2011م ، راسل القراء كاتب الرواية مطالبين بتحيين أحداث الرواية لمجاراة الأحداث الواقعة على الأرض . فأضاف الكاتب ما استوجبه الوضع ، وتعتمد الرواية على تقنية الحذف الذي يولد السخرية بفعل الارتطام المستمر مع اللامتوقع [9] .

وفي رواية ” أجندة سيد الأهل ” لأحمد صبري أبي الفتوح والتي لاقت استقبالاً حسناً في الأوساط الأدبية يتعامل الكاتب مع الثورة المصرية التي أطاحت بحكم حسني مبارك ، ويرى أنه لا يستحسن أن يوصف ما حدث بالربيع العربي أو المصري ، فاستدعاء هذا التعبير يذكره بالتأثير الأمريكي ، فكأنما قامت الثورات العربية ضد التسلط والدكتاتورية بتحريض وتشجيع أمريكيين . وهذا في مجمله ليس صحيحاً ، فالثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسورية قامت لأسباب داخلية أنضجت ظروف الثورة ، بعضها لقي ترحيباً غربياً وأمريكياً وبعضها شهد صمتاً مريباً . وقد ذكر الكاتب أنه رأى بعينيه بوادر ظهور البلطجية منذ اليوم الثالث من أيام الثورة ، لما أخرجهم النظام من غياهب السجون وحبوس الشرطة لينقضوا على الثوار ويعملوا فيهم القتل ، وأنه عندما يكتب عن بؤساء مصر إنما يكتب على غرار ما كتب الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو ( 1802 – 1885م ) والكاتب الإنكليزي تشالرز ديكنز ( 1812 – 1870م ) عن بؤساء باريس ولندن [10] .

من بين الأعمال الروائية التى تمثل الربيع العربي في بعض جوانبه : رواية ” ثورة العرايا ” [11] للروائي والقاص محمود أحمد علي ، وهي الرواية الفائزة بجائزة إحسان عبد القدوس ، تتحدث الرواية عن أسباب الثورات وأحداثها المرة . ومن أجواء الرواية :  ” ونجحت مرةً أخرى عندما وصلت إلى مكان المتظاهرين ، ورغم سيري لساعات طويلة من أجل الوصول إلى هنا ، إلا أنني سعيد ، ليست سعادة واحدة ، كما يعتقد البعض ، لكنها سعادات عدة نعم مجموعة متكاملة متشابكة من السعادة ، كحزمة البرسيم ، أهمها من وجهة نظري الوقوف بجوار هؤلاء العرايا ، والوقوف والمشاركة في ثورتهم التي أطلقوا عليها عدة مسميات منها : ثورة العرايا ، ثورة الجياع ، ثورة الموتى ، ثورة الممصوصين ، ثورة المطلقين والمطلقات ، ثورة التصحيح ، ثورة تتبعها ثورات ، وغيرها من المسميات ، للمطالبة بحقوقهم الضائعة . . . وجدتني فخوراً بنفسي لأني أول حمار يعتصم ، وأول حمار يطالب بحقه ، وحقوق . . نعم حقوق أمثالي الضائعة المنهوبة نحن معشر  الحمير ” . وإذا كانت معظم الروايات قد قاربت الربيع العربي من خلال التركيز على الأبعاد الاجتماعية ، الاقتصادية والسياسية وحاولت نسخ قصص يمتزج فيها الاجتماعي السياسي بالخيالي الروائي في تشريح للواقع العربي ونفسية الشخصية العربية في تفاعلها مع الأحداث . .  فالغريب هو أن يجد القارئ من تلك الروايات ما جنست هذا الربيع ولخصت كل تفاعلات ذلك البركان في الجنس تعبيراً عن موقف ما ، ولم تر في ذلك الحراك إلا حراكاً من أجل حرية جنسية ، ورغبةً في إشباع الغرائز ، كما حدث في رواية ( انتصاب أسود ) للروائي التونسي أيمن الدبوسي . والذي اختار لها بطلاً شاباً يحمل اسم الكاتب نفسه ، محاولاً من أول عمل روائي له خلق صدمة للقارئ وتنبيهه لظهور روائي جريئ صاعد ، يقارب الثورة التونسية بمنظور مختلف ، ويقتحم ميداناً من الصعب اقتحامه وفي مجتمع لا زال التلميح للجنس يستفز البعض ، وربط الثورة كحلم أمة بثورة جنسية ذاتية وبوصف تفاصيل تجارب جنسية تقف على حدود الشذوذ ، وهو ما يجعل القارئ يتساءل عن مغزى هذه الرواية وعن الهدف منها .

في رواية ” انتصاب أسود ” تم اعتماد السرد الذاتي بضمير المتكلم ، وفيها يحكي طبيب نفساني يحمل نفس اسم الكاتب ( أيمن الدبوسي ) لحظات من حياته أيام ثورة الياسمين التي شهدتها تونس ونجحت في إسقاط نظام زين العابدين بن علي ، وهو ما يضع إشكالية تجنيس العمل على قائمة الأسئلة التي تواجه أي قارئ الرواية ، لكن الكاتب أعفى هذا القارئ من هكذا أسئلة بتصنيفه لعمله ضمن الرواية [12] .

رواية ” مدينة لن تموت ” [13] للكاتب المصري يوسف الرفاعي ، وتروي أحداثاً واقعية في مصر وقد عاش فيها الشعب المصري خاصةً الشباب المصري المنكسر ، وقد صور الكاتب كل الدمار والتفكك السياسي والانهيار الاقتصادي الذي تمَّ في مصر وكيف وصل حال الوضع السياسي والاقتصادي في مصر بعد الثورة ، بينما رواية لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة للكاتب السوري خالد خليفة تروي أحداثها حول التفكك الذي حلَّ بكل المجتمعات على الإطلاق ، من خلال تسليط الضوء على عائلة دمرت كل أحلامها ولم يعدوا يفكرون إلا بالتخلص من جثة الأم التي تحولت إلى قطعة خردة في المنزل لتستمر حياة الآخرين .

رواية ” لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة ” [14] ليست مجرد رواية ، بل هي حفر عميق في آليات الخوف والتفكك خلال نصف قرن ، كما هي رواية عن مجتمع عاش بشكل متواز مع البطش والرغبات المقتولة ، عبر سيرة عائلة اكتشفت أن كل أحلامها ماتت وتحولت إلى ركام كما تحولت جثة الأم إلى خردة يجب التخلص منها ليستمر الآخرون في العيش ، رواية مكتوبة بحساسية صادمة ولغة رفيعة تأخذ بقرائها منذ الصفحات الأولى إلى أسئلة أساسية وتضعهم أمام حقائق خراب الحياة العربية في ظل الأنظمة التي استباحت حياتهم ودمرت أحلامهم ، إنها رواية عن ورطة الحياة بأعمق معانيها ، يعود فيها الروائي خالد خليفة بعد رائعته ” مديح الكراهية ” إلى الكتابة جهراً ، ورطة الحياة في أعمق معانيها ، ويكتب عن كل ما هو مسكوت عنه في حياتنا العربية والحياة السورية خصوصاً . . . هي رواية عن الأسى والخوف والموت الإنساني .

من الروايات المهمة في سياق الحراك الشعبي رواية : ” مديح الكراهية ” للروائي السوري خالد خليفة ، وصدرت لأول مرة عام 2006م ، وقد ترجمت إلى أكثر من ثمان لغات عالمية ، منها الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية ، ودخلت في القائمة النهائية ” القصيرة ” للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2008م ، المعروفة بجائزة ” بوكر ” ومن ثم في عام 2013م دخلت في القائمة الطويلة لجائزة ” الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبي ” ، واختارها موقع ” لِيسْت ميوز ” الثقافي الأمريكي ضمن قائمة أفضل مأة رواية عبر التاريخ . تقتحم هذه الرواية حقبةً من تاريخ سوريا وتعيد طرح الأسئلة الحارقة عن الصراع بين الأصوليين والسلطة ، نهاية وبداية سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ، وهي حقبة كادت تقضي بها ثقافة الكراهية على الأخضر واليابس . تقود الرواية القراء من مدينة حلب الآسرة وعوالم نسائها وحياتهن السرية إلى أفغانستان ، مروراً بالرياض وعدن ولندن وأمكنة أخرى [15] .

ولا ننسى رواية ” وقائع الصيف الماضي ” [16] لياسمين الرشيدي ، فهي تمثل أدباً سردياً من الأدب النسوي المتسم بالتوجه – الواعي أو سواه – لإعلاء الدور النسوي على الدور الذكوري كنوع من أنواع الإسقاط الدفين الذي يكتنف الشخصية النسوية في أنها لا تتمتع بحقوقها ، وأنها تعيش في مجتمع ذكوري وخصوصاً في المنطقة الشرقية ، على أن المشهد التنظيري للأنثوية تفرز أمامنا الكثير من أسئلة جذرية حتى بخصوص مفاهيم أساسية مثل تصور الحرية وأنها ليست في الملابس القصيرة أو في التدخين وأن التدين ليس في الاحتجاب القسري أو التوحد في إطار القهر .

المشهد الروائي العراقي والتونسي يعزز عالم السرد بفورة هائلة ، لكونه مكتظاً بالكثير من الروايات التي سجلت حضورها في الأوساط الدولية وحصلت على جوائز ، ومنها رواية أحمد السعداوي ” فرانكشتاين في بغداد ” [17] التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية ، وهي فازت سابقاً بجائزة البوكر العربية . ومن تونس رواية ” الطلياني ” للروائي التونسي شكري المبخوت التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2015م وجائزة الكومار الذهبي ، وهي تروي قصة قيادي يتمرد على أوضاع مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة وما تلاها وتتناول أحلام جيل نازعته طموحات وانتكاسات صراع الإسلاميين واليساريين ونظام سياسي ينهار . والرواية كما صرح الكاتب نفسه جاءت فكرته من أحداث ثورات الربيع العربي : بعد سنتين من الثورة في تونس والمرحلة القريبة من تاريخ تونس شبيهة بمخاوفها وتقلّباتها وصراعاتها بما كان فترة الانتقال من عهد الزعيم بورقيبة إلى عهد زين العابدين بن علي إثر انقلاب 1987م وفيها بحبكاتها المتداخلة وشخوصها المتنامية التي تتفاوض مع واقعها بانضباطية هلامية لا تتنكر لماضيها ولا تلتزم به كل الالتزام . في الرواية محطات كثيرة جاذبة ومدهشة في ذبذباتها وتصويرها لمرحلة مهمة من تاريخ تونس في القرن العشرين [18] .

خاتمة :

إن تجارب الربيع العربي بامتدادها الجغرافي على مستوى الوطن العربي تعكس واقعاً يؤسس لهيمنة قانون التحول في دولة بداخلها إنسان يعارض النظام أو المخزن ويطمح لإحلال الشعبية والثقافة الأصيلة – وليست الدخيلة – من خلال التغيير المركب ، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى صراع همجي ينتج خراباً هائلاً في الوطن ، إذ الفصائل الطامحة لامتلاك السلطة أو التحكم بها عن بعد تفسح المجال للتضييع والتشريد ومحو الآخر . فالرحلة هنا رحلة الإماتة أو الموت للإخوة الأعداء في غمار الانهيار الوجودي والانهيار القيمي الفكري ، والقصة مأساوية في الغالب ، لأن اللامتوقع المرعب والمؤلم طالما يفتح الباب للعدم الذى يفترس ضحاياه بمراكمة القلق ومضاعفة الغضب . وذلك لأن البؤس القيمي في ظل حرب الإخوة الأعداء يؤسس التواصل على العنف والقسوة ويجرّد المجتمع من أبسط الأخلاقيات المؤسسية ويمضي في سبيله بخطى سريعة لسلعنة كل ما يوجد له مستهلك في وسط معولم فتاك .

هكذا كانت وضعية الربيع العربي بانعكاساتها في التسريد العربي الروائي في كمية لا يستهان بها من الأعمال الروائية لشخصيات مثل الكاتب أبي بكر العيادي ( رواية دفتر الخوف ) ومحمد سعيد الريحاني ( رواية عدو الشمس ) وأحمد صبري أبو الفتوح ( رواية أجندة سيد العمل ) ومحمود أحمد ( رواية ثورة العرايا ) ويوسف الرفاعي ( رواية مدينة لن تموت ) وأيمن الدبوسي ( انتصاب أسود ) وخالد خليفة ( رواية لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة ) وياسمين الرشيدي ( وقائع الصيف الماضي ) وأحمد السعداوي ( رواية فراكانشتاين في بغداد ) وشكري المبخوت التي تكشف عن المرحلة المضطربة لتونس بين أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات في رواية ” الطلياني ” وأعمال أخرى مثل ” رواية غوايا ” لسليم حداد التي تدور أحداثها في دولة بالشرق الأوسط لم يكشف    عنها ، بعد فشل الثورة الشعبية في تلك البلاد لفرض الحرية السياسية والاستقرار ، ورواية اليقطينة للكاتب محمد مسعد العودي ، عن الثورات في اليمن بداية عن الإنكليز حتى حكم علي عبد الله صالح .

على أن هذا التسريد لا ينفصم أساساً عن مفارقات قيمية مردّها التأزم المركب ورهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا والتكتلات داخل المجتمعات العربية والإسلامية على الأسس القومية ( العربية ، الإيرانية ، التركية ، الصحراوية ، وغيرها ) ، مما جعل فصائل المنظّرين وكوادر التسييس المحترفين – مثل الإيراني آصف بيات والفرنسي أو ليفير روي وغيرهما – يؤرخون لمرحلة ما بعد الإسلاموية [19] ( على غرار ما بعد الحداثوية ! ) إثر آخر التطوّرات السياسية في مصر واليمن وتونس .

* بقسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة علي كره الإسلاميّة ، الهند .

[1] Merriman, John, A History of Modern Europe: From the French Revolution to the Present, 1996, p. 715, R.J.W. Evans and Hartmut Pogge von Strandmann, eds., The Revolutions in Europe 1848–1849 (2000) pp. v, 4

[2] لمفهوم الاستغراب وتاريخه أنظر : محمد ثناء الله الندوي : مرجعيّات الاستغراب الهندي النقدي وأسئلة الخصوصيّة ، مجلة كليّة الشريعة والدراسات الإسلاميّة ، جامعة قطر ، المجلد 39 ، العدد 2 ، 2021م ، عدد خاص حول ” فكر الاستغراب في التداول المعرفي المعاصر : نحو رؤية علميّة موضوعيّة لاستكشاف الآخر ” .https://doi.org/10.29117/jcsis.2021.0305

[3] Naylor, Phillip C. (2006). Historical Dictionary of Algeria. Scarecrow Press.

[4] انظر : جون آر برادلي : ما بعد الربيع العربي : كيف اختطف الإسلاميون ثورات الشرق الأوسط . ترجمة شيماء عبد الحكيم طه ومراجعة محمد إبراهيم الجندي ( مؤسسة هنداوي ، 2013م ) ، عبد القادر الهواري : الثورات العربية بين المصالح الأمريكية الإسرائيلية والأحلام الإيرانية القطرية ( القاهرة : الهيئة العامة فقصور الثقافة ، 2013م ) .

[5] نبيل عبد الفتاح : النخبة والثورة – الدولة والإسلام السياسي والقومية والليبرالية ( دار العين للنشر ، 2013م ) ، هاشم صالح : الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ ( دار  الساقي ، 2012م ) .

[6] يراجع في الموضوع :

Asef Bayat, Revolution without Revolutionaries: Making Sense of the Arab Spring (Stanford Studies in Middle Eastern and Islamic Societies and Cultures), 2017. Pp. 10-35, Abdelrahman, Maha: Egypt’s Long Revolution: Protest Movements and Uprisings. (Routledge Studies in Middle Eastern Democratization and Government). Abingdon: Routledge, Achcar, Gilbert (2013): The People Want: A Radical Exploration of the Arab Uprising. [G. M. Goshgarian, Trans.]. Berkeley: University of California Press, Agathangelou, Anna M.; Soguk, Nevzat (Eds.) (2013): Arab Revolutions and World Transformations. (Rethinking Globalizations). Abingdon: Routledge. 2011, Al-Zubaidi, Layla; Cassel, Matthew; Roderick, Nemonie Craven (Eds.) (2013): Writing Revolution: The Voices from Tunis to Damascus. London: I.B. Tauris, Berenger, Ralph D. (Ed.) (2013): Social Media Go to War: Rage, Rebellion and Revolution in the Age of Twitter. Spokane: Marquette Books, Davidson, Christopher M. (2013): After the Sheikhs: The Coming Collapse of the Gulf Monarchies. New York: Oxford University Press, Dawisha, Adeed (2013): The Second Arab Awakening: Revolution, Democracy, and the Islamist Challenge from Tunis to Damascus. New York: W. W. Norton & Company, Grand, Stephen R. (2014): Understanding Tahrir Square: What Transitions elsewhere can Teach us about the Prospects for Arab Democracy. Washington: Brookings Institution Press, Korany, Bahgat; El-Mahdi, Rabab (Eds.) (2012): Arab Spring in Egypt: Revolution and Beyond. Cairo: The American University in Cairo Press, Lahlali, El Mustapha (2014): Political Discourse in Transition: Egypt, Libya and Tunisia. Edinburgh: Edinburgh University Press.

آصف بيات : ثورة بلا ثوار . ترجمة بوليلة ( جامعة استانفورد ، 2017م ) ، واف القديمي : يوميات الثورة : من ميدان التحرير إلى سيدي بوزيد حتى ساحة التغيير ( الشركة العربية للأبحاث والنشر ، 2012م ) ، ص 12 – 50 ، رياض الصيداوي : من تونس إلى دمشق – حقائق خفية عن الربيع العربي ( جنيف : المركز العربي للدراسات السياسية والاجتماعية ، 2015م ) ، ص 15 – 45 ، حسن محمد الزين : الربيع العربي آخر عمليات الشرق العربي الكبير ( بيروت : دار القلم الجديد ، 2013م ) ، ص 9 – 35 ، عبد الإله بلقزيز : ماذا بعد الربيع العربي ( المركز الثقافي للكتاب ، 2017م ) ، ص 31 وما بعدها .

[7] يراجع : أماندا كادليك وأحمد الخمسي  وآخرون : الربيع العربي : ثورات الخلاص من الاستبداد – دراسة حالات ( دار الشرق ، 2013م ) ، ص 10 – 60 .

[8] أبو بكر العيادي : رواية دفتر الخوف ( لندن ، مومنت : 2013م ) .

[9] محمد سعيد الريحاني : رواية عدو الشمس ( المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع ، 2001م ) .

[10] أجندة سيد العمل للكاتب أحمد صبري أبو الفتوح ( دار العين ، 2011م ) .

[11] ثورة العرايا للروائي محمود أحمد التي حازت على جائزة إحسان عبد القدوس عام 2013م  ( مجموعة النيل العربية ، 2013م ) .

[12] أيمن الدبوسي : انتصاب أسود ( منشورات الحمل ، 2016م ) .

[13] رواية مدينة لن تموت للكاتب المصرى يوسف الرفاعي ، ( دار كتبخانة للنشر والطباعة والتوزيع ، 2017م ) .

[14] رواية لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة للكاتب السوري خالد خليفة ( دار العين للنشر ، 2013م ) .

[15] خالد خليفة : مديح الكراهية ( دار أميسة ، 2006م ) .

[16] ياسمين الرشيدي : وقائع الصيف الماضي . (Chronicle of a Last Summer. Penguin Random House, 2017)

[17] أحمد السعداوي : رواية فراكانشتاين في بغداد ، ( منشورات دار الجمل ، 2014م ) .

[18] شكري المبخوت: رواية  الطلياني (التنوير، 2014)

[19] آصف بيات : ما بعد الإسلاموية : الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي ( كتب حكمة ) ، ترجمة : محمد العربي ، ( مؤسسة ريم وعمر ، 2021م ) Roy, Olivier; Volk, Carol (1996). The Failure of Political Islam. Harvard University Press.