الخروج عن الأصل المعتاد لدى علماء العربية وأثره في اللغة العربية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
نوفمبر 22, 2024دراسات وأبحاث :
مجلة ” الضياء ” رائدة الصحافة العربية في الهند
الأخ آفاق القريشي *
برزت الصحافة العربية في شبه القارة الهندية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بظهور أول جريدة عربية في عام 1871م باسم ” النفع العظيم لأهل هذا الإقليم ” ، تحت رئاسة تحرير الشيخ مقرب علي ، وكانت هذه الجريدة بمثابة لبنة أولى للصحافة العربية في شبه القارة الهندية ، وخلفت آثاراً بعيدة المدى في أبناء هذه البلاد . واستمر صدور هذه الجريدة بانتظام ، إلى أن احتجبت في عام 1885م [1] . كما هناك رأي آخر في ظهور أول مجلة عربية في شبه القارة الهندية ، ولكن ذلك حينما أخذنا بعين الاعتبار ، اللهجات العربية المختلفة ؛ حيث نجد أن أول مجلة باللغة العربية ( باللهجة العامية ) ظهرت في الهند كانت مجلة ” طالب الخير لقومه ” التي أخرجها داؤد بن هائم ( Hayyim David Bin ) بمدينة ممبائ في عام 1955م [2] .
فبعد احتجاب جريدة ” النفع العظيم ” ، ظهرت على مسرح الوجود ، فينة لأخرى ، مختلف الجرائد والمجلات العربية في شبه القارة الهندية ، والتي ساهمت في تطوير الصحافة ، ونشر اللغة العربية بين أبناء الهند ، فأصدرت مجلة ” أخبار شفاء الصدور ” في عام 1875م ، ثم مجلة ” أخبار نسيم الصباح ” في عام 1893م ، ثم مجلة ” البيان ” في عام 1902م ، ثم مجلة ” الجامعة ” في عام 1923م [3] . وأخيراً ، بعد فترة استمرت لبضع سنين من عدم ظهور مجلة أو جريدة عربية ، أشرقت أرض الهند بنور ” الضياء ” في عام 1932م بإدارة تحرير الأستاذ مسعود عالم الندوي والشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ، وتحت إشراف العلامتين الجليلين السيد سليمان الندوي ، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي المغربي . وعلى حدّ تعبير الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي : ” إنه لم يكن أحد أحق بهذه الإدارة منه ” [4] .
مجلة ” الضياء ” :
فكانت مجلة ” الضياء ” الغراّء مجلةً ، عربيةً ، علميةً ، أدبيةً ، تعليميةً ، اجتماعيةً ، ثقافيةً ، فكريةً ، تصدر في منتصف كل شهر حسب التقويم الهجري ، وتقوم بنشر مختلف المقالات العلمية على صفحاتها الأربعين ، في مجالات مختلفة ، بما فيها الأدب ، والسياسة ، والتاريخ ، والتعليم ، والتربية ، والأمور الدينية ، وغيرها ، إلى جانب تخصيص بعض الأعمدة فيها ، مثل ” سير الحوادث ” ، و ” نظرات ” ، و ” آثار وأخبار ” ؛ من أجل الإفادة بالأخبار والأنباء حول البلدان العربية والإسلامية ، والدولية ، وكتابة تعليقات حول ما يجري فيها من الأحداث والأمور ، وكان يكتبها رئيس تحرير المجلة الأستاذ مسعود عالم الندوي بنفسه . وكذلك كان فيها باب ” بستان الأدب ” ، الذي كان مختصاً ببثّ القصائد العربية للهنود والعرب ، فممن نُشر نتاج قرائحهم فيه : هم العلامة السيد سليمان الندوي ، وعبد الرحمن الكاشغري ، والسيد رضا الشبيبي ، وأحمد محرم ، وأحمد شوقي ، وأحمد زكي أبو شادي ، وغيرهم . كما كان هناك باب ” عالم الأدب ” ، الذي كان المحرر ينتقد فيه كل ما يصل إلى المجلة من المجلات ، والكتب العلمية ، والمطبوعات الجديدة ، في إحدى اللغات العربية ، والإنجليزية ، والأردية . فكان الأستاذ مسعود عالم الندوي يقدم بها تعريفاً وجيزاً ، ويعطي فيها ملاحظاته القيمة ، ويحلل مقالاتها ورسائلها ، ويظهر ما فيها من قيمة أدبية ، علمية ، فنية ، للقرّاء الكرام .
وتجدر الإشارة هنا أن أصحاب مجلة ” الضياء ” سعوا سعيهم في سبيل إصلاح نظام التعليم العربي في الهند ، والنهوض بمستواه إلى شأو بعيد ؛ حتى تتيسر للشبيبة الناشئة من الطلاب المسلمين ظروف مواتية للدراسة والتعلم ، وهذا ما عبر عنه منشؤها الأستاذ مسعود عالم الندوي في إحدى كتاباته في هذه المجلة قائلاً : ” إن الضياء لسان حال المدارس والمجلات العربية كلها ، لا بعضها دون بعض ، ولذلك نريد أن نعقد باباً ” للأنباء التعليمية ” ، نذكر فيه كل ما يمت إلى هذه المدارس بصلة من برنامجها التعليمي ومناهج دروسها ، وتغيير أو انقلاب في إدارتها التعليمية ” . وكذلك أعرب المشرف الكريم على مجلة ” الضياء ” العلامة السيد سليمان الندوي عن غاية المجلة وأهدافها في فاتحة الضياء ، المعنونة بـ ” طلوع الضياء ” قائلاً : ” وليعلم أن المجلة مواد بحثها ، ومواضع إنشائها ، تنحصر في علوم الدين ، وفنون الأدب ، وآداب اللغة ، وطرق التربية والتعليم ، وما يناسبها من المسائل والأخبار ، وإنها لا تعزو نفسها إلى معهد دون معهد ، وتتعصب لأحد على أحد ، بل هي لسان حال المعاهد العربية كلها في هذه الديار ” [5] .
فنظراً إلى ذلك ، خصصت المجلة باباً من أبوابها ؛ لأجل تحقيق هذه الغاية النبيلة ، وأسهم فيه بشكل كبير يراع الأستاذ العلامة محمد تقي الدين الهلالي ، الذي كتب شيئاً كثيراً في هذا المجال ، مما يختص بتعلم الآداب العربية ، وإنهاض مناهج دروسها وبرامجها ، التي كان قد ران عليها ما انطوى عليها من زمن الجمود والركود ، إلى جانب تخصيص العلات التي جعلتها عقيمةً ، مع ذكر حلها ، وتنوير السبل المؤدية إليه .
وقد أُصدر لمجلة ” الضياء ” ثمانية وثلاثون عدداً ، وفيها أكثر من مائة مقالة علمية قيمة ، تعالج الموضوعات المختلفة منها ، الدينية ، والأدبية ، والتعليمية ، والاجتماعية ، والتاريخية ، والسياسية ، وهلمّ جراً . وما زالت كلها موجودةً حتى الآن إلا عدد شهر صفر من عامها الرابع الأخير لعام 1354هـ ، الموافق شهر أبريل عام 1935م ، حيث قد لعبت به يد الإهمال والتقصير ، فضاع ولم يمكن العثور عليه . وكانت هذه المجلة تصدر أعدادها لعشرة أشهر متتالية ، انطلاقاً من شهر المحرم من مطلع العام الهجري حتى شهر شوال ، وذلك حسب ما جرت به عادة المجلات العربية ، حيث تكون سنتها عشرة أشهر ، وتعوّض عن الشهرين الباقيين بكتاب أو كتب تهديها المجلة إلى مشتركيها على حسب بدل الاشتراك .
ومن أهم كتابها مديرها الأستاذ مسعود عالم الندوي ، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي ، والعلامة السيد سليمان الندوي ، والأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي ، والأستاذ محمد ناظم الندوي ، والأستاذ عبد الرحمان الكاشغري ، والأستاذ إحسان سامي حقي ، والأستاذ أبو الليث الإصلاحي الندوي ، والأستاذ بدر الدين الصيني ، والأستاذ أمين أحسن الإصلاحي ، والأستاذ عبد السلام القدوائي الندوي ، وغيرهم .
ومن مقالات المجلة ، ” علم الحديث في الهند ” ، و ” لسان العصر ” ، و ” الأدب النبوي ” ، و ” كيف انتشر الإسلام في الهند ” ، و ” علم الجغرافيا والعرب ” ، و ” تأثير الإسلام في الشعر العربي ” ، و ” تأثير المسلمين في الهند ” ، و ” الثورة الهندية الكبرى ” ، و ” اللغة العربية ومناهجها ” ، و ” المدارس والمعاهد العلمية الإسلامية ” ، و ” اللغة العربية ومناهج تعليمها ” ، و ” المدارس الإسلامية في الهند وعللها ” ، و ” أغلاط مترجمي القرآن ” ، و ” حاضر مسلمي الصين ” ، و ” شبلي النعماني ” [6] ، و ” رقي العلوم العربية ” ، و ” ندوة العلماء وتاريخها ” ، و ” الأمويون في التاريخ ” ، و ” أمثال اللغتين ” ، و ” دلائل نظام القرآن ” ، و ” شغف أبي العلاء بالمتنبي ” ، و ” مصر الحديثة الناهضة ” ، و ” الإسلام والوطنية ” ، و ” حول جاهلية العرب ” ، وغيرها الكثير من المقالات العلمية ، التي كتبت في مواضيع مختلفة متنوعة .
كما نُشرت في الضياء بعض ترجمات المقالات والكتب ، منها : مقال ” رسول الوحدة ” للسيد سليمان الندوي [7] ، وقد نُشر بتعريب الأستاذ محمد ناظم الندوي ، وكتاب ” الملاحة عند العرب ” للسيد سليمان الندوي [8] ، وقد نقله إلى العربية الأستاذ مسعود عالم الندوي ، ومقال ” العرب وأمريكا ” للسيد سليمان الندوي [9] ، وترجمه أيضاً إلى العربية الأستاذ مسعود عالم الندوي . وجدير بالذكر هنا ، أن مجلة الضياء أيضاً نشرت قصةً باسم ” أربعة لصوص ” لكاتبها محمد ناظم الندوي [10] .
أما التعليقات والتقريظات والملاحظات للمجلة ، التي كانت يُدلي بها على وجه العموم يراع المدير البليغ الأستاذ مسعود عالم الندوي ، إنما كانت متفتحة الآفاق ، ومتنوعة الجهات ، وتتناول كل ما يصلها من أمور دينية ، وأعمال أدبية ، وأخبار سياسية ، وطنياً ودولياً . فنجد المجلة تجاذب حبل التعليق والملاحظة على أمور ساخنة كثيرة ، منها ” قضية فلسطين ” ، و ” سياسة المسلمين الحاضرة ” ، و ” غاندي وحركة اللاتعاون السلمي ” ، و ” صراع الحجاز واليمن ” ، و ” جواهر لال نهرو واعتقاله ” ، و ” المؤتمر الهندي الوطني والمجلس النيابي ” ، و ” جمعية مسلم ليغ ومستقبلها ” ، و ” حركة كشمير ” ، و ” قضية العراق ” وغيرها الكثير من المواضيع الأخرى المختلفة . وقد نشرت في المجلة ملاحظات قيمة ورسائل بليغة ، مكتوبة على أيدي كبار كتاب العرب ، ما عدا العلامة الهلالي ، منهم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان ، والأستاذ إبراهيم النحاس المصري ، والأستاذ محمد الههياوي ، والسيد أبو النصر محمد الحموي ، وغيرهم .
لم تزل مجلة ” الضياء ” الراقية تضطلع بخدمة اللغة العربية وآدابها ، على مدى أربع سنين متتالية ، من عام 1932 إلى 1936م ، وبذل أصحابها جهوداً حثيثةً في تنشئة الشبيبة الناشئة من الطلاب المسلمين على أسس دينية متينة ، والنهوض بمستواهم في مجال التعليم ، وفنونه العلمية ، وآدابه اللغوية ، إلى جانب استنفاد مساعيهم في ترويج اللغة العربية وآدابها ، في وادٍ غير ذي زرع مثل الهند ، ولا سيما تشويق طلاب المدارس الإسلامية ؛ للاهتمام باللغة العربية ، نطقاً وكتابةً ، وتصويب أذهانهم نحو الاتجاه الفكري ، الإسلامي ، السليم ، إلى جانب تعريف أحوال المسلمين الدينية والتعليمية لدى الشعب العربي . فلقيت المجلة قبولاً واسعاً ، ونالت تقديراً بالغاً في البلدان العربية ، ورحبت بها الأوساط العلمية ، ومالت إليها القلوب الأدبية ، ونوهّت بها الجرائد والمجلات العربية ، حتى لقّب مدير تحريرها بالعلامة على صغر سنه من قبل بعض نقاد العرب ، الذي كان مشهوراً بانتقاداته الشديدة . وفوق ذلك ، حسب آراء بعض أدباء العرب وكتابها ، كان مستوى لغة هذه المجلة الهندية ، وطريقة تعبيرها أفضل من العديد من المجلات ، الصادرة في الدول العربية . ولم تزل تصدر هذه المجلة العلمية ، الأدبية ، الفكرية ، إلى أربع سنين على التوالي ، تفيد الأوساط العلمية ، الهندية منها والعربية ، ثم احتجبت ؛ لأسبابٍ ترجع إلى قلة الموارد ، وكثرة التكاليف ، واعتلال العلامة السيد سليمان الندوي ، حتى جاءت أعباؤها كلها على كاهل الأستاذ مسعود عالم الندوي ، فلم تتوفر النقود الكافية ، التي كان يمكن من خلالها المساعدة في سبيل الاستمرار بإصدار هذه المجلة الغراء ؛ لذا لم يتمكن الأستاذ مسعود عالم من مواصلتها ، رغم بذل جهوده المشكورة .
كانت مجلة ” الضياء ” بمثابة جسر تواصل بين الهند والعالم العربي ، وأقامت خير أواصر بينهما لتعريف مسلميها لدى أبناء العرب ، وإلى الاطلاع على سير السياسة والثقافة والاجتماع في أقطار العروبة ، عن طريق الصحف والمجلات ، التي كانت ترد في دار العلوم لندوة العلماء في المبادلة . فهكذا نجحت المجلة في تحقيق التعارف والتآلف بين مسلمي الهند وإخوانهم من مسلمي العرب ، وتمكينهم من أن يعلم بعضهم أحوال الآخر من أصح المراجع وأقرب المصادر ، فكانت بذلك تعمل عمل السفير من الشعب الهندي لدى الشعب العربي .
حازت هذه المجلة العربية ، العلمية ، الأدبية ، الاجتماعية ، الدينية ، على تقديرٍ بالغٍ ، وحفاوةٍ حارةٍ ، وقبول حسن ، لدى الأوساط العلمية ، الأدبية ، الفكرية في الهند ، والعالم العربي ؛ بصحة لغتها ، وفصاحة أسلوبها ، وأصالة تعبيرها ، إلى جانب موضوعاتها المتنوعة الشيقة ، ذات القيمة العالية .
فهذا ، وإن دل على شيئ ، فإنما يدل بشكل بيّن على نشأة الصحافة العربية ، وتطورها في شبه القارة الهندية من خلال مجلة ” الضياء ” ، ويوحي بدور فعّال قامت به المجلة في نشر اللغة العربية بين أبناء الهند ، وبث مكارم الإسلام بينهم ، وتصويب وجهتهم نحو تعلمها وتعليمها ، من خلال عناوينها المتنوعة ، العلمية ، الشيقة ، الممتعة ، في مختلف المجالات ، بما فيها الأدب ، واللغة ، والتربية ، والصحافة ، والتاريخ ، والدين ، والسياسة ، والثقافة ، والاجتماع ، وما إلى ذلك . كما فتحت لهم باباً جديداً ؛ لتبادل الأخبار والأنباء بين الهند والعرب ، وتوثيق العلاقات العلمية ، والأدبية ، والثقافية بين الأوساط الهندية والعربية ، التي كانت ضعيفة ومتقطعة ، ومنحتهم منصةً جديدةً ؛ للاحتكاك الثقافي الفكري الهندي العربي ، كما أطلعت العربَ على أوضاع المسلمين من الهنود تعليمياً ، ودينياً ، وسياسياً ، وثقافياً ، واجتماعياً .
* الباحث بالجامعة الملية الإسلامية ( دهلي ) .
[1] دور الصحافة في بناء المجتمع الهندي ، الدكتور أيوب تاج الدين الندوي ، ثقافة الهند ، م 56 ، العدد 1 ، ص 135 ، سنة 2005م .
[2] نظرة على تاريخ نشأة المجلات العربية في الهند ، الدكتور محسن عتيق خان ، صحيفة الجزيرة ليوم 08/06/2018م ، https://www.aljazeerah.net/blog/2018/6/8
[3] دليل الجرائد والمجلات العربية في الهند ، من طباعة مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لخدة اللغة العربية ، سنة1440هـ – 2005م .
[4] المصابيح القديمة ( پرانے جراغ ) ، الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي ، 1 – 365 ، من طباعة مكتبة فردوس بلكناؤ ، عام 1975م .
[5] طلوع الضياء ، العلامة السيد سليمان الندوي ، مجلة الضياء ، م 1 ، ج 1 ، عدد شهر المحرم ، ص 9 ، عام 1351هـ – 1932م .
[6] مقالة ” شبلي النعماني ” هي أول ما كتب بالعربية عن العلامة شبلي النعماني ، وقد دبجها يراع الأستاذ مسعود عالم الندوي ، ونشرت في المجلة تباعاً .
[7] مجلة الضياء ، م 1 ، ج 1 ، عدد محرم الحرام ، ص 4 ، عام 1352هـ – 1933م .
[8] مجلة الضياء ، م 3 ، ج 4 ، عدد ربيع الآخر ، ص 122 ، عام 1353هـ – 1934م .
[9] مجلة الضياء ، م 4 ، ج 1 ، عدد محرم الحرام ، ص 8 ، عام 1354هـ – 1935م .
[10] مجلة الضياء ، م 4 ، ج 1 ، عدد محرم الحرام ، ص 30 ، عام 1354هـ – 1935م .