دراسة وجيزة لتاج العروس من جواهر القاموس
يوليو 28, 2023أسباب انحطاط الأمة الإسلامية : دراسة مقارنة بين : ماذا خسر العالم ، ولماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟
ديسمبر 11, 2023دراسات وأبحاث :
فن الاحتِباك في القرآن الكريم
الدكتور محمد . ك ، بانديكادو *
الاحتباك فن عزيز من فنون البلاغة ، وسر لطيف من أسرار اللغة العربية ، وأسلوب جميل في الفرقان . وهو من ألطف أنواع البديع ، وأبدعها . وقلَّ من تنبَّه له أو نبَّه عليه من المفسرين وأهل فنِّ البلاغة . وقد أكثر منه برهان الدين البقاعي ( 809 – 889 الهجري ) في تفسيره العجيب ” نظم الدرر ” ، وقال عنه : ” وهو فن عزيز نفيس ، وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ، ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء ، وسميت ” الإدراك لفن الاحتباك ” [1] . ولكن من الأسف هذا الكتاب قد فقد بعده .
الاحتباك في اللغة : مأخذ هذه التسمية من الْحَبْك ، وهو الشدّ والإِحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب ، فَحَبْكُ الثوب هو سَدُّ ما بين خيوطه من الْفُرَج وشَدُّهُ وإحكامه إحكاماً يمنع عنه الْخَلَل مع الْحُسْنِ والرونق .
وفي الاصطلاح : هو أن يُحذف من الأول ما أُثبت نظيرُه في الثاني ، ومن الثاني ما أُثبت نظيرُه في الأول . وقال الزركشيُّ : ” الاحتباك هو أن يَجتمع في الكلام متقابلان ، فيحذف من كلِّ واحد منهما مُقابِلُه ؛ لدلالة الآخر عليه ” . وقال الجرجاني : ” الاحتباك : هو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، ويحذف من كل واحد منهما مقابله ، لدلالة الآخر عليه كقوله : علفتها تبناً وماءً بارداً ” [2] .
أمثلة الاحتباك في القرآن الكريم :
نرى في القرآن الكريم أمثلةً كثيرةً للاحتباك ، فنورد هنا بعضاً منها :
قول الله تعالى : ( فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ ) [3] .
فحذف من الأول ” مُؤْمِنَةٌ ” لدلالتها بلفظ ” كَافِرَةٌ ” في الثاني ، وحذف من الثاني ” تُقَـٰتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوت ” لدلالتها بلفظ ” فِي سَبِيلِ اللَّهِ ” في الأول .
تقدير الآية : فِئَةٌۭ ( مُؤْمِنَةٌ ) تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وأُخْرَىٰ كَافِرَةٌۭ ( تُقَـٰتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوت ) . ويقول الله تعالى : ( وأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ ) [4] .
تقدير الآية : وأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ( تَدْخُلْ غير بيضاء وأخرِجْها ) تَخْرُجْ بَيْضَاءَ ، فحذف من الأول ” غير بيضاء ” لدلالتها بلفظ ” بَيْضَاء ” في الثاني ، وحذف من الثاني ” وأخرِجها ” لدلالتها بلفظ ” وأَدْخِلْ يَدَكَ ” في الأول .
وقوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) [5] .
تقدير الآية : ” إن افتريتُه فعليَّ إجرامي ( وأنتم بُرَآء منه ، وعليكم إجرامُكم ) وأنا بريءٌ مما تجرمون ” . فحذف من الأول ” وأنتم بُرَآء منه ” لدلالتها بلفظ ” وأَنَا بَرِيءٌ ” في الثاني ، وحذف من الثاني ” وعليكم إجرامُكم ” لدلالتها بلفظ ” فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ” في الأول .
وقوله تعالى : ( ويُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) [6] .
تقدير الآية : ” ويعذب المنافقين إن شاء ( فلا يتوب عليهم ) أو يتوب عليهم ( فلا يعذِّبهم ) . فحذف من الأول ” فلا يتوب عليهم ” لدلالتها بلفظ ” أو يتوب عليهم ” في الثاني ، وحذف من الثاني ” فلا يعذِّبهم ” لدلالتها بلفظ ” ويعذب المنافقين ” في الأول .
أنواع الاحتباك :
الاحتباك أنواع ، ومنها ما يأتي :
الاحتباك الضدي : هو الذي يقع بين ألفاظٍ ، العلاقة بينهما قائمة على التضاد .
مثاله قوله تعالى : ( هُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَومٍ يَسْمَعُونَ ) [7] .
حيث حذف من الأول ( مظلماً ) لدلالة ضده عليه في الثاني ( مبصراً ) ، وحذف من الثاني ( لتنتشروا فيه وتبتغوا من فضله ) لدلالة ضده عليه في الأول ( لتسكنوا فيه ) .
تقدير الآية الكريمة هو : هو الذي جعل لكم الليل ( مظلماً ) لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ( لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضله ) .
الاحتباك المتشابه : هو الذي يقع الحذف فيه بين ألفاظٍ متشابهة . مثاله قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَومٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ) [8] .
ففي هذه الآية حذف من الجملة الأولى ( من الذين كفروا ) لدلالة مثله عليه في الثاني ، وحذف من الثاني ( صابرة ) لدلالة مثله عليه في الأول .
تقدير الآية : إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ( من الذين كفروا ) وإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ ( صابرة ) يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ .
الاحتباك المتناظر : هو الذي يقع بين ألفاظٍ ، بينها صفات مشتركة أي التشابه في بعض الصفات ، وليس تشابهاً كلياً لفظاً ومعنىً بل تشابهاً جزئياً .
مثاله قوله تعالى : ( ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء ونِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) [9] .
حيث حذف من الجملة الأولى ( داعي الكفار محمد ) لدلالة نظيره عليه في الثاني ( الذي ينعق ) وحذف من الثاني المنعوق به ، وهي ( ما يرعى من البهائم ) لدلالة نظيره عليه في الأول وهو المدعو ( الذين كفروا ) .
تقدير الآية : ( مثلك يا محمد ) ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به .
الاحتباك المنفي والمثبت : هو الذي يقع بين ألفاظٍ ، العلاقة بينهما قائمة على النفي والإثبات ، وفي هذا النوع يحذف من الأول كلمة مثبتة لدلالة نفيها عليها في الثاني ، ومن الثاني كلمة مثبتة لدلالة نفيها عليها في الأول ، أو بالعكس .
كما في قوله تعالى : ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ) [10] .
فقد حذف من الأول ( لا يشفقون منها ) للدلالة عليه في الثاني وهو ( مُشْفِقُونَ ) ، وحذف من الثاني ( لا يستعجلونها ) للدلالة عليه في الأول وهو ( يستعجل ) .
تقدير الآية : يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا ( فلا يشفقون منها ) والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ( ولا يستعجلونها ) .
نستطيع أن نرى هذا الفن في الشعراء العربية أيضاً . مثلاً قال الأعشى القيس :
وكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّةٍ وأُخرى تَداويتُ مِنها بِها
تقدير البيت : وكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّةٍ ( فَأَمْرَضَتْنِي ) وأُخرى ( شَرِبتُهَا ) فتَداويتُ مِنْهَا بِها ، حذف من الأول ( فَأَمْرَضَتْنِي ) للدلالة عليه في الثاني وهو ( فتَداويتُ مِنْهَا ) ، وحذف من الثاني ( شَرِبتُهَا ) للدلالة عليه في الأول وهو ( شَرِبتُ ) .
قد بين السيوطي في ” الإتقان في علوم القرآن ” عن هذا الفن الجميل . وقد ذكره الزركشي في البرهان ، ولم يسمِّه هذا الاسم ، بل سماه : الحذف المقابلي .
* الأستاذ المشارك ، الكلية الحكومية ، جرور ، بالكادو ، كيرالا ، الهند ، Mail: mhdpkd@gmail.com
[1] نظم الدرر ( 1/31 ) .
[2] https://al-maktaba.org/book/31871/7025#p39
[3] آل عمران : 13 .
[4] النمل : 12 .
[5] هود : 35 .
[6] الأحزاب : 24 .
[7] يونس : 67 .
[8] الأنفال : 65 .
[9] البقرة : 171 .
[10] الشورى : 18 .