منهج تفسير القرآن وكيفية فهمه
يوليو 28, 2023النظام الطبقي في المجتمع الهندي
يوليو 28, 2023دراسات وأبحاث :
شبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل في الشهر الحرام
الأخ محمد دانش أنور *
نحمده ونصلي على رسوله الكريم ، أما بعد :
فنحن في زمن تكالبت الأمم على الأمة الإسلامية فوقعت في المحن والاختبارات ، مرةً بالهجوم على مقدساتها من الجوامع والمساجد ، فأخرى بانتهاك حرمة القرآن العظيم ، فثالثةً بالتطاول على أفضل البشر سيد خلق الله في الكون النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بأبشع الألفاظ من السب والشتم ، والكذب الواضح على النبي صلى الله عليه وسلم ودينها العظيم .
قد ذكرت في هذه المقالة شبهة من الشبهات التي أثيرت في الآونة الأخيرة حول سيرة سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، بأنه لم يحترم قانون الحرب ، وقاتل هو وأصحابُه المشركين في الشهر الحرام ، وهذا انتهاك لحرمة الأشهر الحرم .
من خلال هذه الأسطر حاولت أن أجيب عن هذه الشبهة بالدلائل من القرآن والسنة .
هذه الشبهة التي أثيرت حول قتال النبي صلى الله عليه وسلم للكفار في الشهر الحرام ، كقتاله في ذي القعدة في غزوة ( الطائف ) ، فيجاب عنه :
بأن ذلك القتال كان من باب قتال الدفاع ، لا قتالِ الطلب ، وكان ابتداء القتال في شهر حلال ، وقتال الدفع جائز حتى في الشهر الحرام ؛ لقوله تعالى : ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [ البقرة : 194 ] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق ابن عيسى ، حدثنا ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ [1] . ولهذا لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو مُخَيِّم بالحديبية أن عثمان رضي الله عنه قد قتل ، – وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين – بايع أصحابه ، – وكانوا ألفاً وأربع مأة – تحتَ الشجرة على قتال المشركين ، فلما بلغه أن عثمان رضي الله عنه لم يُقتَل كف عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة .
وكذلك لما فرغ من قتال هوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف ، عَدَل إليها ، فحاصرها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ، واستمر عليها إلى كمال أربعين يوماً ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَح [2] .
وقال الإمام ابن كثير : الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدأوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنِّزال ، فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعةً ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياماً ، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا هو أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة ، والله أعلم [3] .
كذلك أجيب أننا لو سلمنا أن قوله تعالى : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) ، وحصار الرسول صلى الله عليه وسلم للطائف يدل على جواز ابتداء الكفار بالقتال ؛ فإننا لا نسلم قط بنسخ حرمة الأشهر الحرم في حق المسلمين ؛ لأن الله عز وجل يقول في نفس الآية : ( فَلا تَظْلِمُوْا فِيـهِنَّ أَنْفُسَكُم ) أي : فلا تقعوا في ظلم أنفسكم بفعل المعاصي وانتهاك الحرمات .
وعن عروة بن الزبير ، حيث يقول : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله عنه في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى ، وبعثَ معه بثمانية رَهْط من المهاجرين ، فيهم عكاشة بن محصن ، وعتبة ابن غزوان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن البكير ، وسهيل بن بيضاء ، وليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتاباً ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره ، ولا يستكره من أصحابه أحداً .
فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه ، فإذا فيه : ” إذا نظرت إلى كتابي هذا ، فسِرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصَّد بها قريشاً ، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم ” . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : ” سمعاً وطاعةً ” ، ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه ، ما عدا سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ؛ لأنهما أضلا بعيراً لهما كانا عليه يعتقبانه ، فتخلَّفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيباً وأدَماً وتجارةً من تجارة قريش ، منهم عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان ، والحَكَم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة ، فلما رآهم القوم هابوهم ، وقد نزلوا قريباً منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وقد كان حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا وقالوا : عُمّار ! فلا بأس علينا منهم ، وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من جمادى ، فقال القوم : والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجُعوا عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذو ما معهم ، فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم ، وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ” ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، سُقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا ، وقالوا لهم : صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال ، وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ، فسفكوا فيه الدمَ ، وأخذوا فيه الأموال وأسروافيه الرجال ، فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله عز وجل على رسوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيْه ) ، أي : عن قتالٍ فيه ، ( قُلْ قِتَالٌ فِيْه كَبِيْرٌ ) إلى قوله : ( وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته ، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم ، وقد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، وذلك أكبر عند الله من القتل ، هكذا فرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق والضيق بسبب أقوال المشركين واليهود في حادثة قتل عمرو بن الحضرمي [4] .
نزلت الآية الكريمة تسليةً لقلوب المؤمنين ، وإرغاماً لأنوف الكفار ، فقال الإمام الطبري أيضاً في تفسيره : أنه لا خلاف بين أهل التأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله [5] .
قال ابن هشام : وهي أول غنيمة غنمها المسلمون ، وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان أول من أسرهما المسلمون [6] .
أجمل قصيدة مرتجلة :
وما أجمل ما قيل من القصيدة في هذا ! أيًّا كان قائلها ، فقال ابن إسحاق : قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال ابن هشام : هـي لعبد الله بن جحش [7] :
تَعُدُّونَ قَـــتْلًا فـي الحرام عــظيـمـةً وأعظمُ منه لو يــرى الرُّشدَ راشدُ
صُــــدودكـــم عما يقول مــحــمــدٌ وكُـــفــــرٌ بـــه واللهُ راءٍ وشـــاهـــدُ
وإخراجُكم من مسجد الله أهلَه لئلا يـرى لله فـــي الـبيت سـاجــــدُ
فـإنا وإن عَــــــيَّـــــرتُــــمُــونـا بـقــتـلــه وأرجــف بــالإسلام بــــاغٍ وحـاســـدُ
سَقَينا من ابن الحــضرميِّ رماحَنا بِنـخلةَ لَمَّـا أوقـــــد الـحـــربَ واقِـــدُ
دَمًــا وابنُ عبــدالله عثمانُ بــــيـنـنـا يـــــنــازعــــه غُـٌّل مـن الــقِـِّـد عـانِـــدُ
خلاصة الكلام :
إن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته هي المثل الأعلى الذي يحتذيه كل مسلم ، بل هناك جوانب كثيرة تأسى بها أعداؤه أيضاً ، وهي على تقادم العهد بها جديدة في كل عصر ، توحي لكل فئة من فئات الأمة بما يبعثها نحوَ الخير ، ويدفع بها إلى ميادين الخلود ، ويزيد من إمعان النظر ، حيث كان يضع أصولها ، ويوجه دفـتها بما ينزل عليه من الوحي ، فالقائد الحكيم في أي معركة من المعارك الحربية ، هو الذي يفرض زمان المعركة ومكانها على أعدائه ، وليس هو الذي يورِّط أفراد جيشه في معاركَ فاشلة ، دون أن يخطِّط لهاالتخطيط السليم ؛ ولذا فإن المعارك الحربية قبل أن تدور في مَيدان القتال ، تدور أولاً فوق المكاتب وطاولة الاجتماعات بين القادة العسكريين ؛ لرسم الخطط والاستراتيجيات والبدائل ، ثم تُعَدُّ بعد ذلك العدة لتنفيذها بدقة وإتقان ، فهل يعقل أن الذي بعث رحمة للعالمين ، وقد شهد لرحمته أعداؤه ؛ أن يخالف قانون الحرب ، وخاصة القانون الذي يحترم الدماء التي تعتبر ضد الرحمة ؟
مصادر ومراجع :
- القرآن الكريم .
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة .
- جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ، تحقيق : أحمد محمد شاكر ، مؤسسة الرسالة .
- مسند الإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق : الشيخ شعيب الأناؤوط ، مؤسسة الرسالة .
- السيرة النبوية لابن هشام ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد ، دار الجيل .
* الباحث في الدكتوراة ، قسم اللغة العربية ، جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية ، فرع لكناؤ ، أترابراديش ، الهند .
[1] مسند الإمام أحمد بن حنبل : برقم 14713 ، بتحقيق : الشيخ شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة .
[2] انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 1/527 ، بتحقيق سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة .
[3] انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 4/105 ، آية (36) من سورة التوبة ، بتحقيق سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة .
[4] انظر : جامع البيان في تأويل القرآن للطبري : 4/302 ، بتحقيق : أحمد محمد شاكر ، مؤسسة الرسالة .
[5] المصدر السابق .
[6] السيرة النبوية لابن هشام : 3/151 ، بتحقيق : طه عبد الرؤوف سعد ، دار الجيل .
[7] المصدر السابق .