شخصية صنعت التاريخ

وفاة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي : يا لها من حادثة
نوفمبر 19, 2023
وفاة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي : يا لها من حادثة
نوفمبر 19, 2023

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي :

شخصية صنعت التاريخ

فضيلة الأستاذ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي *

إن وفاة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي تركت أثراً عميقاً لا على الشعب الهندي المسلم فحسب ، بل على العالم الإسلامي كله ، وقد كان رحمه الله شخصيةً عالميةً ، قيضها الله تعالى لنشر دينه وإبلاغ دعوته ، فكان لنا ظلاً ظليلاً نستظل منه ، فلا شك أنه كان بركة العصر ، يتبرك الناس به في هذه الأحوال المكفهرة ، وكان وجوده رحمةً ، وكان خليفة الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي ، فقد أدى حق هذه الخلافة والنيابة ، وقد ذكر الإمام أشرف علي التهانوي عن الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي أنه مجمع الكمالات أي جامع للفضائل والمكارم ، فقد ناب عنه الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في جميع المجالات التي عمل فيها الإمام الندوي رحمه الله ، فأنشأ هذه الصفات في نفسه ، حتى أصبح صورةً صادقةً له ، فحينما يراه بعض الناس فيخيلون إليه أنه الإمام الندوي رحمه الله رحمةً واسعةً .

صحب الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي منذ أول يومه الإمام الندوي ملازمة الظل لصاحبه ، بل أفنى نفسه أمامه ، فكان نتيجة ذلك أن الإمام الندوي يحبه حباً كثيراً ، ويعتمد عليه ويثق به ، وليس أحد أكثر ثقة عنده من الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، فرافق في حله وترحاله وسفره وحضره في الهند وخارجها ، وكان مساعداً خاصاً له في جميع شئونه العلمية والإدارية ، لكنه لا يتظاهر بعلمه ونفسه ، ولم يُصب بإعجاب بنفسه ، وظل على هذه الحالة إلى آخر حياته ، فطره الله على صفة الاعتدال والوسطية ، فكان في رأيه سديداً ، وكانت مشوراته صائبةً ، وكان والدي الأستاذ محمد الحسني رحمه الله يقول : ما رأيت أحداً أكثر صواباً في الرأي من الشيخ محمد الرابع الحسني ، وكان ينظر بنظرته الثاقبة إلى المستقبل البعيد ، ويعرف الأخطار المحدقة بالأمة ، ويتفرس لها ، فيختار أسباباً للوقاية منها ، فتزول المشكلات ، ويسود جو الأمن والسلامة ، ويتنفس الناس الصعداء ، والحمد لله على ذلك .

كان الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي مثالاً حياً للأسوة الحسنة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام ، وقد جذب في نفسه شمائل السيرة النبوية ، فكانت حياته نوراً وضياءً للناس ، إنه ألف في الموضوع كتاباً قيماً باسم : سراجاً منيراً ، وقدم السيرة النبوية كنموذج للإنسانية ، يستطيع الإنسان أن يقتدي بها بكل سهولة ، فجاء هذا الكتاب في أوانه ، ووضع النقاط على الحروف ، وهو خير ما يُهدى إلى غير المسلمين للتعريف بالإسلام ، وإيصال رسالته إليهم ، وقد صدرت له طبعات بالأردية والعربية والإنجليزية والهندية ، وصدر من قلمه أيضاً كتاب حول القرآن الكريم باسم : ” الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية ” ، ونال هذا الكتاب أيضاً قبولاً واسعاً ، وكان للشيخ ذوق لفهم القرآن وتدبره ، تنكشف عليه المعاني العالية والنكت الرائعة ، وقد استفدت منه خلال ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأردية ، وكانت له سلسلة لإلقاء الدروس في شهر رمضان ، فتأتي خلالها أسرار ودقائق لكتاب الله تعالى ، وصدرت لهذه الدروس عدة مجاميع منها : المجتمع الإسلامي : حدوده وآدابه ، وتأملات في سورة يوسف وغيرهما ، وقد ألف كتباً أخرى مثل منثورات من أدب العرب وهو من مقررات المدارس والجامعات ، وكان له شغف زائد بالجغرافية ، فدرس هذا الموضوع بإيعاز من خاله الكبير الشيخ السيد عبد العلي الحسني ، فألف كتاب جغرافية جزيرة العرب ، وكان عمره ما بين 25 – 30/ عاماً ، وقد أبدى انطباعاً جيداً عنه الكاتب الناقد الأستاذ ماهر القادري في صحيفته        ” فاران ” ، وعلق عليه تعليقاً لائقاً بالكتاب .

وفق الله الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي لأن يزور كثيراً من مشايخ عصره ، ويستفيد منهم ، فكان في مقدمتهم الإمام أشرف علي التهانوي الذي زاره الشيخ عن قرب في لكناؤ ، كما سافر مع الشيخ الداعية محمد إلياس الكاندهلوي أمير جماعة الدعوة والتبليغ سابقاً ، ورافق العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرائفوري في رحلته إلى الحجاز ، وسعد معه بفريضة الحج والعمرة وزيارة المشاعر المقدسة ، وكانت هذه الرحلة بطريق البحر ، استغرقت أسبوعاً كاملاً ، فبايع على يديه واستفاد منه كثيراً ، كما استفاد من الشيخ المحدث السيد حسين أحمد المدني زمن دراسته في دار العلوم بديوبند .

ظل الشيخ محمد الرابع الحسني مدرساً طول حياته ، بدأ حياته بتدريس الكتب اللغوية ، ثم درَّس الكتب الحديثية والأدبية والنقدية ، وقد درَّس إلى مدة تفسير القرآن الكريم ، فكان من الذين استفادوا منه في هذا الفن الباحث المدقق البروفيسور يسين مظهر الصديقي الندوي رحمه الله ، وكان يقول : إن موضوع أستاذنا الأصيل تفسير القرآن الكريم ، وكان في آخر حياته يدرِّس جزءاً من صحيح البخاري ، كما كانت في مجالسه بعد العشاء التي يحضرها الأساتذة والطلبة تقرأ كتب حديثية مثل كتاب الشمائل للترمذي ، ورياض الصالحين وتهذيب الأخلاق وغيرها من الكتب ، وكان الشيخ مدرساً ناجحاً ، يدرِّس ، فيقنع الطلبة بأسلوب تدريسه ومنهج تفهيمه ، ويحيط الموضوع بجميع جوانبه ، حتى لا تنشأ في ذهن الطلبة تساؤلات ، وهم يطمئنون بهذا الدرس ، وكان يقول : ما زلت مدرساً في دار العلوم لندوة العلماء ، وأحب وأفتخر بهذه السعادة ، فإنه ظل يدرس إلى آخر أيام حياته ، وإذا قدرنا حياته كلها ثلاثاً وتسعين سنةً من السنة الميلادية ، فقد قام بتدريس الكتب في دار العلوم مدة ثلاث وسبعين سنةً ، ويقدر من السنة الهجرية خمساً وسبعين سنةً ، لم يوفق في تاريخ دار العلوم لندوة العلماء أحد للتدريس والإفادة إلى هذه المدة المديدة ، فتلامذته منتشرون في أرجاء العالم ، وهم صدقة جارية له ، ويجري هذا الخير بإذن الله إلى يوم القيامة .

استفاد الشيخ من كبار أساتذة دار العلوم لندوة العلماء ، ولم يكن تعليمه منتظماً ، وفقاً لمقررات دار العلوم صفاً صفاً ، بل درس الكتب على أساتذة الفنون المختلفة .

كان الشيخ محمد الرابع الحسني ذا علم غزير ، إنه درس وطالع طرفاً من جميع الفنون ، حتى إنه ترجم كتاباً حول السيرة النبوية باللغة الإنجليزية إلى العربية ، فأحسن وأجاد ، وكان يقرأ الإنجليزية بكل سهولة ، وكان يقول : حينما انتخبت لمنصب الأديب الأول في دار العلوم لندوة العلماء بعد ذهاب الشيخ عبد الله عباس الندوي إلى الحجاز ، فأكثرت من مطالعة الكتب والمؤلفات ، وخصصت لنفسي أني أطالع كل يوم خمسين صفحةً ، ما عدا الكتب المنهجية التي كلفت لتدريسها في دار العلوم ، فسيتغرق ذلك وقتاً لا بأس به ، وكثيراً ما تأتي الكتب والمؤلفات الجديدة إلى الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي من الدول العربية ، فأطالعها قبل أن أفوضها إلى المكتبة العامة ، حتى إن هذه المطالعة قد أثرت في صحتي فأصبت بمرض ، وانهارت به صحتي ، لكن هذه المطالعة ظلت نافعةً لي إلى آخر حياتي ، فالحمد لله على أني لا أكون في أي مجلس من مجالس العلم والأدب متغافلاً عن أسسها ومبادئها .

وكان الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي موثوقاً به لدى مسئولي ندوة العلماء ، فكان مدير دار العلوم آنذاك الشيخ محمد عمران خان الندوي يكلفه للمراسلات العربية ، ويسند إليه أعمالاً علميةً أخرى ، فينجزها على أتم شكل وأحسن صورة ، فيدعو له بالبركة في العلم والعمر ، وهو الذي اقترحه للتدريس في دار العلوم لندوة العلماء كمدرِّس ، وحينما عُقد المهرجان التعليمي لندوة العلماء عام 1975م ، فكان للشيخ محمد الرابع الحسني فيه مساهمة كبرى ، بحيث إنه أدار جميع الجلسات لهذا المهرجان باللغة العربية ، وعرَّف بالضيوف الكرام والمندوبين العظام الذين شرفوا ندوة العلماء من العالم الإسلامي ، وكان هذا المهرجان مبعث تعريف كبير بندوة العلماء على الصعيد العالمي ، إن تاريخ ندوة العلماء في عهد رئاسة الإمام الندوي يتجمل من حيث التعليم والتربية بجهود وأعمال الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، كما كانت مساهمة كبيرة من حيث بناء المباني والأروقة للشيخ القاضي محمد معين الندوي رحمه الله ، وكان الشيخ محمد الرابع مساعداً أيضاً للشيخ محب الله الندوي مدير دار العلوم سابقاً في أعماله الإدارية ، فانتخب بعد وفاته مديراً لدار العلوم ، فقام بإدارة شئون دار العلوم على وجه أتم ، وقد عينه الإمام الندوي نائب رئيس لندوة العلماء ، ثم أصبح بعد وفاته رئيس ندوة العلماء ، ورأس ندوة العلماء بحكمة بالغة ، وبصيرة تامة ، بحيث لم تنحرف ندوة العلماء عن أصولها وأسسها ، بل ازدهرت ندوة العلماء من جميع جوانبها في عهد رئاسته ، واشتهر صيتها ، وبلغ صوتها إلى جميع القارات ، ووفد الطلبة الوافدون إليها للدراسة في ندوة العلماء ، وقد بلغت فروع ندوة العلماء إلى أكثر من أربع مأة ، هذه الفروع تنهج منهجها ، وتسير على خطاها .

وقد أُسندت إلى الشيخ محمد الرابع مسئوليات هيئة التعليم الديني وحركة رسالة الإنسانية ، واقترح لرئاسة رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، لكنه اعتذر عن هذا المنصب ، فانتخب الشيخ الدكتور عبد القدوس  أبو صالح رئيساً لها ، ثم بعد وفاة الشيخ الدكتور أبي صالح أصبح رئيساً لرابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وكذلك انتخب رئيساً لهيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند ، وأشرف مع هذه المناصب الجليلة على كثير من الهيئات والمنظمات والجمعيات والمدراس الدينية والعصرية ، ولا شك أنه كان حامل راية الإسلام ، وناشر دينه ومحتفظاً بتراثه .

مما يمتاز الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي به عن الآخرين هو جانبه الخلقي ، فإنه بلغ في هذه الصفة إلى منتهاها ، وكان يعامل مع محبي الإمام الندوي معاملةً حسنةً ، ويحترم علاقاتهم ، وقد أبدى عن هذه الصفة كبار العلماء والمشايخ ، وزعماء البلاد وعامة الناس ، فوضع الله له القبول في الأرض ، فإن مشاهد جنازته في ندوة العلماء وفي رائي بريلي لخير شاهد على ذلك ، وكان الشيخ كثير العناية بأداء الحقوق ، وكان والده الشيخ السيد رشيد أحمد الحسني معذوراً ، لا يسمع ولا يتكلم ، فذهب به إلى أداء فريضة الحج ، وخدمه أثناء ذلك خدمةً كثيرةً ، حتى قال له مرةً الشيخ السيد عبد الله عباس الندوي الذي كان شيخنا مقيماً في منزله بمكة المكرمة : إن الشيخ محمد الرابع قد أوجب بخدمة والده الجنة ، كما كان يخدم والدته ، ويسافر كل يوم الخميس من لكناؤ إلى زاوية الشيخ علم الله الحسني ، حيث تقيم والدته ، ثم يرجع إلى ندوة العلماء يوم السبت ، ولم تكن في ذلك الزمان تسهيلات للسفر ، لكنه يتحمل المشاق في ذلك لخدمة والدته رحمها الله تعالى ، وكثيراً ما يذهب من زاوية الشيخ علم الله إلى محطة القطار برائ بريلي راجلاً بدون مركب ، وكان هذا دأبه كل أسبوع ، كان الشيخ رحمه الله صابراً محتسباً على كل ما يلاقيه من متاعب في هذا السبيل ، فقد توفي أخواه الأكبر الشيخ محمد الثاني الحسني ، والأصغر الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي ، لكنه رضي بما قضى الله تعالى ، ثم توفي صهره وابن أخيه الأستاذ السيد عبد الله محمد الحسني الندوي والأستاذ السيد محمد حمزة الحسني الندوي ، وأخيراً سبط أخيه وعزيزه الأعز الأستاذ السيد محمود حسن الحسني الندوي لكنه ظل جبلاً للصبر والاستقامة ، أضف إلى ذلك الأحوال الطارئة في ندوة العلماء قبل سنوات ، التي تزلزت بها همم كثير من الناس ، لكن شيخنا رحمه الله لم يصب بالخور والفتور في الهمة والطموح ، واستعان فيها بالله عز وجل ، فكان يبكي في ظلام الليل ، وله أزيز كأزيز المرجل ، وأحياناً يضع رأسه على وسادته ويبكي بكاءً ، تألماً من أوضاع العالم الإسلامي ، ويدعو الله تعالى لإنقاذ الأمة المسلمة من هذه المشكلات ، وكانت له عناية بالغة بالدعاء ، والإنابة إلى الله . عاش شيخنا محمد الرابع الحسني الندوي عيشةً مثاليةً ، فإنه ربى الأجيال ، وصنع الرجال ، بل صنع التاريخ بكامله ، وكان معلماً ، ومؤلفاً ، ومربياً ، وأديباً ، وإدارياً ، والأولى من هذا والأهم أنه كان عالماً متصفاً بالأخلاق النبوية ، استفاد منه عدد كبير لا يحصى ولا يعد ، ورزقه الله عمراً طويلاً ، وصدق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ” خيركم من طال عمره وحسن عمله “


* رئيس ندوة العلماء ، لكناؤ .