تشريع الصوم وأسراره كما ذكرها القرآن

الرزق في وحي الله وما يجب فيه من الحقوق ( الحلقة الثانية الأخيرة )
فبراير 23, 2025
رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الأولى )
مارس 24, 2025
الرزق في وحي الله وما يجب فيه من الحقوق ( الحلقة الثانية الأخيرة )
فبراير 23, 2025
رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الأولى )
مارس 24, 2025

التوجيه الإسلامي :

تشريع الصوم وأسراره كما ذكرها القرآن

الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاَكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ البقرة : 183 – 185 هذه آيات من سورة البقرة تدور حول فريضة الصيام ، هذه هي الآيات الأولى التي عرف المسلمون بها وجوب الصيام في رمضان ، والصوم شاق على النفس ، لأنه حرمان من الطعام والشراب والشهوات في مدة محدودة ، فما كان أجدرهم بأن يستثقلوا هذا التشريع ، وأن يستثقلوا هذه الآيات التي تنزل به !

إن كل من يأتي بمسؤولية ومتاعب ، وكل من يحول بين المرء وبين شهواته بغيض ثقيل ، ولكنه ليس كذلك ، فلماذا ؟

ليست هذه الآيات – التي تضمنت وجوب الصيام – تشريعاً جافاً مجرداً كالقوانين والمراسيم العادية التي لا تعتمد إلا على الرابطة السياسية والاجتماعية التي تقوم بين الفرد والحكومة ، إنَّ هذه الآيات – بالعكس من ذلك – تخاطب الإيمان ، والعقيدة ، والعقل والضمير ، والقلب ، والعاطفة في وقت واحد ، وتثير كل ذلك وتغذي كل ذلك ، وهكذا تهيىء الجو لقبول هذا التشريع ، وإساغته بل للترحيب به ، واستقباله بنشاط وحماس ، إنها آية في الإعجاز ، آية في فقه الدعوة ، آية في علم النفس ، آية في التشريع الحكيم ، ( تنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَميد )           [ فصلت : 42 ] .

خاطب الله المكلَّفين بهذا التشريع بقوله : ( يَا َأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ) وهكذا هيأ المخاطبين لقبول كل ما يكلفون به ، ويطلب منهم ، مهما كان شاقاً وعسيراً ؛ لأن صفة الإيمان هي تقتضي ذلك وتوجبه ، فمن آمن بالله كإله ورب وسيد مطاع وصاحب الأمر والنهي ، وخضع له بقلبه وقالبه ، واستسلم له وأحبه من أعماق نفسه كان جديراً بإجابة كل ما يصدر عنه من أمر ، وكل ما يوجه إليه من سؤال : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) [ النور : 51 ] ، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ )         [ الأحزاب : 36 ] ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) [ الأنفال : 24 ] والشريعة كلها – بما فيها من فرائض وعبادات وأحكام – حياة للنفوس .

ثم ذكر الله أنه كتب عليهم الصيام ، ولكنه لم يكتب عليهم لأول مرة في تاريخ الأديان ، وليس هو بدعاً في التشريع ، فقد كتبه على من سبقهم من أهل الكتاب ، وأهل الشرائع والأديان ، وهكذا يخفف الله وطأة هذا التشريع على النفوس ويهون خطبه عليها ، فالإنسان إذا عرف أنه لم يكلف بشيئ جديد ، وإنما هو شيئ سبق وتقدم ، وقامت به الطوائف والأمم ؛ هان عليه الأمر ، وتشجع عليه ، ثم ذكر أنه ليس امتحاناً فقط ، ولا مشقةً ليس وراءها قصد ، إنه رياضة وتربية وإصلاح وتزكية ، ومدرسة خلقية ، يتخرج فيها الإنسان فاضلاً كاملاً ، زمامه بيده ، يملك نفسه وشهواته ، ولا تملكه ، لقد استطاع الإضراب عن المباحات والطيبات ، فقوي على ترك الممنوعات والمحرمات ، ويترك الماء الزلال والحلال ، والطعام الزكي الهنيئ لأمر ربه كيف يقرب الحرام والرجس النجس من المطاعم والمشارب والمعايش ؟ لذلك قال : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

ثم قال : لا تهولنكم عدة الشهر ، وتثقلن عليكم ، فإنما هي     ( أيَّامَاً مَعْدُودَات ) تصام تباعاً ، وتنقضي سراعاً ، وما نسبة هذا الشهر – الذي لا يصام إلا نهاره – إلى العام الكامل الذي ينقضي في لذة مباحة ، ومتعة وراحة ، ثم إنه يُستثنى من هذا التكليف مريض ، ومسافر ، ومن يعجز عن الصوم ، أو يخاف عليه منه .

ثم ذكر فضل الشهر الذي شرع صومه ، إنه شهر نزل فيه القرآن الذي كان بعثاً جديداً للجيل الإنساني ، ومبدأ حياة جديدة للنوع البشري ، فخليق بالمسلم أن يستمد من هذا الشهر المبارك وبصيامه وقيامه حياةً جديدةً وإيماناً جديداً ، وقوةً جديدةً .

هذا هو الصوم الإسلامي ، أو الشحن الروحاني الذي هو زاخر بالحياة ، والمنافع والبركات بعيد عن الإرهاق والإجهاد والمشقات التي لا تطيقها النفوس ( يُريدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

خصائص التشريع في الصوم وفضله وأحكامه :

وهكذا جاء التشريع الإسلامي للصوم أكمل تشريع وأوفاه بالمقصود ، وأضمنه بالفائدة ، وقد تجلت فيه حكمة العزيز العليم الحكيم الخبير ، الذي خلق الإنسان ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )  [ الملك : 14 ] .

فخص شهراً كاملاً – وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن – بصيام أيام متتابعات متواليات ، يصام نهارها ، ويفطر ليلها ، وهو العرف عند العرب في الصوم ، وهو الميزان في التشريع العالمي الإسلامي ، يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي :

” ويضبط اليوم بطلوع الفجر إلى غروب الشمس ، لأنه هو حساب العرب ومقدار يومهم ، والمشهور عندهم في صوم عاشوراء ، والشهر برؤية الهلال إلى رؤية الهلال ، لأنه هو شهر العرب ، وليس حسابهم على الشهور الشمسية ” [1] .

لماذا خص رمضان بالصوم ؟

وجعل الله الصوم في رمضان ، فجعل أحدهما مقروناً بالآخر ، مرتبطاً به ، فذلك قران السعدين ، والتقاء السعادتين في حكمة التشريع ، وذلك لأن رمضان قد أنزل فيه القرآن ، فكان مطلع الصبح الصادق في ليل الإنسانية الغاسق ، فحسن أن يقرن هذا الشهر بالصوم ، كما يقترن طلوع الصبح الصادق بالصوم كل يوم ، وكان أحق شهور الله – بما خصه الله من يمن ، وسعادة ، وبركة ، ورحمة ، وبما بينه وبين القلوب الإنسانية السليمة من صلة خفية روحية – بأن يصام نهاره ، ويقام ليله [2] .

وبين الصوم والقرآن صلة متينة عميقة ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من القرآن في رمضان ، يقول ابن عباس رضي الله عنه : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ” [3] .

يقول العارف بالله ، العالم الرباني الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي ( م 1034هـ ) في بعض رسائله :

” إن لهذا الشهر مناسبةً تامةً بالقرآن ، وبهذه المناسبة ، كان نزوله فيه ، وكان هذا الشهر جامعاً لجميع الخيرات والبركات ، وكل خير وبركة تصل إلى الناس في طول العام قطرة من هذا البحر ، وإن جمعية هذا الشهر سبب لجمعية العام كله ، وتشتت البال فيه سبب للتشتت في بقية الأيام ، وفي طول العام ، فطوبى لمن مضى عليه هذا الشهر المبارك ، ورضي عنه ، وويل لمن سخط عليه ، فمنع من البركات ، وحرم من الخيرات ” [4] .

ويقول في رسالة أخرى :

” إذا وفق الإنسان للخيرات ، والأعمال الصالحة في هذا الشهر ، حالفه التوفيق في طول السنة ، وإذا مضى هذا الشهر في توزع بال ، وتشتت حال ، مضى العام كله في تشتت وتشويش [5] .

وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ” إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وأغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين ” والأحاديث في الباب كثيرة .

موسم عالمي ، ومهرجان عام للعبادات والخيرات :

وهكذا أصبح رمضان موسماً عالمياً للعبادة ، والذكر ، والتلاوة ، والورع ، والزهادة ، يلتقي على صعيده المسلم الشرقي مع المسلم الغربي ، والجاهل مع العالم ، والفقير مع الغني ، والمقصر مع المجاهد ، ففي كل بلد رمضان ؛ وفي كل قرية وبادية رمضان ، وفي كل قصر وكوخ رمضان ، فلا افتئات في الرأي ، ولا فوضى في اختيار أيام الصوم ، فكل ذي عينين يستشعر جلاله وجماله أينما حل ورحل في العالم الإسلامي المترامي الأطراف ، تغشى سحابته النورانية المجتمع الإسلامي كله ، فيحجم المفطر المتهاون بالصوم عن الانشقاق عن جماعة المسلمين ، فلا يأكل إلا متوارياً أو خجلاً ، إلا إذا كان وقحاً مستهتراً من الملاحدة ، أو الماجنين ، أو كان من المرضى والمسافرين ، الذين أذن الله لهم في الإفطار ، فهو صوم اجتماعي عالمي ، له جو خاص ، يسهل فيه الصوم ، وترق فيه القلوب ، وتخشع فيه النفوس ، وتميل فيه إلى أنواع العبادات والطاعات ، والبر والمواساة .

[1] حجة الله البالغة ، ج 2 ، ص 37 .

[2] يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي : ” إذا وجب تعيين ذلك الشهر ، فلا أحق من شهر نزل فيه القرآن ، وارتسخت فيه الملة المصطفوية وهو مظنة ليلة القدر ” ( حجة الله البالغة : ج 2 ، ص 37 ) .

[3] رواه البخاري (6)  ، ومسلم (2308) عن ابن عباس .

[4] رسائل الإمام الرباني : الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي ، ج 1 ، ص 8 .

[5] رسالة (45) أيضاً .