شمولية اللغة العربية ومعنويتها ومدى إفادتها من النواحي المتنوعة ( الحلقة الأولى )
يوليو 31, 2021دور العلامة السيد عبد الحي الحسني في ترجمة الأعلام وتاريخيتها
يوليو 31, 2021دراسات وأبحاث :
الحج في أدب الرحلات ومكانته في خارطة البحث العلمي
الأستاذ علاء الدين محمد الهدوي فوتنزي *
أدب الرحلات : إرث أدبي وسجل ثقافي :
أدب الرحلات من الفنون الأدبية التي شاعت لدى العرب منذ القديم ، وهو فن له خصائصه المعينة ، بل إنه كما يقول شوقي ضيف ” خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها الأدب العربي ، تهمة قصوره في فن القصة ، ومن غير شك من يتهمونه هذه التهمة لم يقرءوا ما تقدمه كتب الرحلات من قصص عن زنوج إفريقية وعرائس البحر وحجاج الهند وأكلة لحوم البشر وصناع الصين وسكان نهر الفولجا وعبدة النار والإنسان البدائي والراقي مما يصور الحقيقة حيناً ويرتفع بنا إلى عالم خيالي حيناً آخر ” [1] .
لم يحظ أدب الرحلات بوصفه جنساً أدبياً مستقلاً باهتمامات الأدباء العرب من شعراء وروائيين وقاصّين ومسرحيين إلا في ما ندر ، وهذه الندرة أيضاً ظلت محكومةً بالمصادفات وأغلبها مصادفات سياحية أو رحلات وإقامات معينة تستدرج الكتابة على أنها مشاهدات وذكريات مكان ، في حين كان العربي القديم يقطع مسافات شاسعة بوسائط نقل بسيطة ومعروفة ، لمعايشة مكان وتدوين حالات اجتماعية وفكرية ودينية وتاريخية عنه ، هناك أسماء عربية حققت إنجازات فريدة لا يمكن إغفالها قطعاً كابن بطوطة والإدريسي وابن فضلان وابن جبير والمقدسي والمسعودي والبيروني وأبي دلف والغرناطي وسواهم ، وهذه الجائزة وما تكشف ندرجها في سياق الأحداث النادرة .
ابن جبير قام بثلاث رحلات شاهد فيها العالم ، والإدريسي رسم خرائط للأنهار والبحيرات ، وابن بطوطة طاف مصر والشام والحجاز وفارس وتركستان وما وراء النهر والهند والصين وجاوة وبلاد التتار وأواسط أفريقيا ، وابن فضلان وصل إلى روسيا وهو أول من كتب عنها ، وأحمد بن ماجد لقب بأمير البحار ، وابن حوقل أمضى ثلاثين عاماً في التجوال في آسيا وأفريقيا ، والمسرد طويل في إنجازات الرحالة العرب الذين كانت لهم أسبقية الكشف والاكتشاف ورؤية العالم من زوايا مختلفة وشواهد نادرة في شتى ألوان الحياة .
رحلات الحج في عيون الرحالة والمؤرخين :
ولا جدل في أن موضوع رحلة الحج في كتابات وعيون الرحالة والمؤرخين شاسع وواسع ومتعدد الجوانب ، وكانت تجربة الحج – وما زالت – ترياقاً ناجعاً لمن أتعبهم البحث عن ماء المعنى في صحراء العدم ، إذ يحكي لنا التاريخ عن أعداد غفيرة من المفكرين والفلاسفة والأدباء الذين وجدوا في هذه الشعيرة معنى لامس شغاف قلوبهم ، وحرّك جمارها التي كادت أن تنطفئ ، من محمد إقبال إلى مالكوم إكس ، ومن محمد أسد إلى مراد هوفمان ، ومن علي شريعتي إلى جلال آل أحمد ، لم يتوقف هذا الأمر عند المسلمين فحسب ، بل حظيت تلك البقاع باهتمام فائق من المستشرقين ، حتى حرص بعضهم على زيارتها متنكرين في أسماء وأزياء عربية ، متظاهرين بالإسلام ، ليقفوا بأنفسهم على الأسرار الكامنة في هذه البقعة المقفرة التي تلفّها الصحراء من كل مكان .
وظهرت هناك كتب كثيرة عن أدب الرحلة في الحج ، ومنها ، كتاب ” أشهر رحلات الحج ” للعلامة ” حمد الجاسر ” و ” المختار من الرّحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية ” لـ ” محمد ابن حسن الشريف ” ، وأصدر ” أحمد محمد محمود ” كتاباً بعنوان : ” رحلات الحج ” تحدث فيه عن عدد من رحلات الحج خلال القرون الثلاثة الأخيرة ، كما أصدر المؤرخ ” عبد الله بن حمد الحقيل ” كتاباً بعنوان ” رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين ” ، وأصدر المؤرخ المغربي الشهير ” عبد الهادي التازي ” كتاب ” رحلة الرحلات : مكة في مأة رحلة مغربية ورحلة ” ، وأصدر الشاعر الإماراتي ” محمد أحمد السويدي ” كتاب ” لبيك اللهم لبيك : 365 صور ومشاهد من الحج ” ، فللكاتب النمساوي المسلم محمد أسد رحلة بعنوان ” الطريق إلى مكة ” وقد ترجمت إلى أكثر من لغة ؛ وهو كتاب يجذب قرّاءه ويمتعهم .
” أحمد حسن الزيات ” من أبرز الأدباء الذين كتبوا عن رحلتهم للحج ، نشرت ” مجلة الرسالة ” مقالاً له بعنوان ” في أرض الحجاز ” ، كما وثق ” عباس محمود العقاد ” رحلته إلى الحج عام 1946م ، في عدة مقالات ، إلا أن كتاب الدكتور ” محمد حسين هيكل ” في منزل الوحي ” من أشهر ما كتب عن الحج ، وجاءت الرحلة بعد تحول فكري كبير لهيكل ، إذ كان من أشد المناصرين لليبرالية الغربية والداعين إليها ، ويعتبر كتاب ” الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف ” الذي ألفه الأمير ” شكيب أرسلان ” عام 1931م إرثاً إبداعياً في هذا المجال ، وكتب الأديب ” إبراهيم المازني ” عن رحلته عام 1930م ، كتاب ” رحلة الحجاز ” ، وهو خواطر أدبية حول الحج والرحالة ، مليئة بالطرائف ، وكذلك كتاب ” الرحلة الحجازية ” لمحمد لبيب البتنوني ، وهو كتاب يصف رحلة الخديوي عباس حلمي الثاني إلى الحجاز عام 1910م .
وكتب أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ ” علي الطنطاوي ” عن رحلته مع الوفد السوري إلى الحج في كتابه ” إلى أرض النبوة ” ، عام 1934م ، في رحلة استغرقت ثمانية وخمسين يوماً ، على متن الحافلات ، التي كانت في بداية استخدامها في ذلك الوقت ، وكذلك وثق الأديب أنيس منصور رحلته للحج في كتاب ” أيام في الأراضي المقدسة ” ، والذي دعا إلى إحساس جديد بالإسلام ، والدكتور ” مصطفى محمود ” كتب ” الطريق إلى الكعبة ” وفيه تأملات فلسفية وإيمانية حول رحلة الحج .
ومن بين تلك الرحلات ، رحلة ” إيفيلين كوبلد ” إلى الحج عام 1933م ، وهي أول مسلمة بريطانية تؤدي الفريضة ، وكانت سيدةً نبيلةً تتمتع باحترام كبير في المجتمع البريطاني ، وكذلك الرسام الفرنسي ” ناصر الدين دينيه ” الذي حج عام 1928م ، وأصدر كتابه ” الحج إلى بيت الله الحرام ” ، ويعد ناصر أول من رسم لوحات عن رحلة الحج .
ولقد برز علماء المغرب على غيرهم في تدوين الرحلات ، ومن يطالع كتب الأندلسيين كـ ” نفخ الطيب ” للمقري و ” فهرست الأشبيلي ” وغيرهما يجد أن كثيراً من العلماء الذين رحلوا إلى مكة والمدينة كانوا رسل علم وحملة ثقافة ودعاة معرفة ، حتى أثر عن بعضهم كتب دونت ما كان يطرح فيها من مسائل العلم وقضايا الأدب والنقد واللغة ، وعلى الرغم من أن الدور العلمي لرحلات الحج يمكن أن يكون موضوعاً لكثير من البحوث نظراً لغزارته وتنوع مضامينه .
تجارب استغرابية لدى المستشرقين :
تقاطر الرحالة المستشرقون إلى المنطقة العربية بدايةً من القرن الخامس عشر الميلادي ، وكان لديهم اهتمام وشغف بزيارة مكة المكرمة وبالأخص المشاعر المقدسة ، ومعايشة رحلة الحج ، وقد اهتمت الدول الاستعمارية الكبرى منذ فترات مبكرة بإرسال بعض المغامرين من الرجال لتلك الديار للاضطلاع على أحوال الحج كرمز من رموز وحدة المسلمين وتجمعهم وطبيعة البلاد والعباد فيها ، وقد تمكن البعض منهم من الدخول للأراضي المقدسة بعد أن نجح في التنكر بهيئة تاجر أفغاني أو فارسي أو جندي مملوكي ، فدونوا تفاصيل مثيرةً عن المدن المقدسة ، وكتبوا وصفاً للحجاج الذين تقاطروا من جميع أنحاء العالم ، أشكالهم ولباسهم وأطباعهم وعاداتهم ، وتجمع هذه الأعداد الغفيرة من البشر في مكان واحد .
نعم ، للمستشرقين والجواسيس رحلات حج مدونة ، فمنها رحلة سرية للضَّابط الروسي عبد العزيز دولتشين على أعتاب القرن العشرين الميلادي ، ورحلة جوزيف بتس وهو أول إنجليزي في التَّاريخ الحديث يزور مكة ، ورحلة الفرنسي ليون روش في منتصف القرن التَّاسع عشر الميلادي ؛ وقد اتَّخذ اسماً عربياً يتخفى تحته ؛ فسمى نفسه عمر بن عبد الله ، وكان غرضه سياسياً خالصاً ؛ حيث حاول الوصول إلى شريف مكة واستصدار فتوى شرعية تحرِّم الجهاد ضد الفرنسيين في الجزائر وتجعله من باب إلقاء النفس إلى التهلكة ، ومن عظم همة القوم ما قام به المستشرق الهولندي سنوك الذي تجشَّم العناء وسافر إلى مكة ، وأقام فيها بضعة أشهر ، ثم كتب رسالته للدكتوراه عن الحج ، وعلى أساس رحلته هذه وضعت هولندا استراتيجيتها لاحتلال بلاد المسلمين في جنوب شرق آسيا .
وسُجلت أول رحلة لمستشرق إلى الحج فكان الإيطالي لود فيغودي فارتيما عام 1503م ، الذي انتحل اسم يونس المصري ودخل مكة بوصفه جندياً في حرس المماليك ، وانبهر من كثرة الحجيج مؤكداً أنه لم ير مثل هذا العدد من قبل مجتمعاً في بقعة واحدة من الأرض ، وقد أثرت رحلة الحج تأثيراً بالغاً في الكاتب الأمريكي المسلم جفري لانج ، وسجل أحداثها في كتابه ” الصراع من أجل الإيمان : انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام ” حيث انبهر بالتَّنوع البشري في الحج ، وكانت رحلة الحج سبباً في تغيير أفكار الزَّعيم الأميركي المسلم مالكوم إكس عن الإسلام ؛ حيث استبان له ضلالة معتقداته السَّابقة وعاد إلى بلاده داعية إلى الدِّين الحقِّ الذي عرفه واقتنع به في بطاح مكة الطَّاهرة .
وفي عام 1807م وصل الحجاز الإسباني دومنيكو باديا ، منتحلاً اسم علي بك العبّاسي ، وهو أول أوربي احتك بالناس عن قرب من موقع لم يثر حساسيتهم لاسيما بعد ادعائه النسب العباسي ، والألماني أولريخ سيتزن الذي قضى 20 سنة يدرس ويتأهب لرحلته إلى الشرق ، وأعلن إسلامه ودخل مكة حاجاً عام 1810م .
أما الرحالة السويسري غون لويس بيركهارت ، فهو من أشهر رحالة القرن الـ 19 ، وتخفى باسم الشيخ إبراهيم حين شارك في موسم الحج ، والرحالة البريطاني السير ريتشارد فرنسيس بيرتون الذي تنكر باسم الحاج عبدالله عام 1853 ، والذي انبهر بالحرم النبوي ، وأثرت فيه مهابة مكة المكرمة عن أي مكان آخر ، بحسب وصفه .
ووثق المؤلف والمخرج الأمريكي ” مايكل وولف ” كتب الرحالة الغربيين عن الحج في كتاب ” ألف طريق إلى مكة ” ( One Thousand Roads to Mecca ) قدم فيه رحلات مختلفةً امتدت على مدار قرون من الزمان ، خاصةً من ذوي التأثير في التاريخ والفكر الإنساني ، مثل محمد أسد ومالكوم إكس .
مراد هوفمان والرحلة إلى مكة :
من هذا المنطلق ، تأتي أهميّة الوقوف عند شخصيّات فريدة من رجالات الفكر المسلم ، الذين حملوا بجدارة لقب ” الحاج ” ، وفي طليعتهم المفكر الفذ والداعية الإسلامي وهدية ألمانيا للمسلمين ” مراد ويلفريد هوفمان ” ، وكان وصوله إلى الإسلام لم يكن وليد موقف عاطفي ، أو إشباعاً لنقص روحي ، بل كان حصيلة تراكم طويل من المواقف ، والخبرات ، والتأمل ، والدراسة المتأنية ، لقد قاده إلى هذا الدرب ثلاث تجارب أساسية ؛ واحدة ذات طبيعة إنسانية ، والثانية جمالية فنية ، والثالثة فلسفية فكرية .
أما الطبيعة الإنسانية ، فقد وجدها في الجزائر في أثناء عمله بالسفارة الألمانية هناك ، وكانت وقتها تحت الاحتلال الفرنسي ، وما رآه بعينه من أهوال وقتل ودماء ، رأى إلى جانبه مواقف إنسانية للجزائريين أثارت انتباهه ، وجعلته يبحث عن الباعث على هذه السلوكيات ، رغم كل ما يحدث .
أما التجربة الفنية ، فقد كان هوفمان في بدايته مولعاً بالفن والجمال الساكن كالرسم والنحت والعمارة والخط ، وسرعان ما لفت انتباهه جمال الفن التشكيلي الذي يرى أنه يزداد الإحساس به كلما زادت قدرته على الإيحاء بالحركة ، وتطور هذا الاهتمام إلى انبهاره الشديد بعروض رقص البالية ، حتى صار ناقداً مرموقاً في الباليه في أعمدة صحف ألمانيا وبريطانيا وأميركا ، وعمل محاضراً لمادتي تاريخ وعلم جمال الباليه بمعهد كولونيا للباليه للفترة 1971 و 1973م .
وأمّا ما تعلق بالتجربة الفلسفية ، فقد بدأ هوفمان يسأل نفسه أسئلةً دينيةً وفلسفيةً ، ثم أخذ يبحث عن أجوبة لها ، قادته تلك الأسئلة والأجوبة إلى اليقين بوجود الله تعالى ، وتساءل عن ماهية الاتصال بين الله والإنسان ، قاده ذلك السؤال إلى ضرورة الوحي والدين ، وجاءته الإجابة من خلال قراءته المتكررة للآية الكريمة : ” أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ” [2] .
هوفمان يروي تجربته الروحية في رحلة الحج في كتابه ” رحلة إلى مكة ” والتي جاءت على صورة حكايات وصور لذكرياته في الحج ، وتأملاته في هذا الركن الذي حاول استنطاقه بصورة جمالية تجلي فلسفته وعمقه ، ويشير إلى أن الصبر والأناة والانضباط من أهم القيم التي تغرسها مناسك الحج في نفس المؤمن ، فيقول : ” على الحاج أن يتحلى بالصبر ، وأن يتفادى الدخول في خلاف أو حتى الشروع فيه ؛ ناهيك عن أنه محرّم عليه أن يجرح شخصا أو شيئا أو أن يقتلع نباتا أو حتى يقتل بعوضة ” .
يقول هوفمان مشيراً إلى اختلاف طبيعة النظر الإسلامي والمسيحي إلى غيره من الأديان : ” إن شعائر الحج تربط المسلم بأبي الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – ، فهو الذي أمره الله برفع القواعد من البيت ، وفي هذا ما يؤكد وحدة الرسالات السماوية ، والترابط بين الأنبياء على اختلاف شرائعهم ومناهجهم ” .
الخاتمة :
وفي نهاية المطاف أقول : إن لأدب الرحلات مكانة شديدة الأهمية بين التصانيف المختلفة ، وما ذاك إلا لما تحويه هذه المؤلفات من فوائد يندر اجتماعها في موضع آخر ، وتعد كتب الرحالة من أهم المصادر التاريخية ، لكونها تهتم بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية ، وفيها احتفال بالغرائب والعجائب ، وحرص على ملاقاة من يستحق اللقاء من العلماء والأدباء ، إضافةً إلى أن طابعها يتسم بالإمتاع والمؤانسة ، وما أجمل رفقة كتب الرحلات إبان السفر أو حين انشغال الذهن ؛ ففيها ترويح آمن ، ومعلومات لطيفة لا تجلب الملل للناظر فيها ، وكم نحن في حاجة في هذا الزمان إلى إعادة قراءة كنوز تراثنا الفكري والتاريخي والتأمل والنظر فيه والإفادة منه ولتعميق إدراكنا بتاريخنا .
* كاتب وباحث أكاديمي – جمهوية الهند .
[1] ضيف ، أحمد شوقي ، الرحلات ، ص 6 ، دار المعارف – مصر ، ط 4 .
[2] سورة النجم : 38 .