دور العلامة السيد عبد الحي الحسني في ترجمة الأعلام وتاريخيتها
يوليو 31, 2021شمولية اللغة العربية ومعنويتها ومدى إفادتها من النواحي المتنوعة ( الحلقة الثانية الأخيرة )
سبتمبر 4, 2021دراسات وأبحاث :
إيليا أبو ماضي : شخصيته وأغراضه الشعرية
الدكتور محمّد نجم الإسلام باربهويا *
ملخص البحث :
إيليا أبو ماضي ( 1889 – 1957م ) شاعر عربي لبناني يعتبر من أهم شعراء المهجر في أمريكا الشمالية في أوائل القرن العشرين ، وهو لا يزال في أوج نشاطه الصحفي والشعري . فإنه إيقاع عذب يصدح بأغانٍ ترتل أناشيد تربط الماضي بالحاضر لتكشف الوجود بترانيم علوية ، تفتح آفاقاً جديدةً في أذهان الناس ليستريحوا معها من ضيق النفس في الليالي الداجيات الهالكات ، وينطلقوا بثقة واطمئنان ، إلى فسحات الأمل وراحة البال . وإنه كذلك عمّر الشعر الطويل ، ونبض الوجود المتجدّد بدفقة المهجة الجارية في عروق البشر من كل لون وجنس ، ليكوّن زيتاً جديداً في مصباح عالم المنير دروب الأمم .
وإذا استعرضنا الأغراض التي حفلت بها أغراضه الشعرية وجدنا أنه استطاع الوصول إلى ما سما من الأحلام التي راودت أخيلة الفلاسفة والمفكّرين من الشعراء ؛ والطبيعة عند شاعرنا محور قصائده الدائمة ، فهي تبدو من خلال أشعاره ساحرة تناجي ما يضمّه حضنها الدافئ من ألوان الموجودات ؛ فالخصائص التي امتاز بها شعر أبي ماضي تتجلّى بالخلق والإبداع الذي جعله أصيلاً في عطائه البعيد عن التطفل والمحاباة ؛ وهو الذي جعل له شخصيةً مستقلّةً نهجت مسار العبقرية ، وأظهرت مدى تفوّقه على شعراء عصره ؛ فلقد استطاع أبو ماضي بشعره النقي الصافي أن يخلص قصائده من مصانعة الدخيل والوقوف على بابه طلباً لوسامٍ يلمع على صدره ، أو هبة مادية ينتفخ بها جيبه ، لأنه سخر بالرتب والألقاب .
فهذه المقالة ” إيليا أبو ماضي : شخصيته وأغراضه الشعرية ” تدرس كيف كانت شخصية إيليا أبي ماضي في ميدان الأدب العربي الحديث ولا سيّما فيما بين الشعراء في أدب المهجر ؛ وهي أيضاً تدرس عن فلسفة أبي ماضي بحياة الإنسان ، وعن أهمّ العوامل المؤثّرة في شعره ، وأغراضه الشعرية المختلفة من الوصف والغزل والحسّ الوطني والتفاعل الاجتماعي والحوار القصصي وغيرها .
الكلمات الدالة : أصحاب المهجر ، الرابطة القلمية ، مسار العبقرية ، الحس الوطني ، الوجود العاطفي ، النهضة الأدبية .
المقدِّمة :
يظهر بالتاريخ أنّ جماعة من أبناء العرب المثقّفين جعلوا يهاجرون إلى أمريكا خاصّةً من بلاد سوريا ولبنان منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي ، وكانوا يحملون في صدورهم عواطفَ وطنهم العربي ومشاعره وثقافته وتركوا وطنهم الأمّ في بلاد الشّام ، إما هرباً من جور الأتراك أو طلباً للرزق أو للسببين معاً ؛ وبين المهاجرين كثير من الشباب الأدباء ، وقد انقسموا إلى فئتين : فئة استقرّوا في الولايات المتّحدة يُقال لهم أصحاب المهجر الشمالي ، وفئة استقرّوا في أمريكا الجنوبية يُقال لهم أصحاب المهجر الجنوبي . ونقل هؤلاء المهاجرون اللغة العربية وآدابها إلى ذلك المهجر البعيد عن الشرق العربي وأنشأوا فيها أدباً خاصّاً يعبّرون به ، وهذا الأدب هو الذي يُعرف بأدب المهجر في الأوساط الأدبية ، وأصبح هذا الأدب فيما بعد مدرسةً أدبيةً كبرى بين مدارس الأدب العربي الحديث ومذاهبه . فهذا الأدب حديث النّشأة ، ولكن ترعرع وازدهر حتى بلغ ما بلغ من مكانة مرموقة بين مدارس الأدب العربي المعاصر .
وبالحق أنّ أدب المهجر الشمالي قد لعب دوراً هامّاً في تنمية الأدب العربي الحديث ، وكان له أثر في العالم العربي والعالم الغربي ؛ ففي ميدان العلم نبغ منهم كثيرون أيضاً . وظهر منهم الأطبّاء والمحامون والصيادلة والكيمياويّون والمهندسون والموسيقيّيون والعلماء البارزون . وفي مجال الأدب ظهر أيضاً أفراد كثيرون رفعوا لِواء العربية في بلاد الغرب وأعلوا من شأن بلادهم ولغتهم وأدبهم بين مواطنيهم الجُدد ، ومن هؤلاء الأفذاذ أمثال : أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة ورشيد أيّوب وغيرهم من الأدباء والشعراء الذين شاركوا بنصيب وافر في تطوير الأدب العربي الحديث . فهكذا بدأ هؤلاء الأدباء ينشؤون الصحف والجرائد والدوريات باللغة العربية نفسها في أمريكا ذاتها منذ عام ١٨٩٢م ؛ مثل ” كوكب أمريكا ” ( ١٨٩٢م ) وجريدة ” الهدى ” ( ١٨٩٨م ) و “مرآة الغرب ” لنجيب موسى . ومن أشهر المجلات العربية فيها جريدة ” السائح ” لعبد المسيح حداد (١٩١٢م ) ؛ ثمّ صدرت جريدة ” الفنون ” لنسيب عريضة ( ١٩١٢م ، نيويورك ) . وفي عام ١٩٢٩م أنشأ شاعر المهجر الأكبر إيليا أبو ماضي مجلّته ” السمير ” وإنّها كانت تعالج مختلف الموضوعات الاجتماعية والأدبية . وفتح ماضي باباً للشعر لنفسه ولغيره من الشعراء المهاجرين .
وإنّ الأدب العربي المهجري جعل يحدث في أمريكا تطوّرات عديدة بكتابات وحركات أدباء المهجر ، مثل جبران خليل جبران وميخائل نعيمة وإيليا أبي ماضي وغيرهم . فشعراء المهجر الشمالي نظموا وأبدعوا في كتاباتهم إبداعاً بالغاً . وأبرز المزايا التي امتاز بها أدب المهجر وهي تسع مزايا كبرى : التحرّر من قيود القديم والأسلوب الفنّي ، والحنين إلى الوطن والتأمّل والنزعة الإنسانية وحبّ الطبيعة والحياة والبساطة في التعبير والرقة الغنائية والحرية الدينية والوصف والتصور [1] .
فهناك أديب شهير من الأدباء الذين احتلوا مكانةً مرموقةً في رفع مستوى الأدب العربي الحديث في بلاد خارج بلادهم ، وسلكوا مسلك النشأة الجديدة لكي يرتادوا ساحة الأدب ويحملوا لواء القلم وأن يلتمعوا في سماء الأدب العربي كواكب وشموساً وأقماراً ، وإليهم يرجع الفضل الأول في توسعة شعورهم هناك واسمه إيليا أبو ماضي . فلهذا سنحاول أن نبحث عن هذه الشخصية الفذة ، وما هي مساهماته في تطوير الأدب العربي قاضياً حياته في بلاد غير وطنه وما هو شعوره وغرضه في كتابته .
إيليا أبو ماضي : نشأته ودراسته :
لم تكن تدري قرية من قرى لبنان – اسمها المَحيدثة – المعلقة بأهداف الجبل في قضاء المتن الشمالي انّها ستنجب في عام ١٣٠٨هـ – ١٨٨٩م طفلاً نجيباً اسمه إيليا أبو ماضي من عائلة متواضعة ، وستكون له شهرة واسعة في عالم الحف بالقصائد المخيلة الطبيعية والعذبة الكلاسيكية والوجدانية المدلول والعميقة التلميح إلى رمزية غيبية الفلسفة .
لم تبعد نشأة إيليا أبو ماضي عن قريته ( المحيدثة ) بفرح وطمأنينة الهدوء في ظلال الحور والصفصاف ، وكروم العنب المناسبة بعرائس المحبة العنقودية . فكانت نشأته في عائلة رقيقة الحاشية ضعيفة الحال ، تعيش على مدخول ريفي قليل الوفرة ، وهو تربية دودة القز التي كان يشرف عليها ويعني بها والده ( ضاهر أبو ماضي ) . أمّا والدته ( سلمى ) فكانت منصرفةً لشؤون البيت وتربية العائلة من البنين والبنات التي تساعد الوالد في بعض شؤون صناعة الحرير . وكان عدد الأولاد لهما ستة ، منهم فتاة وحيدة وهي ( أوجيني ) ، التي امتهنت الخياطة لمساعدة العائلة رغم أنها الصغرى بين الأولاد [2] .
ونشأ أبو ماضي تنشئة عصامية ، يعمل في تلك الأرض والده لتربية أبنائه . وإلى جانب نشأته الطبيعية والعائلية تضيف التنشئة الاجتماعية التي اكتسبته المرونة والديناميكية في مشاركة الناس أفراحهم حيث المشاهدات الصيبانية التي أمدّته بواقعية أليفة ، نفخت مخيلته بألوان العادات والتقاليد ووصف القرويات التي وشحت قصائده بظلال الأمس الندية حيث اكتسبته صفة التفاؤل والانشراح .
إنّ الدراسة التي غذت إيليا أبا ماضي بالمعرفة والعلم هي في مدرسة ( المحيدثة ) القائمة في جوار كنيسة البلدة ، ثمّ في مدرسة أخرى في بلدة ( بكفيا ) القريبة من تلك المدرسة ؛ وما إن أصبح حتى استأذن والداه بالذهاب إلى المدرسة التي ذكروها له ؛ فلم يمانع الوالد وإن كان يشفق عليه من قطع تلك المسافة سيراً على قدميه . وفي اليوم التالي ، وكان في السابعة من عمره ، قصد المدرسة ، ووقف إلى جانب إحدى نوافذها . يسترق السمع لشرح أحد أساتذتها وتكرر ذهابه إليها كل يوم تقريباً . وكان يدير هذه المدرسة العلامة الشيخ إبراهيم المنذر . ورغم هذا التقدم في الدراسة ، بقي عوده العلمي طرياً ؛ ولم تعجمه سوى الدراسة التي اختلسها في مدينة ( الإسكندرية ) بمصر . فأوى إلى بعض الكتاتيب الليلية ليتعلم الصرف والنحو ، وهو لم يلج باب العشرين من عمره . وقويت لغته واستقام عودها بعد رجوعه إلى لبنان ، ومن ثَمّ سفره إلى أمريكا ليصبح مثقّفاً ملماً بكل علم .
شخصيته الفذّة :
كانت شخصية أبي ماضي تتطلع إلى مسارٍ يعلو نحو الرفعة ، وينال السُؤْدد المعبَّر عن إرادة لا تكل ولا تمل ، وقد سعى جهده كي تبدو شخصيته نافذة إلى مُعمَّيات الوجود وغموضه . وإنها لم ترض بالنذر اليسير من المعرفة ؛ وحين تسنّى له أن يقف على أثر ما يبحث عنه في عالم التكوين الإدراكي السليم ، نشر ما تجمع لديه قصائد منتقاة ، تترك بصمات على كثير من القضايا المعقّدة الحلول في البلاد العربية عامّة ولبنان خاصة ؛ فتعكس فيضاً من عبقرية وعمق عطاء ، يشمل الشرق ويبذر في الغرب بذاراً طيباً أيْنَعَ في شعره المهجري ، ثورةً على القيود ، وإنسانية لا تُعرف الحدود [3] . والخصائص التي امتاز بها شعر إيليا أبو ماضي تتجلّى بالتجديد والإبداع الذي جعله أصيلاً في عطائه البعيد عن التطفل والمحاباة . وهوالذي جعل له شخصية مستقلّة ، نهجت مسار العبقرية .
وقد حضن ذاته الشاعرية بمبادئ الرابطة القلمية الداعية إلى التغيير في مفاهيم الأدب العربي . ويتكلم أبو ماضي عن شخصيته الشاعرية فيعرفها أنها كالكهرباء في خفائها وظهورها ، وأنها تلك التي حباها الإله القدرة على ملاحقة خفايا الأشياء . وأنها ذاك الإنسان الذي حار في كل شيئ ، ولم يقنع بشئ ، ولم تصل معرفته إلى مرتبة اليقين في آية من قضايا الحياة ، لذا تراها معلقة الأنفس ، تسأل نفسها ولا من مجيب . ولكن هذا الشاعر الحائر بيّن أمسه ويومه وغده ، وبيّن منشئه ومصيره .
وأبو ماضي حاضر الذهن في تصوير معاني الذات الإنسانية ، التي ترقى بمنطوقها إلى الملهمات الفطرية المترائية بوضوح البصيرة في دنيا الكمال البشري . فكان من الواجب عليه أن يؤيد كل ما هو نتاج للعقل ، الموضح دليل السمو بروح الإلهامي العلوي ، وعلى هذا جعل شعره معنىً روحياً ؛ وفي ذلك يقول :
لستَ مني إن حسبتَ الشعر ألفاظا ووزناً خالفت دربُك دربي ، وانقضى ما كان منا
فانطلقْ عني لئلا تــــقــتــنــي هـــما وحزنـا واتــخــذ غـيري رفيقاً ، وسوى دنياي مغنى [4]
والفكرة في قصائد هذا الشاعر أساس البناء الشعري ، وإثبات الوجود العاطفي . وقد حاول الشاعر قدر جهده وقوّة طاقته أن يميل بالناس إلى نبذ الوعاء ، والإلهام بالمحتوى ، وبمثل هذا المحتذي جعل شعاراً لجريدته التي أصدرها في نيويورك ، بيتين من الشعر وهما :
أنا لا أهدي إلـــيكم ورقاً غـــيركــم يــرضــى بحبر وورق
إنما أهدي إلى أرواحكم فكرا تبقى اذا الترس احترق [5]
أما المرأة فللشاعر فيها نظران مختلفان ، الأولى تتصل بالغانية التي خلقها الله خدينة الشاعر في رحلاته لتكون موضوع غزله ومناجاته وموضوعات قصصه . وهي التي تتسم بالجمال المطلق المتّصف بصفات شائعة في تشابيه الشعراء وتمثيلهم القصائدي المتمثّل بالريق المشابه للخمرة وغيرها ؛ وفيها يقول :
ليت الذي خلق العيون السودا خلق القلوب الخافقات حديداً
لـــولا نــواعـسها ولولا سحرها مـــا ود مــالــك قـــلــبـه لوصيدا
أمّا الثانية فهو موضوع الخلاف السرمدي من حيث مكانتها في المجتمع ، والمهمّات الملقاة على عاتقها في هذه الحياة ، وهي المرأة المقابلة للرجل . فهي ليست سِلعة تباع في السوق ؛ ولا عبدة تملَّك للسيِّد ، أو عاملة تكدح للمال ؛ بل هي الأميرة المتربّعة لسيّد وإمارة المنزل وسعادة للمجتمع . وفي ذلك هو يقول :
سجّل العار علينا معشرٌ سجّلوا المرأةَ بين الهمل
فـــهــي إمّــا سـلعة حاملة سـلعاً أو آلــةً في مــعمل [6]
وفي شخصيته السياسية يتصل شعره اتصالاً مباشراً بالمظالم التي أحدثها الحكّام على الشعب البريئ ، فكبدوه المشاق والأثقال ، وجعلوه فديتهم التي يفتدون بها كل خطب نازل بهم . وهو لم يعتنق مبدأً سياسياً معنياً يبشر به ويدعو إليه ، وإنما تمرّ في شعره بعض المناسبات ، كمثل قوله :
واهجر أحاديث السياسية والأولى يـــتـــعــلــقون بجبل كل سياسي
إنـــــي نـــبــذت ثــمارها مذ ذقتــها و وجدت طُعم الغدر في أضـراسي
وتـــــركــتــهـــا لإثــنـين : غُرّ ساذجٍ ومُــــشــــعْــوذٍ كذُبــيذب دسّـاسٍ
وغسلـــتُ مـــنـــها راحــتي فغسلتها من سائر الأوضــــار والأدنـــاس [7]
وميزات شعره في منظور الحياة عامّة فكانت متشابكةً ، لا تكاد تفصل بعضها عن البعض الآخر ؛ فهي عنده كل لا يتجزأ في الخير والبركة والشر والسوء ، أو الطمأنينة والراحة ، والاضطراب والقلق ؛ ولا نجد أن ليس له رأي مستقل لتعفيف الحياة نفسها ؛ بل نجد عنده لمحاتٍ يومض فيها رأيه ؛ كلما ساقته مناسبة من المناسبات للإظهار عن هذا الرأي . وخير ما نقدّمه عن نظريته الثاقبة في ماهية الوجود وتشابك الحياة فيه أبياته هذه التي يقول فيها :
هو عِبْء على الــحـياة ثـــقــــيــل من يظن الــحــياة عبءاً ثــقـيلاً
والذي نــفــــســــه بــــغـــير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جـميلاً
ليس أشــقــى مِـمّنْ يرى العيش ممرّاً ويظن اللذات فيه فضولاً
أحكم الناس في الحياة أناس عــــلًّلــــوها فأحــــسِنـــوا تـعليلاً [8]
ومن خلال ما نقدم ، نحن نجد الشخصية الشعرية لأبي ماضي تمتاز بالتفاؤل وبما هو من صميم المعتقد في إيطار الحكمة المتكوّنة من التجارب والخبرات المطمة بقدرات ذاتية لها أمكنت التفاعل على صعيد العطاء الإنساني ، والتكيّف بواقع المسيرة البشرية . وتبدو شخصيته شديدة الوثوق بتفسير ما تتوصّل لمعرفته على صعيد القدرية من اختيارية وجبرية . ونستطيع أن نقول إنّ أغراض أبي ماضي انطلاقة حية من الفكر العربي الحديث وشعلة النهضة الأدبية المعاصرة . وهو بهذا قدّم خدمات جليةً للأدب العربي وأغنى المكتبة العربية برائع من كنوزه الفكرية التي يعتز بها شرفنا العربي .
والآن سنلاحظ بعض ما كان من أغراضه الشعرية كالوصف والغزل والحس الوطني والتفاعل الاجتماعي بالحوار القصصي وغيرها .
الوصف :
فالوصف يأتي في شعر إيليا أبي ماضي عاماً شاملاً جميع أغراضه بفنّه ، وكان للطبيعة أثر مباشر في معانيه الشعرية ، فيميل إلى دقّة التعبير وتوفّر على المعاني وسلامة في النظم . وقد ساعدته سعة مخيلته الخصبة على أن يقدم ألواناً من الوصف تتساوق ومعطيات العصر . فتفجر من معين ملكته الفياضية النابعة من تفاعل المنظر . وأجمل ما صوّره الشاعر في حالة من الأحوال هو وصف الفراسة لما أصابها من وهن وضعف ويأس بعد ما كانت تزدهي بألوانها الجذّابة الزاهية في أيّام الصيف المثقلة بالأمل والعطاء ، ومما أورده في ذالك قوله :
حملت أن زمان الصيف منصرم ويلآه ! حــققت الأيام رؤياك
فقد نعاه إليكِ الفجر مُــــرتــعشا وليس مَنْعاه إلا بعض منعاكِ
الغزل :
وإذا تتبّعنا في مسار أبي ماضي الغزلي وجدنا في بداية نظمه مُقلِّداً من سبقه ثم مبدعاً في التفنّن التجديدي ؛ وفي هذا المسار تصادف عند الشاعر قصائد تتناول وصف الجسد الأنثوي . وتلمح في غزل أبي ماضي حباًّ مألوفاً في طبيعة البشر ، وليس عشقاً ينحرف بمادّيات رخيصة يرفضها التعقّل وتعافها الحكمة . ولعلّه قد حق لنا أن نتصرّف على حقيقة العيون التي وصفها الشاعر بخياله المتجلي في أجواء الرؤى العذرية . وشوقه لعينيها الساحرتين بلألأة بريق الكواكب ، فتلهمه من ساطع ذلك النور السماوي أبياتاً يقول فيها :
ليت الذي خلق العيون السودا خـــلــــق الــــقــلــوب الخافقات حديدا
لــولا نــواعـسـها ولولا سحرها مــــا ودّ مـــــالـــــك قــــــلــــبـــه لـوصيدا
إنْ أنـــتَ أبــصـرتَ الجبال ولم تَهِمْ كُنْتَ امرأً خشن الطبع ، بليدا
وإذا طلبت مع الـــصــبــابة لذّةً فــــلـــقـــد طــلـبت الضائع الـمــوجـودا [9]
والمرأة عند أبي ماضي ليست طيفاً عابراً يمرّ بخاطره لشهوة ؛ بل هي وسيلة من الوسائل . ويعتقد أبو ماضي اعتقاداً راسخاً بأنّ الحب ينبع من العواطف المضمخة بعطر اللهفة والحنان ، وإذا كان الحب كذلك فهو لا يموت ، بل يحيا من وراء القبور يتقمّص من زهرة فوّاحة . فيتجسّد فيه البذل والانصهار في عشق ؛ وأبو ماضي يأخذ الكثير من ذلك الانصهار في غزل شعره .
الحسّ الوطني :
إنّ للشاعر أبي ماضي إسهامات فعالةً في تأجيج حرارة المشاعر الوطنية ، المذكّية للانفعالات لأرض الآباء والأجداد ؛ والمترعة بعمق الوفاء لتربة مسقط رأسه ، وكان شاعرنا في طليعة المطلقين صيحات النهضة من خمول التوكل والتكاسل والاعتماد على النفس ، في طرد المستعمر من خلال قوله :
يا رفاقي ! يا جنودي ! احتشدوا عبر الأعداءُ في الليل التخوم
فـــاطـــردوهــم ، واكردوا الليل معاً أنّه مـــثـــلــهــم باغٍ أثـيهم
نــحــن لو لـــم نــقهر الشهب التي هاجـــمــتنــا لأذاقَتْنا الحسوم [10]
وهكذا نجد أمثالاً كثيرةً من قصائده تزخر بوطنية تعلو إلى مصاف القومية المؤمنة بتحرير أرض العرب بدون أي تفرقة أو تمييز ، فصار شاعر العرب كلهم في محاربة الاستعمار .
التفاعل الاجتماعي :
لقد خبر أبو ماضي المجتمع الذي تفتحت فيه نسيمات بذور تطلعه إلى الحياة ، ووعي من طفولته أسّس المجتمع اللبناني في عاداته وتقاليده الفطرية ؛ فيبرز في قصائد أبي ماضي الشعر الاجتماعي الذي يعالج أحوال الاجتماعية الساردة ، وكذلك طبيعة وجودها في أحوالها المتعددة ، كالفرد والترح والأمنية والأمل وغيرها ؛ فيقول في الأبيات المذيلة متوجهاً إلى كل شخص يشاركه الوجود :
يا أخي لا تمل بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فرقد [11]
وقصائد أبي ماضي حفلة بكل أنواع الهداية والإرشاد في الحقل الاجتماعي . ونراه في قصائده الاجتماعية ينبّهنا إلى النظر إلى كلّ كبيرة وصغيرة ؛ فكل ما نظمه قد يكون هامّاً في حياة الناس وأساساً ترتكز عليه شؤون الحياة كلّها .
الحوار القصصي :
كان أبو ماضي حريصاً على المطالعة والانكباب على الإلمام بالفنون العربية المختلفة ، وجعله غرضاً من أغراضه البشرية والشعرية ؛ فجاء بألوان القصائد من الجاهلية إلى النهضة . فكذلك هو برع وأبدع في فن الحوار القصصي الذي يملأ ديوان الشاعر بكثير من القصائد ، كمثل ” الأسطورة الأزلية ” وغيرها ، ففيها يجتمع الفتى والشيخ والحسناء والجارية والفقير والغني والأبله والأديب ، وراحوا يصيحون طالبين الإله ، فقال لهم :
فقال : إني فاعل ما اشتهوا لعل فيه حلمة خافية
فقال الفتى :
قال الفتى : يا رب إن الصبا مصدر أحزاني وآلامي
وعن الشيخ يقول :
فصاح : يا رباه خذ حكمتي واردد على عبدك عصر السباب
وأما الجارية فتشكو إلى الله حالها ، وتقول :
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي فهل أنا المجرمة الجانية
ويصف الفقير في مخاكبته لربه في قوله :
يصرخ يا رباه حتى متى تحكم الموسر في نفسي ؟
أما الغني وقد ضاق ذرعاً بالمال الذي جلبه المصائب والنكبات من الحاسدين له ، فيقول عنه :
رباه أطلق من عنان الغنى روحي ، فإني منه في محنة
ويعترض الأبله على خلق الإله له فيقول :
وصرخ الأبله مستفسراً ما القصد من خلقي كذا والمراد ؟
ويشكو الأديب حاله لربه في قوله :
فقال : إني تائه حائر أنا غريب في مكان غريب
وينتهي حوار أهل الأرض مع الإله في خاتمة يقول فيها الرب واعظاً مرشداً :
وذرة الرمل ككل الجبال وكالذي عز الذي هانا
وكذلك أتى أبو ماضي الحوار الرمزي أيضاً مع أصولها وعناصرها ، كما نجد في قصيدته ” الأمنية الإلهية ” ؛ إنه يصور فيها واقع المعجزات وما أتته من عجائب الإبداع في الإنسان .
وإلى جانب كل هذه فإن ههنا أغراضاً أخرى كان الشاعر يتناولها في مناسبات طارئة أو حفلات أو ندوات مختلفة قال فيها شعراً قصد مديح صديق أو رثاء أخ راحل أو رفيق ؛ كما له قصص شعرية مفيضة بألوان شتى وأشعار خواطر وتأملات ، وقصائد حوار بين التشاؤم والتفاؤل وغيرها مما يستفيد القراء والجماهير ويتمتعون بها . وهكذا بعد أن نقدم أشكالاً متعددةً من نماذج الحكم والأمثال التي اختارها أبو ماضي نستطيع أن نقول في الخلاصة أنه سار في بعضها على نمط من سبقه في سياق هذا الغرض ، وبينما هو أوجد لنفسه نمطاً جديداً مبتكراً في موضوعات لم يسبقه إليها شاعر من قبل على العموم .
المصادر والمراجع :
- أبو ماضي ، إيليا : تذكار الماضي ، الإسكندرية ، 1911م .
- أبو ماضي ، إيليا : ديوان الماضي ، نيويرك ، 1919م .
- أبو ماضي ، إيليا : الجداول ، دار العلم للمعلمين ، بيروت ، 1968م .
- أبو ماضي ، إيليا : الخمايل ، دار العلم للمعلمين ، بيروت ، 1965م .
- أبو ماضي ، إيليا : ديوان أبو ماضي ، دار العودة ، بيروت ، 1975م .
- الحرّ ، عبد المجيد : إيليا أبو ماضي باعث الأمل ومفجر ينابيع التفاؤل ، دار الفكر العربي ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ، 1995م .
- ألخوري ، الفرد : أبو ماضي شاعر الجمال والتفاؤل والتساؤل ، بيت الحكمة ، بيروت ، 1982م .
- صيدح ، جورج : أدبنا وأدباؤنا في المهجر ، بيروت ، 1960م .
- عباس ، إحسان : ونجم ، محمد يوسف : الشعر العربي في المهجر ، دار صادر ، بيروت ، 1958م .
- القباني ، عبد العليم : إيليا أبو ماضي حياته والشعر في الإسكندرية ، منشورات عويدات ، بيروت ، 1977م .
- مريدن ، عزيزة : القومية الإنسانية في شعر المهجر الجنوبي ، الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1966م .
- هيكل ، أحمد : دراسة أدبية ، الطبعة الأولى ، دار المعارف ، القاهرة ، 1983م .
- هيكل ، أحمد : تطوّر الأدب الحديث في مصر ، الطبعة الرابعة ، دار المعارف ، القاهرة ، 1983م .
* الأستاذ المساعد ، قسم اللغة العربية ، جامعة آسام بسيلتشار .
[1] Ph.D. Dis, AUS عيسى الناعوري : أدب المهجر ، 69 ( نقلاً عن مساهمة أدباء المهجر الشمالي في الأدب العربي الحديث ) .
[2] الحر ، د . عبد المجيد ، إيليا أبو ماضي : باعث الأمل ومفجر ينابيع التفاؤل ، ص 40 ، ( 1995م ) ، دار الفكر العربي ، بيروت .
[3] نقلاً عن داؤد : أنس – الطبيعة في شعر المهجر . الدار القومية ، ص ٨٠ ، ١٩٦٩ .
[4] نقلاً عن أبو ماضي : إيليا – الديوان . من قصيدة ” الفاتحة ” ، ص ٧٤٥ .
[5] نفس المصدر ، ص ٥١ .
[6] نفس المصدر ، قصيدة ” بنت سورية ” ، ص ٥٧١ .
[7] نفس المصدر ، قصيدة ” لم يبق غير الكأس ” ، ص 476 .
[8] أبو ماضي : إيليا – الديوان – من قصيدة ” فلسفة الحياة ” ، ص ٤٠٦ .
[9] نقلاً عن أبو ماضي : إيليا – الديوان – من قصيدة ” العيون السود ” ، ص ٣١٣ .
[10] نقلاً عن الديوان من قصيدة ” الضفادع والنجوم ” ، ص ٦٦٧ .
[11] نقلاً عن الديوان من قصيدة ” الطين ” ، ص ٣١٦ .