هُوية اللغة العربية ودورها في وِحدة الأمة الإسلامية
أبريل 28, 2025دراسات وأبحاث :
أثر عموم البلوى في الحكم على أخبار الآحاد
الأستاذ شعيب الحسيني الندوي *
التوطئة :
لا غنى للأمة الإسلامية عن الدراسات الحديثية لنيل مطلب تحقيق الشريعة ، إذ لا فهم للدين إلا بالاستناد إلى الكتاب والسنة ، والكتاب الحكيم مصدر الإشراقات الربانية والتوجيهات الإلهية ومنبع نور الهداية ، ولكن السنة النبوية نبراس الحياة للأمة ، ومعالم الطريق نحو تطبيق الشريعة وشرح المجملات من أحكام الكتاب وتبيين المحكمات وتحديد المسارات للأحكام التفصيلية .
الشريعة المطهرة منتقاة من أحاديث الأحكام ، وهي تخضع للقبول والرد على أصول اتخذها المحدثون الأصولييون وجربها الفقهاء المجتهدون ، لا يصح فهم الأحكام واستنباطها إلا بعد سبر هذه الضوابط الحديثية والنظر في المباحث الأصولية وتتبع آراء الأصوليين من الفقهاء والمحدثين في الحكم على الأخبار واستنباط الأحكام منها .
شرح المسألة وتخريج مناط البحث :
هذه المسألة بقيت في إطار الغموض والاستشكال ، وتضاربت آراء المتقدمين والمتأخرين من أصحاب المذاهب فيها ، والذي ينبغي التوجه إليه أولاً هو بيان المعنى الاصطلاحي والتأصيل للمسألة .
المعنى الاصطلاحي : ورود حديث آحادي صح سنده فيما يكثر وقوعه ويتكرر حدوثه ويعم التكليف به ويحتاج إلى معرفته الخاص والعام للعمل به ، فوروده آحاداً في سياق لا يتصور التفرد فيه يقتضي عدم قبوله .
يجب توضيح الأمر بالفرق بين مسألة خبر الواحد في عموم البلوى ومسألة رفع المشقة عن المكلفين في عموم البلوى ، إذ عموم البلوى قدر مشترك بينهما ، فإن الأولى المعنى الأصولي الحديثي المتعلق بأصول الحديث والفقه ، وهي تتعلق بأخبار الآحاد ثبوتاً ، والثانية هي قاعدة فقهية تتعلق بتيسير الأمر على المكلفين لتعسر التحرز منه كما وصفه السرخسي قائلاً : ” وصف مؤثر في الحكم إلى جهة التخفيف ” [1] ، أما الأولى سأتعرض لها في هذا البحث وهو موضوعنا ، وأما الثانية فاتفقت كلمة الفقهاء على اعتبارها ، إذا راجعت إلى كتب فقه المذاهب لترى الأمثلة المستفيضة لها متداولةً فيها .
هل الاستفاضة شرط لقبول الخبر فيما تعم به البلوى ؟
إذا ورد الخبر في عموم البلوى ولم يشتهر أولم يتلق بالقبول عند الأمة فهل يبقى الخبر معمولاً به وحجةً دون عبرة بعموم البلوى أم نفي الشهرة أوالتلقي بالقبول ، أم أنه يسبب القدح فيه ويجعله شاذاً غير معمول به ؟
هذا السؤال أصل المسألة الذي تدور حوله عبارات كثير من الفقهاء والأصوليين ، ويتفرع عليه اختلاف ذو شعوب في كثير من المسائل الفقهية ، ولا يعزب عن بالك أن أصل الخلاف راجع إلى خبر يثبت به الوجوب أوالحرمة ، ليس ذاك الخبر الذي يدل على الندب أوالفضيلة لأنه لا ضرورة فيه إلى تركه ، بل يمكن الجمع والتوفيق بين الخبر والمسألة لعموم البلوى فلا يبقى النزاع ، هذا رأي بعض الحنفية ، وقالوا به في تحقيق مناط الحكم ، كما قال ابن الهمام وصاحب التيسير : ” قلنا التفاصيل إن كانت رفع اليدين والتسمية والجهر بها ونحوه من السنن ” كوضع اليمين على الشمال تحت السرة وإخفاء التأمين ( فليس ) إثبات ذلك ( محل النزاع ) إذ النزاع في إثبات الوجوب به [2] ، ولكن البعض الآخر من الحنفية لم يحصر النزاع في الوجوب والحظر ، بل جرّه إلى الندب والإباحة والكراهة ، في سائر الأحكام التكليفية ، فيقول صاحب فواتح الرحموت : ” واعلم أن الذي يظهر في تحرير المسألة من كتب الكرام أن الخبر الشاذ المروي من واحد أو اثنين فيما عم به البلوى ، وورد مخالفاً لما يعلمه الجماعة ويبتلون به بحيث يكونون لو علموا بالخبر لعملوا به سواء كان الخبر في مباح أو مندوب أو واجب أومحرم ، لم يقبل ولم يعمل به ويكون مردوداً ، ويدل على التعميم تمثيل الإمام فخر الإسلام ( البزدوي ) بحديث جهر التسمية في الصلاة الجهرية ، وهومن هذا القبيل ” [3] .
رأي الجمهور في خبر الواحد فيما يعم به البلوى :
الجمهور من الفقهاء ومعظم المحدثين يرون خبر الواحد فيما تعم به البلوى حجةً ولا يضر بالخبر – إذا صح – عموم البلوى ، بل إنهم لا يرون هذا التقسيم بين الخبر في عموم البلوى وعدمه صحيحاً ، كل ما صح سنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يكفي حجةً ، وإعمال القياس والنظر عند وجود الخبر الصحيح أخذ بالضعيف مع وجود القوي ، يقول القاضي أبو يعلى الحنبلي رادّاً على ترك خبر الواحد فيما يعم فرضه للكافة : ” لأن خبر الواحد أصل القياس ، فإنه منه يستنبط ويتفرع ، فإذا جاز إثبات هذه الأحكام بالقياس مع ضعفه ، كان جواز ذلك بخبر الواحد أولى ” [4] ، وقد يرى بعض الأصوليين من الشافعية تقسيم الخبر فيما يقتضي معرفته إشاعته وفيما لا يقتضيها ، يقول الإمام الجويني وهو يقبل اقتضاء العرف نقلاً متواتراً في بعض القضايا : ” كل أمر خطير ذي بال يقتضي العرف نقله إذا وقع تواتراً إذا نقله آحاد فهم يكذبون فيه منسوبون إلى تعمد الكذب أو الزلل ، وقد أجرينا هذا في إدراج أحكام التواتر ووجهنا أسئلة مخيلة وانفصلنا عنها ، وقال أبوحنيفة استناداً إلى ذلك : لا يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوى فإن سبيل ما كان كذلك أن ينقل استفاضة ، ونحن نقول : رد أبوحنيفة أخبار الآحاد في تفاصيل ما يعم به البلوي وأسند مذهبه إلى ذلك وهذا زلل بين ، فإن التفاصيل لا تتوافر الدواعي بها على نقلها توافرها على الكليات فنقل الصلوات الخمس مما يتواتر فأما تفصيلها في الكيفية فلا يقضي العرف بالاستفاضة والدليل القاطع فيه أنه لو كان مما يتواتر لنقل تواتراً فإذا لم ينقل نقيضه مع القطع بأنه لا بد من وقوع أحدهما دل على أن ما ورد خبر الآحاد فيه من قبيل ما لا يجب التواتر فيه على حكم الاعتياد ” [5] ، وكذا يستدل الجمهور على هذا الموقف بمنهج الصحابة رضي الله عنهم لقبول خبر الآحاد على كل حال .
رأي السادة الحنفية :
أما الحنفية فليس فيه قول واحد لمتقدميهم ومتأخريهم ، وسكت متقدموهم في المسألة ولم يصرحوا فيها برأي ، إنما جل ما ورد في هذا الصدد منسوباً إلى الإمام أبي حنيفة ومحمد في رد الحديث : ” إنه شاذ لا يؤخذ به فيما تعم به البلوى ” ، كما نقل ابن الهمام في باب الاستسقاء منسوباً إلى الإمام محمد فيقول : ” المروي فيه شاذ فيما تعم به البلوى ، وهو ظاهر جواب الرواية ، فإن عبارته في الكافي الذي هو جمع كلام محمد قال : لا صلاة في الاستسقاء إنما فيه الدعاء ، بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ” أنه خرج ودعا ” ، وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه صعد المنبر فدعا فاستسقى ، ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به ، انتهى . وهذا صريح من جهة الرواية في علم محمد به [6] ، وكما نقل السرخسي قول أبي حنيفة في حديث ” الناس أكفاء إلا الحائك والحجام ” : ولكن أبا حنيفة رحمه الله قال : الحديث شاذ لا يؤخذ به فيما تعم به البلوى [7] ، وأقدم تصريح بالمسألة من الحنفية نقل الجصاص قول عيسى ابن أبان حيث يقول : ” إن خبر الآحاد يردّ لمعارضة السنة الثابتة إياه ، أو أن يتعلق القرآن بخلافه فيما لا يحتمل المعاني ، أو أن يكون من الأمور العامة ، فيجيئ خبر خاص لا تعرفه العامة ، أو يكون شاذاً قد رواه الناس وعملوا بخلافه ” [8] .
وهذا مذهب عدد من متقدمي الأحناف ومعظم متأخريهم كما قال الكمال ابن همام : ” خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، أي : يحتاج الكل إليه حاجةً متأكدةً مع كثرة تكراره ، لا يثبت به وجوب دون اشتهار أو تلقي الأمة بالقبول عند عامة الحنفية ، منهم الكرخي ” [9] ، ويذكر أبو بكر الجصاص حكم خبر الواحد فيما تعم به البلوى : ” فإنما كان علةً لرده من توقيف من النبي عليه السلام الكافة على حكمه ، فيما كان فيه إيجاب أو حظر نعلمه ، بأنهم لا يصلون إلى علمه إلا بتوقيفه ، وإذا أشاعه في الكافة ورد نقله بحسب استفاضته فيهم ، فإذا لم نجده كذلك علمنا : أنه لا يخلو من أن يكون منسوخاً ، أو غير صحيح في الأصل ، ولا يجوز فيما كان هذا وصفه : أن يختص بنقله الأفراد دون الجماعة ” [10] .
والإمام السرخسي أجاد في هذا الفصل بالتنظير بياناً فيقول : ” فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة ، فحين لم يشتهر النقل عنهم عرفنا أنه سهو أو منسوخ ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم ، فلو كان ثابتاً في المتقدمين لاشتهر أيضاً ، وما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته ، ولهذا لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان ، إذا لم يكن بالسماء علة ، ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة ، وإن كان ذلك محتملاً ، لأن الظاهر يكذبه في ذلك ” [11] ، ويعلل الجصاص هذه المسألة قائلاً : قال أصحابنا : ما كان من أحكام الشريعة بالناس حاجة إلى معرفته فسبيل ثبوته الاستفاضة والخبر الموجب للعلم ، وغير جائز إثبات مثله بأخبار الآحاد ، نحو إيجاب الوضوء من مس الذكر ومس المرأة والوضوء مما مست النار والوضوء مع عدم تسمية الله عليه فقالوا : لما كانت البلوى عامة من كافة الناس بهذه الأمور ونظائرها ، فغير جائز أن يكون فيه حكم الله تعالى من طريق التوقيف إلا وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ووقف الكافة عليه ، وإذا عرفته الكافة فغير جائز عليها ترك النقل والاقتصار على ما ينقله الواحد منهم بعد الواحد ; لأنهم مأمورون بنقله ، وهم الحجة على ذلك المنقول إليهم ، وغير جائز لها تضييع موضع الحجة ، فعلمنا بذلك أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف في هذه الأمور ونظائرها ” [12] ، كذا يستدل أصحاب هذا الرأي بردّ الرسول صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين في الصلاة حتى استثبت من الآخرين ، وعمل كبار الصحابة في ردّ أخبار بعضهم الآحادية خير شاهد لهم .
وأثبت أبو بكر الجصاص أن الآحادية في الخبر الذي ينبغي أن يستفيض علة ، وأخبار الآحاد ترد بالعلل ، ومن العلل ومما يرد به أخبار الآحاد من العلل أن ينافي موجبات أحكام العقول ، لأن العقول حجة لله تعالى ، وغير جائز انقلاب ما دلت عليه وأوجبته . وكل خبر يضاده حجة للعقل فهو فاسد غير مقبول ، وحجة العقل ثابتة صحيحة ، إلا أن يكون الخبر محتملاً لوجه لا يخالف به أحكام العقول ، فيكون محمولاً على ذلك الوجه [13] .
اختلاف الأنظار في المسألة بين الفقهاء الأحناف :
إذا تتبعت علماء الأحناف في مسألة رد خبر الواحد فيما تعم به البلوى يظهر أنهم ليسوا على كلمة واحدة في المسألة ، بل وضع بعضهم قيوداً لرده ، ولبيان ذلك يمكن أن نجعل مذهب علماء الحنفية على أقسام :
من علماء الحنفية من نص على رد خبر الواحد الوارد فيما تعم به البلوى مطلقاً دون قيد أو شرط لقبوله ، لكن إذ اشتهر أو تلقته الأمة بالقبول خرج عن مفهوم خبر الواحد عندهم ، وهو ما نسب إلى الكرخي من متقدميهم وهو مختار المتأخرين منهم [14] .
ونص بعض الحنفية على جعل الاشتهار أو تلقي الأمة بالقبول وعدم الخلاف شرطاً لقبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، فإذا لم يتحقق هذا الشرط فإنه لا يقبل .
هذا القول هو المشهور عن الحنفية ، وهو رأي معظم الفقهاء الأصوليين منهم ، وهو اختيار الشاشي حيث نص على أن خبر الواحد إذا خالفه الظاهر لا يعمل به ، إذا لم يشتهر في الصدر الأول والثاني ، ومثله في الحكميات بحرمة الرضاع ، إذا أخبر واحد أن امرأته حرمت عليه بالرضاع الطارىء جاز أن يعتمد على خبره ويتزوج أختها ، ولو أخبر ان العقد كان باطلاً بحكم الرضاع لا يقبل خبره [15] .
وهذا القول قريب من القول الأول ، لأنه عند اشتهار خبر الواحد أو تلقي الأمة له بالقبول يخرج عن كونه خبر آحاد ، ومن ثم يصح العمل به عند الحنفية .
ومن علماء الحنفية من وضع شرطاً لردّ خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، وهو أن يكون الحديث دالاً على الوجوب أو التحريم ، فإذا ورد الخبر وبه يثبت حكم الوجوب أو الحرمة فلا يقبل ، أما الفضيلة لعمل أو السنية أو الكراهية له ، فيجوز فيه قبول خبر الواحد ، وممن اختار هذا القول أبو بكر الجصاص [16] ، وابن همام الإسكندري الحنفي في تحريره [17] ، ومحب الله بن عبد الشكور البهاري الحنفي [18] .
ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا الموضع أن اختصاص صحابي بمباشرته سماع الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم أو مشاركته معه في القصة فيما لا يستدعي إلى الصدع به ، لا يدخل في حدّ عموم البلوى ، وإن كانت حاجة الناس إليه مطردةً ، مثل أحاديث مباشرة النساء وأحكام الغسل والطهارة بها ، فما ورد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم على الآحاد قُبل من غير نزاع ، لمّا اختلف الصحابة في الغسل بعد الإيلاج من غير إنزال ، ورأوا الغسل إذا أنزل ، جاءت عائشة رضي الله عنها بقصتها : ” إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا ” [19] ، فاتفقت كلمة الناس عليها .
الأمثلة :
الوضوء بمس الذكر :
حديث بسرة بنت صفوان رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من مسّ ذكره فلا يصل حتى يتوضأ ” [20] ، وثبت عن غير واحد من الصحابة هذا المعنى رفعاً ووقفاً ، وإليه ذهب الجمهور أن الوضوء ينتقض بمس الذكر .
لم يأخذ الحنفية بهذا الحديث ، فلم يوجبوا الوضوء على مس الذكر ، وحجتهم في رد هذه الأخبار أنها وردت فيما تعم به البلوى ولم تستفض ، قال شمس الأئمة السرخسي : ” وحديث بسرة لا يكاد يصح فقد قال يحيى بن معين : ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا ، وما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله عنه أحد ، وإنما قاله بين يدي بسرة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها ” [21] ، ويعل الكاساني حديث بسرة بمخالفته عموم البلوى أو محمولاً على المعنى اللغوي للوضوء : ” إنه خبر واحد فيما تعم به البلوى ، فلو ثبت لاشتهر ، ولو ثبت فهو محمول على غسل اليدين ، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستنجون بالأحجار دون الماء ، فإذا مسوه بأيديهم كانت تتلوث خصوصاً في أيام الصيف فأمر بالغسل لهذا ، والله أعلم ” [22] . وللحنفية حجة بحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل : أيتوضأ أحدنا إذا مس ذكره ؟ قال : ” هل هو إلا بضعة منك أو من جسدك ” [23] ، أعل بعض المحدثين هذا الحديث بالضعف والاضطراب وصححه بعضهم ومنهم الطحاوي يقول بعد تخريج الحديث : ” فهذا حديث ملازم ، صحيح مستقيم الاسناد ، غير مضطرب في إسناده ولا في متنه ” [24] .
الوضوء بمس المرأة :
وقس على المثال السابق مسّ المرأة ، فقد أفتى المالكية والشافعية والحنابلة بانتقاض الوضوء بمسّ المرأة بالشهوة إلا الشافعية ، فينفون هذا الاشتراط ، ومطلق المساس ينقض عندهم الوضوء ، أما الحنفية فلم يعملوا بما استدل به الجمهور لكون أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ، يقول الجصاص : ” والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة ، والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما ، فلو كان حدثاً لما أخلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به وحاجتهم إلى معرفة حكمه ، ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض ، فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة ، فلما روي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه ، دل على أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم توقيف لهم عليه ، وعلم أنه لا وضوء فيه ” [25] .
صفة الإقامة للصلاة :
ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال : أمر بلالاً أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة ، إلا الإقامة [26] .
العمل على هذا الحديث عند الأئمة الثلاثة مع الفروق الجزئية في بعض المواضع ، ويخالفهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله في إيتار الإقامة ، تكون مثل الأذان شفعا شفعا عنده ، لأن الأحاديث متعارضة في هذا الباب ، إضافةً إلى ترجيح أحاديث شفع الإقامة يرد بعض الحنفية حديث الإيتار بأنه شاذ فيما تعم به البلوى فلا حجة فيه [27] .
صلاة الاستسقاء :
وقع الاختلاف بين الفقهاء في صلاة الاستسقاء أنها مشروعة أم لا ، ذهب الجمهور ، ومنهم صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ( رواية بشر عنه ) ومحمد إلى مشروعيتها وأثبتوها بالأحاديث الواردة في الباب ، مثل حديث عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان أنه قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو ، وحوّل رداءه ، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة .
اختلف معهم أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في رواية عنه ، ونفيا مشروعية هذه الصلاة جماعةً ، وأصحاب هذا الرأي من الحنفية يستدلون بآيات القرآن الدالة على الاستغفار والدعاء يستجلب به المطر ، وبأحاديث تذكر دعاء النبي للاستسقاء أثناء خطبة الجمعة ودعاء عمر بعمّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أما الأحاديث التي تصرح بالصلاة وكيفيتها عند الاستسقاء فيقول فيها السرخسي : والأثر الذي نقل أنه صلى فيها صلى الله عليه وسلم شاذ فيما تعم به البلوى ، وما يحتاج الخاص والعام إلى معرفته ، لا يقبل فيه شاذ ، وهذا مما تعم به البلوى في ديارهم [28] .
وينقل أبو المعالي برهان الدين البخاري سبب رد هذا الأثر : قال في ” الكتاب ” : عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لم يبلغنا في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به ، اختلفت النقلة والرواة أنه لأي معنى سمي شاذاً ، منهم من قال : إنما سمي شاذاً ، لأن عمر رضي الله عنه لم يصل في الاستسقاء ، وعلي رضي الله عنه كذلك ، ولو كانت بهذا سنّة مشهورة لما خفيت عليهما ، ولا خير في سنّة خفيت على عمر وعلي رضي الله عنهما ، ومنهم من قال : إنما سمي شاذاً ، لأنه ورد ونقل في بلية عامة ، والواحد إذا روى حديثاً في بلية عامة يعد ذلك شاذاً ومستنكراً منه [29] .
تحريم الصيد وقطع الشجر بالمدينة :
جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن إبراهيم حرّم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، لا يقطع شجرها ولا يقتل صيدها ” .
أخذ بهذا الحديث وغيره في الباب الجمهور من الفقهاء وقالوا بحرمة المدينة مثل مكة في الصيد وقطع الشجر ، إلا الجزاء فلا يجب كما يجب في مكة .
ليس العمل بهذا الحديث عند الحنفية ، فليس للمدينة حرم كحرم مكة ، فلا يحرم صيدها ولا قطع شجرها ، إلا أنه يسن ويستحب الاحتراز عن ذلك ، وحجتهم في ذلك ما يقول السرخسي : ” وحجتنا في ذلك ما روي : أن رسول الله أعطى بعض الصبيان بالمدينة طائراً فطار من يديه فجعل يتأسف على ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يا أبا عمير ما فعل النغير ” اسم ذلك الطير ، وهو طير صغير مثل العصفور ، ولو كان للصيد في المدينة حرمة الحرم لما ناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبياً ، ولأن هذه بقعة يجوز دخولها بغير إحرام فتكون قياس سائر البلدان بخلاف الحرم فإنه ليس لأحد أن يدخلها إلا محرماً ” [30] .
أما الحديث الذي يجعل المدينة مثل مكة في الحرمة فيجيب الحنفية لها بأجوبة ، منها : أنه من أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ، ينقل ابن نجيم الجواب : وأجاب في المحيط عن الأحاديث الصحيحة في أن لها حرما أنها من أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ، لأن الشجر للمدينة أمر تعم به البلوى وخبر الواحد إذا ورد فيما تعم به البلوى لا يقبل إذ لو كان صحيحاً لاشتهر نقله فيما عم به البلوى [31] ، والماوردي الشافعي يذكر هذه العلة عند الحنفية : أما صيد المدينة فهو على مذهب الشافعي حرام كصيد الحرم ، وقال أبو حنيفة : صيد المدينة حلال استدلالاً بأن صيد المدينة مما تعم به البلوى ، وما عم به البلوى يجب أن يكون بيانه منتشراً وفي الناس مستفيضاً ، وليس فيه استفاضة ، فلم يصح تحريمه [32] .
للمسألة أمثلة كثيرة منثورة في كتب الأصول والفقه للحنفية ، يحسن المراجعة لجمعها إلى أحكام القرآن للجصاص ، والمبسوط للسرخسي ، وشرح مختصر القدوري .
* رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية حراء ، منغالور shoaibalhusaini@gmail.com
[1] أصول السرخسي ، 2/130 .
[2] التحرير مع شرحه التيسير : 3/113 ( دار الكتب العلمية ، بيروت ) .
[3] فواتح الرحموت للأنصاري ، 2/129 .
[4] العدة في أصول الفقه ، إخراج وتحقيق : د . أحمد بن علي المباركي ، 3/881 ( أصل هذا الكتاب رسالة الدكتوراة للمحقق ) .
[5] البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني ، تحقيق : صلاح بن محمد بن عويضة ، 1/256 – 257 ( الطبعة الأولى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ) .
[6] فتح القدير لابن الهمام ، 2/91 ( دار الفكر ) .
[7] المبسوط للسرخسي ، 2/25 ( دار المعرفة ، بيروت ) .
[8] 3/113 .
[9] التحرير في أصول الفقه الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية ، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد الشهير بابن همام الأسكندري الحنفي ، مع شرحه التيسير لأمير بادشاه الحنفي ، 3/112 ( دار الكتب العلمية ) .
[10] الفصول في الأصول للجصاص ، 3/115 ( الطبعة الثانية ، وزارة الأوقاف الكويتية ) .
[11] أصول السرخسي ، 1/368 .
[12] أحكام القرآن للجصاص ، تحقيق : عبد السلام محمد علي شاهين ، 1/246 – 247 ( الطبعة الأولى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ) .
[13] الفصول في الأصول ، 3/121 – 122 .
[14] كشف الأسرار ، 3/17 .
[15] أصول الشاشي ، نظام الدين أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي ( م : 344هـ ) ص 284 ، ( دار الكتاب العربي ، بيروت ) .
[16] الفصول في الأصول ،3/116 ، 3/122 .
[17] التحرير مع شرحه تيسير التحرير ، 3/112 – 113 .
[18] مسلم الثبوت مع شرحه مسلم الثبوت ، 2/158 .
[19] الترمذي : رقم الحديث 108 .
[20] مسند أحمد : 27295 ، الترمذي : 82 ، أبو داود : 181 ، النسائي : 447 ، ابن ماجة : 479 .
[21] المبسوط 1/66 ( دار المعرفة ، بيروت ) .
[22] بدائع الصنائع : 1/30 ( الطبعة الثانية ، دار الكتب العلمية ) .
[23] مسند أحمد : باب بقية حديث طلق بن علي الحنفي ، موطأ مالك برواية محمد : باب الوضوء من مس الذكر ، رقم : 13 ، شرح معاني الآثار : باب مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أم لا ، رقم : 461 .
[24] شرح معاني الآثار : باب مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أم لا ، رقم : 461 .
[25] أحكام القرآن للجصاص ، 2/463 .
[26] أخرجه البخاري : رقم : 605 ، مسلم : 378 ، وغيرهما أصحاب السنن والمسانيد .
[27] المبسوط للسرخسي ، 1/129 .
[28] المبسوط للسرخسي ، 2/77 .
[29] المحيط البرهاني في الفقه النعماني ، تحقيق : عبد الكريم سامي الجندي ، 2/139 الطبعة الأولى ، دار الكتب العلمية .
[30] المبسوط للسرخسي ، 4/105 .
[31] البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، 3/44 ( الطبعة الثانية ، دار الكتاب الإسلامي ) .
[32] الحاوي الكبير شرح مختصر المزني ، تحقيق : الشيخ علي محمد معوض – وعادل أحمد عبد الموجود ، 4/326 – 327 ( الطبعة الأولى ، دار الكتب العلمية ) .