المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة

الهدي النبوي في العملية التربوية
يناير 1, 2020
الصحة والنجاح والقوة
مارس 1, 2020
الهدي النبوي في العملية التربوية
يناير 1, 2020
الصحة والنجاح والقوة
مارس 1, 2020

الدعوة الإسلامية :

المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة

بقلم : الشيخ الطاهر بدوي الجزائري *

قد كشف الله تعالى في القرآن الكريم عما في منسك المشركين من سخف وضعف ، وعما في عبادتهم من قصور وجهل . . . والآن يتوجه الحق جل وعلا بالخطاب إلى الأمة المسلمة لتنهض بتكاليف الدعوة وتستقيم على نهجها العريق القويم .

( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ، هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ ) ( الحج : 77 – 78 ) وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة ، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها ، ويقرر مكانها الذي قدره لها ، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل ، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله تعالى .

إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود ، وهما ركنا الصلاة البارزان ، ويثني بالأمر العام بالعبادة ، وهي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها ، كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله جل جلاله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله تعالى . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة ، بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم    بها ، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته ، فإذا هي عبادات  وحسنات ، ولم يتحول في طبيعتها شيئ ، ولكن تحول القصد منها والاتجاه .

ويختم بفعل الخير عامة ، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله تعالى بالصلاة والعبادة ، وطوبى لمن تعامل مع خلق الله أحسن معاملة لأن الذي يحبه الله هو الذي ينفع خلق الله ، وقد جاء في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” الخلق عيال الله ، أحبكم إلى الله أنفعكم لعياله ” . يأمر الله الأمة الإسلامية بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .

فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة :        ( وَجَاهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء وجهاد النفس وجهاد الشر والفساد . . . كلها سواء .

فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة واختاركم لها من بين عباده   ( هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ ) ، وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالاً للتخلي عنها أو الفرار ، وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء .

وهو تكليف مشرف للأمة ، تكليف محفوف برحمة الله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته ، ملحوظ فيه تلبية تلك  الفطرة ، وإطلاق هذه الطاقة والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم ، ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !!! وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) ، وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم عليه السلام ، فلم تنقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .

وقد سمَّى الله تعالى هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن : ” هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا ” . والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات حتى انتهى بها المطاف إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وحتى سلمت إليها الأمانة وعهد إليها بالوصاية على البشرية كافة . فاتصل ماضيها بحاضرها وبمستقبلها كما أرادها الله تعالى : ( لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ) فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها ، وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ، وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .

ولقد ظلت هذه الأمة وصيةً على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي ، وطبقته في حياتها الواقعية حتى إذا انحرفت عنه وتخلت عن تكاليفه ، ردها الله تعالى عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة وما تزال ، ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله . هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . . ومن ثم يأمرها القرآن الكريم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله جل وعلا : ( فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ ) .

فالصلاة صلة الفرد الضعيف بمصدر القوة والزاد ، والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض ، والتأمين من الحاجة والفساد ، والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد .

بهذه العدة تملك الأمة الإسلامية أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله ، وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض ، والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها ، بل يدعو إلى إعدادها ، ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله . فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء لا للفساد والدمار .

إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدماً إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ، ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام . وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية ، ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة المستقيمة على منهج الله في ظل الله جل  جلاله [1] .

* كبير علماء الجزائر .

[1] ” في ظلال القرآن ” .