ازدواجية العلم والتربية من أرجحيات الإسلام
أبريل 27, 2024لبيك اللهم لبيك
يونيو 4, 2024الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
حاجتنا إلى الثقة بالله والشعور بالمسئولية
الأوضاع الراهنة التي تمر بها الإنسانية في شتى بقاع الأرض تدعونا إلى الدراسة والتأمل فيها من جديد ، وهذه الأوضاع ليس بدعاً من الأمر، بل ظلت منذ قديم الزمان في مختلف العصور والبقاع ، وقد شهد التاريخ الإنساني أظلم وأحلك فترات التاريخ التي تنم عن أن الإنسانية تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وتكون بعد بضعة أيام وليال كأن لم تغن بالأمس ، ولا يبقى لها عين ولا أثر ، لكن الله الذي يُخرج الحي من الميت ، ويُخرج الميت من الحي ، قلَّب الأوضاع رأساً على عقب ، وبدأ الناس يتنفسون الصعداء ، ويرتاحون ، ويطمئنون ، ونزلت عليهم السكينة ، وحصلت لهم أجواء من الأمن والسلام ، والهدوء والطمأنينة ، وانشرحت قلوب الناس ، وأخذوا يعشيون حياةً مطمئنةً ، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان .
لماذا تنقلب الأوضاع والظروف ؟ ولماذا لم يجعل الله الدنيا مكان راحة واستقرار ؟ ولماذا يُبتلى الناس بابتلاءات وامتحانات متنوعة ؟ الواقع أن هذه الأسئلة تدور في أذهاننا ، وتختلج في صدرونا ، بل يتساءل بعضنا بعضاً ، لكن إذا لم نجد رداً شافياً ، وجواباً كافياً ، كنا مضطربين وجلسنا مشوشي الأذهان ، لا يهدأ لنا طعام ، ولا يهنأ لنا شراب ، وظل السؤال يتطلب الجواب عنها ، فإذا بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، يكون أمامنا ، ونقلب أوراقه وصفحاته ، فيقع بصرنا على هذه الآية الكريمة : ( ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ ) [ الملك : 2 ] ، وقول الله تعالى : ( وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ الأنعام : 165 ] ، فتنكشف أعيننا أمام هذه الآيات ، ونعتقد أن هذه الأوضاع نشأت للابتلاء والامتحان ، ومعرفة الصالح من الطالح ، وتمييز الخبيث من الطيب ، وتمحيص أهل الحق من أهل الباطل ، فيكون كل فرد منا قد ازداد بالله إيماناً ، ويقيناً ، ويظن أن المشقة البالغة والكبد المرهق والكدح المضني لا يفارق الإنسان قبل موته ، وإنه لا يزال يبتلى حيناً لآخر بمثل هذه الأوضاع ، ويعتقد كذلك أن هذه الابتلاءات ليست من جراء ذنوبه وسيئاته ، وهي ليست عقاباً من عند الله ، ونكالاً من السماء ، بل هي لرفع الدرجات والمراتب ، وحط الذنوب والسئيات ، وازدياد قرب الإنسان من الله تعالى ، فيسهل عليه تجشم هذه المشاق ، وتحمل هذه المتاعب والمشاكل ، فيشعر هذا الإنسان في المشكلات بلذة ربانية ، ومتعة إيمانية ، وينال بشارةً من الله في الحياة الدنيا ، أما بشارات الله تعالى الأخروية فهي تبتدئ من موته وانتقاله إلى الله ، في القبر والحشر ، وفي الجنة ، قال تعالى : ( نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) [ فصلت : 31 ] .
كلما ادلهمت الخطوب ، وتأزمت الأزمات ، ونزلت البليات كان نصر الله وتوفيقه حليف المؤمنين الصادقين ، وقرين الواثقين بالله تعالى ، فإن النصر والتائيد الإلهي لا ينزل إلا حينما ينصر المؤمنون الله تعالى ، وقد وعد الله سبحانه أعضاء هذه الأمة بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم الذي ارتضى لهم وتبديل خوفهم أمناً ، ما داموا ملتزمين بالإيمان والعمل الصالح ، ويوفقون بينهما ، ويعبدون ربهم بيقين من قلوبهم وثقة بنصره وتأييده ، مع محاربة القوى الباطلة التي تتألب على عبادة الله ، وتحاول أن تقتلع جذور التوحيد ، والعبادة الخالصة من القلوب ، وتتمنى أن تبث الشرك وعوامله وعناصره في حياة الناس ومجتمعات المسلمين ، وهذه طبيعة الإنسان ، ولكنه قد يتناساها أو يتغافلها في نشوة الانتصار ، وغمرة الرفاهية ، والأحوال المواتية ، لكن سرعان ما يتقلص ظل القوة والمنصب ، وتضمحل آثار الشرك والوثنية ، ويتناثر ما لديها من القناطير المقنطرة من المال والثراء يميناً وشمالاً ، فيعود الإنسان إلى فطرة الله التي فطر عليها الإنسان ، وتتجلى فيها العبودية والعجز والضراعة والدموع ، ونذور من الأشواق والآمال ، ويتمنى على الله تعالى أن يقبل منه أي تضحية بما تملكه من مال ومتاع ، ويكرمها بالعودة إلى أحسن حال وأنعم بال ، ولا شك أن كل ما يملكه الإنسان هو ملك الله ، وكلما كان الإنسان أقرب إلى ربه كان اختباره عظيماً ، وقد كان سيدنا إبراهيم عليه السلام من أولي العزم من الرسل ، واتخذه الله خليلاً ، فأمره الله تعالى بتقديم فلذة كبده في سبيله ، وكانت ثقته بالله قويةً ، ورابطته بالله محكمةً ، فلم يتأخر للحظة واحدة في امتثال الأمر ، وقد أكرمه الله بالقبول ، وترك ذكره في الأولين والآخرين ، وخلَّد سنته في جميع العالمين .
إذاً ، لا قيمة للحياة إذا لم تتزين بدوافع التضحية بكل شيئ في سبيل الله تعالى ، إذا كان الإنسان يستطيع أن يضحي بأغلى ما لديه في سبيل الحب المادي ، وينفق كل ما يمكنه إرضاءً للمحبوب ، فما باله إذا كان يحب رب العالمين ، ويتفانى في حبه ، ثم لا يضحي بنفسه ورغائبه وشهواته وحاجاته وأحلامه ، وأمانيه في سبيل هذا الحب العظيم ، هنا موضع الامتحان ، فإما أن يرتبط المرء بربه ، ويؤثره على كل شيئ ، ويعتز بذلك ويفتخر ، وإما أن يتكاسل في الخضوع والعبودية ، وتقديم النذور والتضحيات بما لديه من نفس ومال أو منصب أو قوة ، ابتغاء وجه ربه تعالى ، ومن ثم يُكتب له الشقاء والحياة التعسة في الدنيا ، وما له في الآخرة من نصيب .
القرآن الكريم يبين أمامنا نماذج رائعةً للثقة بالله ، ومعرفة ذاته وصفاته والإيمان بها ، فهو مرآة صافية لكل من يرى وجهه فيها ، وينال منها حظها ونصيبها ، كان بنو إسرائيل في مصايب ومتاعب زمن فرعون ، فأرسل إليهم الله عز وجل سيدنا موسى عليه السلام ، لينقذه من ظلم فرعون ، وينتشله من رحى اضطهاده وغطرسته ، ولبث فيهم سيدنا موسى عليه السلام زمناً يعظ فرعون وملأه ، ويذكرهم بالله ، وينصحهم ، لكنهم لم يلقوا إلى هذه النصائح المخلصة بالاً ، ولم يلتفتوا إليها التفاتاً ، وقضى الله تعالى لهلاك فرعون ، فخرج سيدنا موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل من مصر ليلاً ، وأراد أن يذهب إلى شاطئ النجاة ، وساحل الأمان ، لكنه ضلَّ الطريق في الظلام ، فذهب إلى جهة غير جهته التي كان يتوخاها ، وكان البحر أمامه متلاطماً ، وجيش العدو خلفه عرمرماً ، وظن بنو إسرائيل أنهم هلكى وصرعى بيد فرعون وملائه ، وقالوا بلغة القرآن الكريم : إنا لمدركون ، قال موسى عليه السلام : كلا ! إن معي ربي سيهدين ، هذه الثقة الإلهية ، والاعتماد الزائد على الله قد امتزجت بلحم موسى عليه السلام ودمه ، فلم يضعف ، ولم يستكن ، ولم يتأرجح بين هذا وذاك ، ثم أوحى الله إليه بأن يضرب بعصاه البحر ، فكان كل فرق كالطود العظيم .
إذا كان قلب الإنسان مفعماً بالثقة بالله فإنه يدفعه إلى الشعور بالمسئولية ، والشعور بالمسئولية ميزة الحياة الإسلامية ، وهي دعامة أساسية لبناء المجتمع الأفضل ، كان المجتمع الجاهلي في القرن السادس الميلادي بمعزل عن هذا الشعور ، فكان مجتمعاً مفككاً ، مجتمعاً منهاراً ، مجتمعاً بعيداً عن الجد المطلوب ، والتماسك المحمود ، وكان الناس لا يراعون فيها إلاً ولا ذمةً ، ولا يعرفون معنى التعاون والخير ، والتضامن والتناصح ، ففي مثل هذه الأوضاع الشاذة ركز الإسلام على بناء مجتمع أفضل على أساس من الأخوة الإيمانية ، والاجتماعية الخالصة ، والحب والطاعة ، وقد ضغط الإسلام على إثارة هذا الشعور بطرائق قدداً ، ومذاهب شتى ، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، ثم شرح أن الإمام راع ، وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في بيته ، وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ، وهي مسئولية عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ، وهو مسئول عن رعيته ، بهذه التفاصيل للشعور بالمسئولية يكون المجتمع مجتمعاً مثالياً ، مجتمعاً نموذجياً ، ومجتمعاً يعيش فيه كل فرد من أفراده للآخر ، ويؤثر حاجة الآخرين قبل حاجته ، وإنه يبيت جائعاً ، لكنه لا يترك ضيفه وجاره جائعَين ، وقد كان أمير المؤمنين سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كثير الإرهاف بهذه المسئولية ، فكان يتجول في الشوارع والطرقات في جنح الليل ويتفقد حوائج الناس ، ثم يتحسر خوفاً من عقاب الله ، وشدة الحساب : يا ليتني لم تلدني أمي ، وكنت شجرةً تُعضد .
لا شك أن المجتمع الغربي يوجد عنده شديد الحساسية بالشعور بالمسئولية ، وقد اقتبس هذا النور من الحضارة الإسلامية ، فخرج المجتمع الغربي من زاوية الخمول إلى ساحة الجد والعمل ، فإن أكبر عامل في تقدم المجتمع الأوربي وازدهاره هو شعوره بالمسئولية ، هذا الذي أقامه في مقدمة الركب ، وفي صفوف العالم ، لكن يا للأسف يشكو المجتمع الأوربي الثقة بالله التي هي الأساس ، والركيزة الأولى في بناء الحياة ، فيشكو خواءً روحياً ، وقلقاً نفسياً ، وفراغاً خلقياً ، وتفاوتاً طبقياً ، هذا الذي حوَّل حياته إلى جحيم وشقاء ، وقرّبها من هوّة الهلاك والدمار ، فإذا كان هناك توفيق معتدل وجمع متزن بين الثقة بالله ، والشعور بالمسئولية كانت النتيجة أحسن وأطيب من كل شيئ ، والله يدعو إلى دار السلام ، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي
3/شوال/1445هـ
13/أبريل/2024م