ازدواجية العلم والتربية من أرجحيات الإسلام

أبعاد المؤامرات ضد الإسلام ، وطرق التفادي منها
مارس 3, 2024
حاجتنا إلى الثقة بالله والشعور بالمسئولية
مايو 4, 2024
أبعاد المؤامرات ضد الإسلام ، وطرق التفادي منها
مارس 3, 2024
حاجتنا إلى الثقة بالله والشعور بالمسئولية
مايو 4, 2024

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

ازدواجية العلم والتربية من أرجحيات الإسلام

المسلمون يشكلون اليوم نحو ربع سكان العالم ، وعندهم إعدادات من العلم والثقافة واسعة ، وهم يملكون حضارةً إنسانيةً عاليةً ، وصناعات وتقنيات لا نظير لها في أي عصر من العصور السابقة ، ولديهم إمكانيات ضخمة من الوسائل والطاقات الكونية ، وهم يملكون مدارس وجامعات ومؤسسات علمية واسعة النطاق قد لا يأتي عليها الحصر ، وعندهم مراكز للعلوم والمعارف وكثرة العاملين في كل مجال من مجالات العلم والدين والآداب والثقافات والمعارف ، ولهم اطلاع واسع على التاريخ العالمي من جميع النواحي . إذا تأملنا نقطة الخلاف في القيادة العالمية التي نالتها خير أمة أخرجت للناس ، وحُرمتها الأمم البائدة ، عرفنا أن أمة الإسلام أخذت زمام هذه القيادة بيدها ، لأنها سلكت الطريق المبين والمعين لها من خلال تعاليم الإسلام وتربية النبي عليه الصلاة والسلام .

وقد تحدث الله سبحانه وتعالى في كتابه عن عبده الخاضع الأواب ، سيدنا داود عليه السلام الذي أعطاه ملكاً واسعاً ، جزاء ذكره المستمر لله تعالى والخضوع لأوامره ، فكان ملكاً خاضعاً خاشعاً أوّاباً لله تعالى ذا قوة في العلم والعمل ، فرضيه الله تعالى وسخّر له الجبال والطير محشورةً كل له أواب ، وشدد ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب ، يقول سبحانه : ( ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِشْرَاقِ. وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ ) [ سورة ص : 16 – 20 ] .

إن قليلاً من التدبر والتأمل في الآيات يعطينا صورةً لعبد من عباد الله الذي اتصل بربه ووثق بوعده وشغل نفسه بذكره ، فأكرمه الله تعالى بالقوة العظيمة في العلم والعمل ، وسخر له الجبال التي تعتبر أقوى قوة على سطح الأرض ، فكانت تسبح لله تعالى معه ليل نهار صباح مساء ، جاء فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : ” أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، ولا يفر إذا لاقى ، وإنه كان أواباً ” .

إن عبد الله داؤد الأواب ما فاز بهذه المكانة العالية من الجمع بين قوة الحكم وجائزة التسخير وعظمة الحكمة وفصل الخطاب ، إلا لأنه اتصل بربه تعالى اتصالاً مباشراً ، وعاش عبداً ذاكراً أواباً ، واستمر في إيثار حب الله تعالى والخضوع أمامه على حب الدنيا وحب الأهل والمال وقوة الملك ، إنه جمع بكل اتزان بين هذه المعطيات كلها ولم يقصر في استخدام قوته العلمية والعملية واستعمال حكمته وفصل خطابه مما له علاقة بداخل المرء بقلبه وعقله وعلمه وذكائه وأدب لسانه وبلاغة كلامه ، وكلما عاش الإنسان مثل هذه العيشة المرضية عند الله تعالى ، استقبلته العزة والقوة والسعادة والعلم في كل مكان ، ومثله يتحلى بتقوى الله ونصر الله ، والتوفيق الكامل من الله تعالى لكل عمل وفي كل مناسبة ، فلا يخشى إلا من الله ، ولا يلين إلا لله ، ولا يعيش إلا لله ، ولا يخاف أي قوة مادية مهما بلغت من القوة آخر مبلغ ، ولا يبالي بأي ملك أو سلطان ، إنما همه الله وحده ، ورضاه وحده ، ونصره وحده .

فإن تبادل العلم والثقافة والتعاون على توسعة هذا المجال من أهم واجبات الحياة الإنسانية ، وبذلك يقدر كل إنسان أن يعرف غاية خلقه ويدرك حقيقة خالقه العظيم الذي خلقه فسواه فعدله ، ويتوصل إلى نتيجة واحدة فقط ، وهي أن الله سبحانه لم يخلقه إلا لكي يعرف ربه ، ويعلم ما يعود عليه من حق عظيم نحو عبادته وطلب مرضاته بصفة مستمرة في جميع الأوقات والحاجات والأنشطة ، وفي كل الأعمال التي لا مناص له منها ، سواء كانت ذات علاقة بذاته أو بعائلته أو أعضاء أسرته ومجتمعه أو بمن تقيد بقيود زائدة لا علاقة لها بالآداب الإنسانية المعلومة .

ومن هنا نال العلم بجميع مراحل التعليم والتعلم ، وتبعته الثقافة بألوانها وأنواعها ، كل عناية وتركيز على جميع المستويات الإنسانية والعالمية ، وأقبل الناس على توسعة نطاق العلم وتوزيعه بين أنواع ودرجات كثيرة ، وإن كان في أول أمره نوعاً واحداً أشار إليه الله سبحانه في أول سورة أنزلها على النبي صلى الله عليه وسلم : ( ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ. خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ. ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ. عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ  يَعْلَمْ ) ، إلا أن قوله تعالى : ( عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) يشير إلى أن هناك علوماً لا نهاية لها ، وقد علمه منها ما قدر عليه أو أراده الله تعالى ، لكي يأخذ منها ما قُدّر له .

وقد صرّح الله سبحانه بأن الإيمان وذكر الله تعالى هما الباب الوحيد الذي يدخل منه الإنسان إلى جو واسع نزيه من الهدوء النفسي ومن الطمأنينة القلبية التي لا ينالها العبد المؤمن إلا بذكر الله ، وأكد أن ذكر الله تعالى هو في الواقع علاج القلوب المريضة وشفاء للروح المتكاسلة في جسم الإنسان .

يقول المفسر سيد قطب ( رحمه الله ) في تفسير هذه الآية في        ” ظلال القرآن ” ( أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ) : ” ذلك لأن الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله ، فيعرفونها ، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها ، لأنها لا تنقل بالكلمات ، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام ، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفرداً بلا أنيس ، فكل ما حوله صديق ، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه .

وليس أشقى على وجه الأرض ممن يُحرمون طمأنينة الأنس إلى الله ، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون ، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربط بما حوله في الله خالق الكون ، ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لِمَ جاء ؟ ولِمَ يذهب ، ولِمَ يعاني ما يعاني في الحياة ، ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيئ خيفةً ، لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيئ في هذا الوجود ، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريداً وحيداً شارداً في فلاة ، وعليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين ” . ( في ظلال القرآن ، سورة الرعد ) .

إننا نشاهد في دنيا الناس أن هناك عدداً هائلاً يملك من كل ثروة نصيباً ، من ثروة العمر والمال والقوة ولكنه يعيش في قلق واضطراب وخوف وحزن وألوان من الهموم ، وكم منهم من يملك مقاليد الحكم والسلطة الواسعة ولكنه يكون محاطاً بأنواع من مخاوف الحروب والمجاعة والخلاف والعداء ، ولا يكاد ينال هدوءاً نفسياً ولا استقراراً على كراسي الأمر والنهي ، بل يتوجس خيفةً من كل ناحية ، رغم أن هناك وسائل كثيرة للعيش الهنيئ في هذه الكرة الأرضية ، ولكنها تبوء بالفشل إذا حان وقت الاستفادة منها .

إن هذا العالم البشري حافل بالآلات والوسائل الغنية ، والناس على اختلاف أجناسهم ومناصبهم يستغلونها  ، وقد يعتزون بتوافرها ، إلا أن ذلك لا يغني عنهم إذا حان وقت الجد والحزم ، فيتأسفون ويعيشون أشقى أيام الحزن والأسف على ما واجهوه من نتائج سيئة لم تكن مرجواً ، وهكذا فإن استعراضاً سريعاً لما يصيب المرء من شقاء ويأس رغم توافر وسائل غنية للعيش السعيد والتمكن منها للحصول على الراحة والهناء ، يقنعنا بأن الطمأنينة القلبية والسلام المطلوب لا يكاد يتحقق إلا بالالتجاء بذكر الله وصبغ الحياة بهذه الصبغة الثابتة الدائمة من الذكر والإيمان بالله وبقدرته الكاملة الدائمة بجميع الحواس الظاهرة والباطنة ، وقضاء كل لمحة من الحياة في ذكره وحبه وزيادة الإيمان الراسخ بأن الكائنات كلها بظواهرها وبواطنها إنما هي مسخرة للخالق العظيم ومدينة للقدرة الخارقة التي لا يتصور عمقها وسعتها أي قوة مهما كانت عظيمةً ، وإن اجتمعت لذلك جميع ما في هذا الكون من عقول وذكاء وفطانة ، لا لذوي العقول فحسب بل لجميع ما في الكون من حاسَّة وحركة وحياة . فإن كثيراً من لحظات الحياة لا يكاد يصمد أمامها إلا من أوتي القوة بذكر الله تعالى رغم ما يملكه من أسباب ووسائل مادية قوية متسعة ، فإنها إذا اتصلت بقوة ذكر الله تعالى تكون أقوى من كل سلاح ومعدات مادية ، ومن ثم يكون هدفنا مزاملة العلم والصناعة مع الذكر والإنابة ، والله سبحانه يقول :

( ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ) .

والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .

سعيد الأعظمي الندوي

21/8/1445هـ

3/3/2024م