ما هو المعيار في تعيين النصاب للزكاة ؟ ( الحلقة الأولى )
أبريل 27, 2024ما هو المعيار في تعيين النصاب للزكاة ؟ ( الحلقة الثانية الأخيرة )
مايو 4, 2024التوجيه الإسلامي :
الوقف الإسلامي لبنة صلبة في البناء الحضاري الإنساني
( الحلقة الثانية الأخيرة )
إعداد : د . محمد شعيب الدين
خامساً – مقاصد الوقف الخيرية والشرعية :
ومن الحقائق الناصعة أن للوقف الإسلامي مقاصد خيريةً وشرعيةً كثيرةً ، وهنا نقف على أهم مقاصده وأهدافه التي شرع الوقف من أجلها ، ومن خلال هذه المقاصد يمكننا استخلاص الجوانب التي رعاها الإسلام من خلال تشريعه للوقف . وأهم مقاصد الوقف تتلخص فيما يأتي :
(1) نيل الأجر والثواب المستمر :
إن أول مقاصد الوقف وأسماها هي نيل الأجر الدائم والثواب المستمر للعباد من حياتهم وبعد مماتهم من خلال امتثال أوامر الله والإنفاق في سبيله ، والتصدق والبذل والعطاء في وجوه البر والخير . وهذا سبيل إلى مرضاة الله ، وطريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار . والوقف نوع من الصدقات والتبرعات الإحسانية والقربات التي يستمر أجرها كصدقة جارية إلى يوم القيامة .
(2) الشكر لنعم الله :
أفضل صور الشكر لنعم الله ما يكون من جنسها ، فشكر نعمة المال يكون بالإنفاق منه ، وشكر نعمة العلم يكون بالتعليم والبيان ، فتحبيس الأموال في سبيل الله هو نوع من الشكر للمنعم المتفضل والاعتراف بنعمته وكرمه وفضله .
(3) التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة :
من أهم مقاصد الوقف هي تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة ، وإيجاد عنصر التوازن بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الإسلامي ، إذ يعمل الوقف على تنظيم الحياة من خلال تأمين حياة كريمة للفقراء ، وإعانة العاجزين من أفراد الأمة ، وحفظ كرامتهم ، من غير مضرة بالأغنياء ، فيتحصل من ذلك المودة والألفة وتسود الأخوة ويعم الأمن والاستقرار . وبذلك يقوي الوقف أواصر المحبة والأخوة الدينية حين يكون الوقف على الذرية أو الأقارب أو أوجه الخير والبر والإحسان حسب أنواع الوقف .
(4) تحقيق الرخاء الاقتصادي :
يضمن الوقف بقاء المال وحمايته ، ودوام الانتفاع به والاستفادة منه أكبر مدة ممكنة ، والمحافظة عليه من أن يبعث به من لا يحسن التصرف فيه ، وهذا من شأنه أن يحقق ويضمن للأمة الإسلامية نوعاً من الرخاء الاقتصادي والضمان المعيشي .
(5) تأمين الاحتياجات الأساسية للمجتمع :
من مقاصد الوقف الأساسية هي تأمين الاحتياجات الأساسية للمجتمع لفئاته المعوزة بصورة مضمونة ومستمرة ، فالصدقات والتبرعات قد تنقضي ، وقد تأتي على المجتمع ظروف تنضب وتقل هذه الصدقات لهيمنة الشح والأنانية أو حدوث كوارث طبيعية ، وكذلك الصدقات ، فهي ولو أنها ذات استمرارية وتجدد ، فقد تصبح في بعض السنين ضئيلة القدر نتيجة اتساع دائرة الفقر ، ويحتمل أن يحدث هكذا في بيت المال ( خزينة الدولة ) ، ففي مثل هذه الحالات تبقى الأموال الوقفية قائمة ومستمرة العطاء ، تؤدي وظيفتها لصالح مستحقيها .
وفي هذا الصدد يكتب الإمام ولي الله المحدث الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة ما يلي : ” ومن التبرعات : الوقف ، وكان أهل الجاهلية لا يعرفونه ، فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ، فإن الإنسان يمكن أن يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى ، فيحتاج أولئك الفقراء تارةً أخرى ، ويجيئ أقوام كثيرة من الفقراء فيبقون محرومين ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيئ حبساً للفقراء وأبناء السبيل ، تصرف عليهم منافعه ويبقى أصله ” .
(6) الشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة :
إن من مقاصد الوقف أنه يحمل الناس ويعودهم على التفكير والتدبير المستقبلين ، والشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال المقبلة ، فالمحبس عادة ما يستحضر – وهو يقرر التحبيس – احتياجات الأجيال القادمة والعصور المقبلة ، والذين يتولون نظارة الأحباس وتدبير شؤونها من واجبهم استحضار ذلك والعمل من أجله ، وبناءً على هذا فالوقف تفكير وتدبير مستقبليان ، المستقبل الأخروي للوقف ، والمستقبل الدنيوي للموقوف عليهم .
(7) تعويد المجتمع على القيام بشؤونه :
فقد أمر الله تعالى وحث على الإنفاق في سبيله وفي سبيل دينه وفي سبيل كل أبواب البر والخير ، ولم يوجه خطابه خاصةً إلى الدولة ومسؤوليها ، بل إلى عموم المسلمين والناس جميعاً . وهذا ما جعل الصحابة رضي الله عنهم يقبلون على الإنفاق ويتنافسون فيه ، وبخاصة الإنفاق بواسطة الوقف حتى لم يبق أحد منهم يستطيع أن يحبس شيئاً إلا حبسه . وهكذا أصبح المجتمع في حاضره ومستقبله . وهكذا أيضاً عرف المجتمع الإسلامي حيوية وفاعلية قل نظيرها في تاريخ الأمم والحضارات ، وقد استمرت هذه الفاعلية والحيوية على مدى قرون قد كان للأحباس والمؤسسات الحبسية أو الوقفية الدور الريادي مما مكن من تشييد الحضارة الإسلامية والأمجاد الإسلامية عبر العصور والدهور .
(8) الحصول على التزكية والتطهير :
إن الوقف الإسلامي هو عامل يدعو الناس إلى تزكية نفوسهم وتطهيرهم ، وذلك بالتخلص من اللهفة على المال ، والهلع من أجله والشح به ، ويعود الناس على السخاء والكرم والبذل والعطاء ، كما قال الله تعالى في شأن الزكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [ التوبة : 103 ] ، فالحصول على تطهير النفوس وتزكيتها من الشح والبخل خصلة حميدة وسامية يتنافس فيها المتنافسون . وهذه المقاصد كما تنطبق في الزكاة كذلك تنطبق على الوقف وعلى غيره من أنواع الإنفاق في سبيل الله .
سادساً – أثر الوقف في خدمة التنمية الاقتصادية :
الأحباس وأموالها وممتلكاتها قد أصبحت مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال تمثل جزءاً كبيراً من الثروة الوطنية ، ومن الحركة الاقتصادية لمعظم البلدان الإسلامية ، وبهذا نستطيع أن نقول بكل صراحة ووضوح : إن الوقف قد أصبح اليوم قوةً اقتصاديةً فاعلةً وثروةً تنمويةً بناءةً . والجزء الأكبر من هذه الثروة قد آل إلى تسيير الدول وإشرافها ، وذلك قبل أن يصبح في العصر الحديث بكل بلد وزارة للأوقاف منذ قرن . فإن هذه القوة الاقتصادية تصبح قابلةً لكي توجه نحو الإسهام في تنمية اقتصادية منسجمة ومتكاملة مع الثروات الوطنية الأخرى ، بحيث لا يخل برسالة الوقف ووظائفه المحددة . وفيما يلي نلقي الضوء على أهم مساهمات الوقف في التنمية الاقتصادية والبناء الحضاري :
(1) أثر الوقف الاقتصادي في تحبيس الأراضي الزراعية :
إن بعض المحبسين السابقين كانت لهم مبادرات رائدة في مجال خدمة التنمية الاقتصادية ، مثل تحبيس أراض زراعية لفائدة الأيتام ليقوموا بزراعتها وأخذ غلتها ، بحيث يعطى كل يتيم مقداراً معيناً من الأرض ، ومنهم من كانوا يحبسون مقادير من الحبوب لاتخاذها بذوراً للفلاحين الذين لا يجدون بذوراً في موسم الزرع ، ثم يعيدونها بعد الحصاد يستفيد منها غيرهم . وعلى الرغم من أن الحبوب تعتبر من المواد الغذائية التي لا تصلح للوقف لكونها تفنى وتستهلك ، فقد أوجد بعض المحبسين تلك الضيعة الذكية لتحبيسها وضمان استمرارها ، ولو أنه استمرار مثلي ، وليس استمراراً عينياً . ومثل هذا يقال في تحبيس النقود وتخصيصها للقروض المحضة أو لقروض المضاربة . وتحبيس النقود على هاتين الصورتين تولد من آراء بعض الفقهاء ، كما وجد رضاء لدى بعض المحبسين .
وقد أصبح تحبيس النقود اليوم ميسوراً وأكثر نفعاً وفاعليةً بفضل الخدمات المصرفية ولتقدم الإمكانيات العلمية والتقنية للضبط والمحاسبة والمتابعة . وقد أصبحت اليوم بعض الجمعيات الخيرية تنشئ صندوقاً خاصاً للقروض . ولا شك أن هذه القروض تكون عرضةً للتناقص المصرفي مع مرور الوقت ، ولكن هذا التناقص تعوضه – وقد تفوته – تحبيسات نقدية يضيعها محبسون جدد أو من خلال أرباح تدرها بعض تلك القروض التي تعطى بهدف المضاربة .
(2) أثر الوقف الاقتصادي في المشاريع الحبسية :
وكذلك تسهم المشاريع الحبسية في تحريك التنمية الاقتصادية ، وذلك حينما يتم بناء مشروع كبير قابل للنمو والتطور شيئاً فشيئاً كان يبدأ مثلاً عبارةً عن مدرسة أو مستشفى أو مسجد جامع ، ثم تقوم حول المشروع الأصلي تجمعات سكينة ومرافق للخدمات العامة مثل دكاكين وفنادق محبسة على المشروع الأصلي بحيث يصبح المشروع ومصانع الحبسي نواة وملتقى لمركز تجاري واسع وكبير ، بل قد يكون نواةً لمدينة من المدن . هذه كلها من الأشكال المباشرة لإسهامات الوقف في التنمية الاقتصادية ، وهي أشكال قابلة للتوسع والتنوع والتطور .
(3) أثر الوقف في إزالة مشكلة الفقر والبطالة :
ولما كان أفراد المجتمع متفاوتين من حيث مستواهم المعيشي بين أغنياء وفقراء وأصحاب دخول متوسطة ، نجد أن الإسلام سعى إلى التقريب بين هذه الفئات ، وتقليل الفوارق الاجتماعية بينها ، فعمل كنظام اقتصادي على تحقيق التكافل الاجتماعي بين طبقاته المختلفة من خلال رعاية الفقراء وذوي الحاجات ، بحيث يتحقق لهم مستوى لائق للمعيشة .
وكان للوقف دور كبير وبارز في تحقيق هذا الهدف العظيم ، حيث شمل أنواعاً متعددةً من وجوه البر اقتضتها ظروف المجتمع المختلفة كالوقف على الأولاد والذريات أو المساكين والمحتاجين أو ابن السبيل المنقطع أو الوقف على المدارس والمساجد والمستشفيات والأراضي والعقارات ، والأوقاف للقروض الحسنة والبيوت الخاصة للفقراء ، والمطاعم التي يوزع فيها الأغذية للمحتاجين ، ووقف بيوت للحجاج بمكة ينزلون فيها أثناء موسم الحج والعمرة ، ووقف الآبار والأنهار ؛ بل إنه شمل أيضاً الوقف على شئون الزواج لمن ضاقت أيديهم عن نفقاته وغير ذلك .
ولا شك أن كل ذلك يحقق تكافلاً اجتماعياً وبناءً حضارياً فريداً من نوعه ؛ لأن أصحاب رؤوس الأموال سخروا هذه الأموال الموقوفة في سدّ حاجات المحتاجين والمعوزين ، فكفوا لهم بذلك حياة سعيدة كريمة ، وحفظوا عليهم إنسانيتهم وعزتهم من إراقة ماء وجوههم في سؤال الناس . وبذلك يكون الإسلام قد أوجد وسيلةً مثلى لعلاج مشكلة من المشاكل الاقتصادية التي تواجه العالم المعاصر ، وهي مشكلة الفقر والبطالة . فشكل الوقف بذلك حلقة من حلقات التكافل والتضامن ، لا سيما وأنه يتميز بدورها المستمر في العطاء والإنفاق ، حيث إن عينه لا تستهلك ويستفاد منها عبر العصور .
(4) أثر الوقف في التداول الاقتصادي :
الوقف الإسلامي بكونه نوعاً من التحويل يمكن الاستفادة منه في تحريك المال وتداوله ، وذلك لأن الأموال المدخرة عند الأغنياء إذا أوقفوها بحيث تستغل استغلالاً تجارياً يدر بربح على الموقوف عليهم ، فإنه بذلك الاستغلال التجاري يتم توجيه جزء من المال إلى السوق التجارية ، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب ، وعندما تحدث الزيادة في الطلب يترتب على ذلك زيادة في الإنتاج لتلبية رغبات الطالبين ، ويسير مع زيادة الإنتاج قلة في التكاليف ، بالإضافة إلى المنافسة التي تتوجه اتجاهين : تنافس على النوعية ، وتنافس على الكمية ، هذا التنافس ينتج عنه إقامة منشآت تجارية من مصانع ، ومستشفيات ، وبالتالي ينشأ سوق عمل لتلبية احتياجات هذه المنشآت التجارية مما يترتب على ذلك تشغيل أيد عاملة في المجتمع تعاني من البطالة وقلة العمل ، وهذه الأيدي العاملة يتحرك في يدها المال ويصبح لديها احتياجات ، فيزيد الطلب على السلع في الأسواق بسبب توافر السيولة النقدية .
(5) أثر الوقف في إنشاء الحركة الاستثمارية الشاملة :
الأوقاف الإسلامية لها أثر كبير في إنشاء الحركة الاستثمارية واستمرارية الطاقة الإنتاجية في التقدم الاقتصادي . ويقول بهذا الأمر الدكتور شوقي : ” شيوع ظاهرة الوقف في المجتمع الإسلامي والتنوع الكبير في الأموال الموقوفة ، والجهات الموقوف عليها ولد حركة استثمارية شاملة من خلال إنشاء الصناعات العديدة وتطويرها التي تخدم أغراض الوقف ، ومن ذلك على سبيل المثال : صناعة السجادة ، وصناعة العطور والبخور . . . هذه الصناعات التي ازدهرت من جراء عملية الوقف وما تولد عنها من صناعات خادمة ومكملة ومن عمل فيها من عمال وفنيين وما تولد عنها من دخول ومرتبات وأثمان كل ذلك يعد إضافات مستمرة إلى الطاقة الإنتاجية والتي تعتبر دعامة لأي تقدم اقتصادي ” .
وبذلك يكون النظام الاقتصادي الإسلامي من تشريعه للوقف قد حقق عنصر التوازن من خلال التوزيع العادل للثروة ، وعمل على إعادة دوران حركة الأموال والنقود بين أيدي الناس . ولكن يجب توجيه أموال الوقف توجيهاً سليماً نحو المشاريع ذات النفع العام وما يحقق مصلح المجتمع بأسره ، فإذا كانت حاجة أمة إلى نوع محدد من المشاريع كالمشاريع الزراعية أو الصناعية أو التجارية ، كان من الواجب أن توجه هذه الأموال إلى الاستثمار في هذه المجالات .
ومن الواقع أن الوقف إذا خرب أو انعدم نفعه ، فإنه يُباع ويحول إلى ما يدر نفعاً ؛ لأن القصد من الوقف هو سدّ حاجات الموقوف عليهم واستغناؤهم ، ومما لاشك فيه أن الوقف لم يحقق هذه الغاية ، فإنه يصبح نوعاً من هدر أموال المسلمين ، والإسلام جاء بخلاف ذلك .
(6) أثر الوقف التعليمي والصحّي في التنمية الاقتصادية :
إن الأوقاف الإسلامية شملت جوانب متعددةً بما فيها التعليم والصحة من خلال وقف المدارس ، ودور التعليم المتنوعة ، والمستشفيات والمستوفات أو الإيقاف عليها .
لم يقتصر أثر الوقف في التعليم عند علم معين ، وإنما شمل أنواعاً مختلفةً من العلوم وألوان المعرفة ، سواء في الجانب الشرعي أو الدنيوي من طب وفلك وجغرافية وغيرها ، مما جعل للوقف دوراً بارزاً في إحداث نهضة علمية شاملة لجميع أنواع المعرفة ، ولقد تنوعت خدمات الوقف لدور التعليم والمتعلمين ، حيث كفلت للمعلمين والمتعلمين شؤون التعليم والإقامة والغذاء والعلاج ، بل وتأمين إقامة يأوي إليها المسافرون لطلب العلم . ويقول الدكتور شوقي دنيا فيه : ” إن الدراسات في هذا الشأن تثبت أن هؤلاء كان وجودهم في ساحة النشاط الاقتصادي للمجتمع الإسلامي ، إذ عملوا تجاراً ، وكتبة ومحاسبين وصيارفة وغير ذلك من المحن التي عرفت في المجتمع ” .
وكذلك تعد التغذية السليمة والمسكن الصحي والنظافة والعلاج عناصر ومقومات للصحة . ولقد عمل الوقف على الاهتمام بهذه العناصر مما كان له الأثر الكبير في التقدم الاقتصادي والتنمية الاقتصادية . حيث كان في المجتمع الإسلامي أوقاف عديدة على المستشفيات والمصحات العامة كفلت لنزلائها العلاج والغذاء . وكل ما يلزمه للمحافظة على صحتهم ووقايتهم من الإصابة بالأمراض .
(7) أثر الأوقاف في الاقتصاد العام :
إن الأوقاف كما لها دور بارز في سدّ حاجات المجتمع ومتطلباته كذلك لها دور في تشييد البناء الحضاري وتكوين البنية الأساسية وتنميتها من خلال الوقف على الطرق والآبار والجسور والقلاع ومحطات المياه وغيرها . ولقد كان للإنفاق على هذه الخدمات المتعددة أثر بارز على الإنفاق العام ، ويبرز هذا الأمر من حيث إنه خفف كثيراً من الضغوط التي يمكن أن تقع على الدولة لتحويل هذه الخدمات المتعددة . وقد تكفل الوقف بالنفقات من خلال وقف عقارات وأراض زراعية يصرف ربحها للمحتاجين في سبيل الله . وهذا في جانب النفقات . أمّا في جانب الإيرادات نجد أن قول القائل بوجوب الزكاة في أموال الوقف حال بلوغها النصاب وكانت وقفاً على قوم بأعيانهم ، يوفر للدولة جانباً من الإيرادات العامة . ولقد أشارت بعض المصادر إلى : ” أن مقدار الجبابة من أراضي الوقف في بعض الجهات كانت وفيرةً ، مما يعكس الإنتاجية المرتفعة لتلك الأراضي ” .
وفي الختام أن مظاهر الوقف في الشريعة الإسلامية تنوعت تنوعاً ملحوظاً كان له الأثر البارز في تشييد البناء الحضاري وتحقيق مصالح الأمة المتعددة في المجتمع الإسلامي عبر العصور . ويعد استثمار الوقف مجالاً من مجالات تحريك الأموال وعدم تركزها في ناحية معينة ، وذلك بتداولها وإعادة توزيعها بين أفراد المجتمع ممن يحسنون استغلالها ، الأمر الذي يعود نفعه على المجتمع ويحقق له النمو الاقتصادي . ويعمل الوقف على تعزيز الموازنة العامة للدولة من خلال تكلفه بكثير من النفقات التي تثقل كواهل الدولة ، ويعد في الوقت نفسه من أهم العوامل التي ترقى بالأمة إلى تقوية البناء الحضاري ، ومسايرة ركب الحضارة والتطور والتقدم .
وإن الوقف الإسلامي بمبادراته وأحكامه ، وبدوره التاريخي الكبير وبإسهاماته الضخمة في تقوية البناء الحضاري وتوطيد العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي ، وتطويره يعتبر رصيداً دينياً وحضارياً هائلاً ، يمكن الاعتماد عليه في تحسين أوضاع المسلمين الاقتصادية اليوم ، والإسهام الفعال في معركة التنمية والنهضة . ولكن ذلك يحتاج إلى عناية خاصة ورعاية متكاملة وإلى تطوير وتمكين تام لكي يأخذ الوقف مكانته ويستأنف رسالته ودوره على نحو أوسع وأجمع مما هو عليه الآن .