فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
مايو 28, 2023
قهر الشعوب بالاتجاه المزدوج
يوليو 28, 2023
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
مايو 28, 2023
قهر الشعوب بالاتجاه المزدوج
يوليو 28, 2023

صور وأوضاع :

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

محمد فرمان الندوي

وصلت الأنباء من قنوات تركيا الرسمية وغير الرسمية ، مبشرةً بهذا الخبر السار أن الرئيس رجب طيب أردوغان قد نال فتحاً مبيناً على منافسه كمال كليجدار في الجولة الثانية من الانتخابات التركية الحالية في 28/ مايو 2023م ، وقد تم الاقتراع وفرز الأصوات في الجولة الأولى قبل ذلك بخمسة عشر يوماً ، فلم يكسب كلا الفريقين الرقم القياسي ، فتقرر أن الثامن والعشرين من شهر مايو 2023م هو التاريخ المحدد للجولة الثانية من الانتخابات ، وما إن جاء هذا اليوم حتى أدلى الناس بأصواتهم ، ومساء ذلك اليوم أعلن بفوز رجب طيب أردوغان رئيساً لتركيا لفترة جديدة ، تمتد حتى عام 2028م ، فاستبشر الإسلاميون في مشارق الأرض ومغاربها ، وطار نوم بعض الجهات الحكومية ، وقد مكروا ، ومكر الله ، والله خير الماكرين .

هذا الفتح الذي حصل للرئيس أردوغان ذكَّرنا بفتح عمورية ، وهي مدينة من أهم المدن الرومية ، وكان فتحها حدثاً تاريخياً ، لا تزال ذكراه في ذاكرة الناس ، فإنه لم يقع فجاءةً ، بل كان هناك اعتداء على امرأة عربية انتهكت حرمتها ، فصرخت صراخاً بلغ صداه إلى خلافة الخليفة العباسي المعتصم ، فاستشار ممن كان معه ، وهم خوَّفوه بتخويفات شديدة وتهديدات مثبطة للعزائم ، واعتبروا فتح عمورية عسير المنال ، لكن المعتصم رغم ذلك جهَّز جيشاً عرمرماً ، وخرج هو نفسه بجحافل كثيرة ، وحاصر المدينة أحد عشر يوماً ، فتم له الفتح في شهر رمضان ، وقد شاهد هذا المنظر الشاعر العباسي أبو تمام حبيب بن أوس الطائي ، فقرض قصيدةً غراء ، لا تزال تُكتب على صفحات التاريخ بماء من الذهب ، قال وهو يهنئ الخليفة المعتصم بهذه الأبيات ، ونحن نهنئ الرئيس التركي رجب أردوغان بها نظراً إلى إنجازاته السابقة لتثبيت دعائم الإسلام ، واستعادة العهد الزاهر لتركيا تأسياً بغيرة الأتراك الغيارى :

أبقيت جدَّ بني الاسلام في صــعد  والمشركين ودار الشرك في صبب

يا يوم وقــــعة عــمـورية انــصــرفت  مــنـــك الـمُنى حفلا معسولة الحلب

فتح الفتوح تـــعالــى أن يـحيــط به  نــظـم من الشعر أو نثر من الخطب

فـتح تـــفـــتــح أبـــواب الـــســماء له وتــبـــرز الأرض في أثــوابـها القشب

رسالة الكفاح والجد والبناء :

الخلافة العثمانية هي الدولة التي قامت بعد تبعثر الدولة العباسية ، وإنشاء الدول الإقليمية التي قامت في مناطق عديدة باسم الإسلام والمسلمين ، وهي تنتمي إلى عثمان الأول بن أرطغرل ، واستمرت إلى ثماني مأة سنة ، وظلت رمزاً كبيراً للقوة الإسلامية ، وكانت دوائرها آسيا وأوربا وإفريقيا ، وقد بلغت ذروتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي ، وكان عدد الدول التي تتشكل منها الخلافة العثمانية 29/ ، فكان ذلك مفخرةً لأهل الإسلام ، يفتخر به القاصي والداني والقريب والبعيد ، حتى كانت لها سطوة وغلبة في العالم الإسلامي ، وقد ظهر في خلفائها السلطان محمد الثاني الفاتح ، فاتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومية ، ولم يتجاوز ثلاثةً وعشرين من عمره ، وكانت رسالته للشباب رسالة الكفاح والجد والبناء ، وُلد في عام 833هـ ، وقد تولى الحكومة في الحادية والعشرين من عمره ، وفتح القسطنطينية بعزيمة صادقة وهمة عالية ، وكان مضرب المثل في الشجاعة النادرة والقوة الخارقة ، وكان مجرد سماع اسمه يثير الرعب والهلع في قلوب أعدائه ، وكان يعيش حياةً بسيطةً ساذجةً ، وكان عدواً للترف والبذخ ، فعاش في جو ، كله نزال ونضال وحرب ، وقد تحققت البشارة النبوية في هذا الملك المغوار ، ما نقله الإمام البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الله بن بشر الخثعمي ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لتفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش ( ورواه أيضاً الإمام أحمد والحاكم والمتقي الهندي في كنز العمال ) ، حكم هذا الفاتح المناضل إحدى وثلاثين سنةً ، وحقق من الأعمال الجسام ، والإنجازات العظام ما يندر نظيره في الخلافات الأخرى ، وتوفي في 886هـ ، وهو في السنة الحادية والخمسين من عمره ، وقد أوصى ابنه قبل موته : ” هأنذا أموت ، ولكني غير آسف ، لأني تارك خلفاً مثلك ، كن صالحاً رحيماً ، وابسط على الرعية حمايتك ، بدون تمييز ، واعمل على نشر الدين الإسلامي ، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض ” ، ( السلطان محمد الفاتح فاتح القسطنطينية وقاهر الروم : 171 ، للأستاذ عبد السلام عبد العزيز فهمي ، دار القلم ، دمشق ، بيروت 1401هـ – 1981م ) .

غير ة الأتراك نحو صيانة الإسلام :

هذا ما سجله التاريخ من روائع هذه الخلافة ، فقد كانت الخلافة العثمانية حاملةً لوسام أمن وعدل وعلامة حب ووئام ، وظلت على هذه السمات إلى آخر زمانها ، ولم يحمل خلفاؤها أدنى ضيم نحو الإسلام والمسلمين ، والجدير بالذكر أن الصهيوني تيودور هرتزل حينما حلم بدولة إسرائيل على أرض القدس ، وحاول لذلك محاولةً شنيعةً مع صديقه نيولنسكي ، وأجرى لقاءات وحوارات ، فقال السلطان عبد الحميد الثاني بكل قوة مخاطباً لنيولنسكي : ” انصح صديقك هرتزل ، ألا يتخذ خطوات جديدةً حول هذا الموضوع ، لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة ، لأنها ليست ملكي ، بل هي ملك شعبي ، وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ، ورووها بدمائهم ، فليحتفظ اليهود بملايينهم ، إذا مزقت دولتي ، فمن الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل ، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتنا ، ولكن لا أوافق على تشريح جثتي ، و أنا على قيد الحياة ” ، وقد استخدم هرتزل وسائل أخرى تحقيقاً لهذا الغرض ، فحصل له الإخفاق ، وأخيراً نجح في تمزيق الدولة العثمانية في دويلات صغيرة ، وإزالة رعبها المخيَّم على أوربا ، فجاء ذلك اليوم المشئوم الذي أعلن عن نهاية الخلافة العثمانية التي كانت في عهد الانحطاط والتمزق علامة للوحدة الإسلامية ، وقد رثى الشاعر سعدي الشيرازي لنهاية الخلافة العباسية ، ونطبق هذا البيت على الخلافة العثمانية منشدين : “

( إذا بكت السماء دماً على زوال الملك المستعصم أمير المؤمنين  لكان ذلك جديراً به ) ” .

مأة عام و بشارة خير :

وبعد نهاية الخلافة قام المتجددون في تركيا ، وساندوا الفكرة الأوروبية ، وذهبوا بهذا البلد الإسلامي إلى العلمانية ، بل إلى الإلحاد والزندقة ، فأول من دعا تركيا إلى سلخها من ماضيها هو ضياء كوك ألب ، وقال بكل وقاحة : الحضارة الغربية هي الحضارة القديمة التي ساهم الأتراك في تكوينها وحراستها ، وقد أتى بعده مصطفى كمال أتاترك ، فإنه أولاً حاز ثقة الناس ، ولقب بالغازي ، لكن سرعان ما انقلب ظهراً لبطن ، وأصبح عميلاً للغرب ، وبدأ ينفذ مشاريع الغرب ومخططاته ، فإنه كما قال المؤرخون : ” قد حطم الأساس الديني ، وغيَّر وجهة نظر الشعب التركي والحكومة التركية ” . ( الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للإمام الندوي : 59 ) .

لكن جذوة الإيمان لا تزال تشتعل في قلوب الناس رغم ركام من الرماد الكثيف ، وقد نفض هذا الغبار الداعية العبقري بديع الزمان النورسي الذي جاهد بقلمه ولسانه جهاداً كبيراً ، فإن رسائله ظلت إكسير الحياة الذي أعاد إلى الأمة التركية قوتها وثقتها ، ثم نشأت أجيال وجماعات بتربية الدعاة والعلماء في العالم الإسلامي ، وبمؤلفات علماء الهند ومفكريها بوجه أخص أمثال الشيخ الإمام أبي الحسن علي الحسن الندوي ، كان على رأسهم السيد نجم الدين أربكان الذي كانت له صلة وطيدة بالإمام الندوي ، وكلما زار الإمام الندوي تركيا حضر لزيارته في مقره ، فإنه أنشأ حزب الرفاه ، وحاول من خلاله إنقاذ تركيا من الإلحاد إلى الإسلام ، وقد انتقل نجم الدين أربكان إلى رحمة الله في 27/ فبراير 2011م ، لكنه خلف وراءه جيلاً إسلامياً يقوده الرئيس طيب أردغان رئيس حزب العدالة والتنمية ، وقد درس الرئيس طيب على الأستاذ يوسف قراجه الندوي الذي تخرج من جامعة ندوة العلماء في الخمسينيات من القرن المنصرم ، وترجم كثيراً من كتب الإمام الندوي والعلامة أبي الأعلى المودودي ، فكانت لهذه الكتب آثار إيجابية على تركيا و أهاليها .

إن الملامح والآثار التي ظهرت بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان تدل دلالةً واضحةً أن المستقبل سيبشر بخير كثير بإذن الله تعالى ، وقد أنقد الله تركيا بعد مأة عام من الكفر والإلحاد بدليل قوله تعالى :       ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) ، فلعل هذه اليقظة مؤشر إلى حياة الأمة الإسلامية بكاملها من جديد نظراً إلى قصة سيدنا عزير عليه السلام الذي أحياه الله بعد مأة عام ، ويحق لنا أن ننشد بلسان الدكتور إقبال : ” سيمنح الله من عنده المؤمن الصادق قوة تركيا السالفة ، وذكاء الهند ، ولسان العرب ” . قال تعالى : ( إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَىِّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ) [ الأنعام : 95 ] .