موقف الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع :

الآراء النقدية للأمراء في العهد الأموي
سبتمبر 12, 2022
صورة الهند
أكتوبر 17, 2022
الآراء النقدية للأمراء في العهد الأموي
سبتمبر 12, 2022
صورة الهند
أكتوبر 17, 2022

من أحاديث الفضائ

دراسات وأبحاث :

موقف الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع :

من أحاديث الفضائل

بقلم : الأستاذ محمد نعمان خليل *

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء ، والمرسلين ، أما بعد :

فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) [ الحجرات : 6 ] .

وروى الإمام مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى 276هـ – رحمه الله تعالى – في مقدمته بسنده المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم   قال : من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين [1] .

ومن المعلوم : أن الإمام البخاري المتوفى 256هـ – رحمه الله    تعالى – قد أورد الأحاديث الصحيحة في جامعه كما هو معروف في  العالم ، واختار لها الشروط بكمال التثبت ، والتحرز ، من لقاء الراوي مع شيخه ، ومع رعاية طول الملازمة مع الشيوخ ، ثم إذا كان  متن الحديث صحيحاً ، لكن سنده لا يكون على معياره ، فتارةً يعلِّقه ، وطوراً يأتي به شاهداً ، أو متابعاً ، وحيناً يخرجه مقروناً بغيره ، أو في الترجمة وغير ذلك ، هذه كلها من الرعاية والاهتمام بأحاديث الأحكام .

وأما أحاديث الفضائل ، فهو يتساهل في بابها أحياناً ، وهذا الشيئ الذي أقرَّ به ، واعترف الحافظ ابن حجر المتوفى  852 –  رحمه الله تعالى – في مقدمة فتح الباري المسمى بهدي الساري ، وصلته ، وعلاقته بعلوم البخاري وجامعه معروف وهوحامل لواء الدفاع عنه دائماً – رحمهما الله تعالى – وسيأتي كلامه في ضمن الأمثلة إن شاء الله تعالى .

ومن المعلوم أن السند خصيصة هذه الأمة المحمدية – على صاحبها ألف ألف تحية وسلام – وهذا السند لا يستغني عنه في أمر من الأمور الدينية سواءً كان متعلقاً بالأحكام ، أو بالفضائل ، أو بالتاريخ ، أو بالتذكرة ، أو بآثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، وبأقاويل الأئمة السلف المتبوعين ، بيد أنه لا يهتم به على حد سواء ، وطريق واحد في الأشياء المذكورة ، بل لكل واحد منها مقام ، وبحسب مقامه يحتاج إلى سنده ، وتصرف الهمم له [2] ، كما نقل الخطيب البغدادي المتوفى  463هـ – رحمه الله تعالى – في كتابه الماتع : الكفاية في علم الرواية عن أحمد بن حنبل المتوفى 241 رحمه الله تعالى بأنه قال : ” إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام ، والسنن ، والأحكام تشددنا في الأسانيد ، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ، ولا يرفعه ، تساهلنا في الأسانيد ” [3] .

ونقل ابن عدي المتوفى 365 في كتابه ” الكامل في ضعفاء  الرجال ” عن يحيى بن معين في ترجمة إدريس بن سنان بأنه قال : ” إدريس ابن سنان يكتب من حديثه الرقاق ” [4] .

ومراد كلام ابن معين : أن إدريس ضعيف في نفسه ، لكن يكتب أحاديثه في الرقاق ؛ لأن الضعف قد يتحمل في الفضائل ، والرقاق منها ، والله أعلم بالصواب .

وقال النووي المتوفى 676هـ رحمه الله تعالى في كتابه النافع        ” الأذكار ” : قال العلماءُ من المحدّثين والفقهاء وغيرهم  : يجوز ويُستحبّ العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً [5] .

وكذلك نُقِل الكلام في هذا الصدد عن بعض  الأئمة الآخرين من الفقهاء والمحدثين ، فليراجع الأفاضل إلى ” حكم العمل بالحديث الضعيف للشيخ محمد عوامه ” حفظه الله تعالى .

وبعد هذا التمهيد اللازم بيانه ، وتقدمة مقصودة ألفت أنظاركم إلى الموضعين أنموذجاً ، لا استقصاءً ، قد أورد الإمام البخاري رحمه الله تعالى فيهما الحديثين بالسند المتصل أصلاً غير متابع ، ولا شاهد ، ولا في ترجمة ، لكن سندهما ضعيف وإن كان غير شديد ، وهما يتعلقان بالفضائل .

الحديث الأول :

قد أخرجه البخاري – رحمه الله تعالى – في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ” تحت كتاب الرقاق ، فقال :

حدثنا  علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي ، عن  سليمان الأعمش ، قال : حدثني مجاهد ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ” . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك [6] .

فيه محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي .

قال الحافظ ابن حجر : ” إنه من شيوخ أحمد بن حنبل ، وثقه ابن المديني .

وقال أبو حاتم : صدوق إلا أنه يهِم أحياناً .

وقال يحيى بن معين : لا بأس به .

وقال أبو زرعة : منكر الحديث ” [7] .

فقال بعد نقل الأقوال : ” له في البخاري ثلاثة أحاديث ” ، وذكر للاثنين منها متابعاً ، ثم قال : ” ثالثها في الرقاق عن علي ، عنه عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما حديث ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ” ، الحديث . فهذا الحديث قد تفرد به الطفاوي ، وهو من غرائب الصحيح ، وكأن البخاري لم يشدد فيه ؛ لكونه من أحاديث الترغيب ، والترهيب ” [8] .

فقوله : ” كأن البخاري لم يشدد فيه ؛ لكونه من أحاديث الترغيب ، والترهيب ” يتندى بأعلى صوت أنه رحمه الله تعالى يقبل الحديث الضعيف ، ويتساهل في الفضائل .

الحديث الثاني :

وقد أخرجه رحمه الله تعالى في باب ” من استعان بالضعفاء تحت كتاب الجهاد والسير : ” حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا محمد بن   طلحة ، عن طلحة ، عن مصعب بن سعد ، قال : رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ” [9] ؟

فيه محمد بن طلحة بن مصرف الكوفي .

وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أقوال الأئمة فيه    فقال :

” قال ابن معين : صالح ، وقال مرةً : ضعيف .

قال العجلي : ثقة إلا أنه سمع من أبيه وهو صغير .

وقال النسائي : ليس بالقوي .

قال أبو داؤد كان يخطئ ، وثقه أحمد بن حنبل قال : إلا أنه لا يكاد يقول حدثنا في شيئ من حديثه .

وقال أبو كامل مظفر بن مدرك كان يقال : ثلاثة يتقى حديثهم : محمد بن طلحة وفليح ابن سليمان ، وأيوب بن عتبة .

قال ابن سعد : كانت له أحاديث منكرة قال : وقال عفان كان يروي عن أبيه ، وأبوه قديم الموت ، وكان الناس كأنهم يكذبونه ” [10] .

فقال بعد نقل الأقوال : ” له في البخاري ثلاثة أحاديث ” ، وذكر للاثنين منها متابعاً وشاهداً ، ثم قال : ” ثالثها في الجهاد عنه ، عن أبيه عن مصعب ، عن أبيه في الانتصار بالضعفاء ، وهو فرد إلا أنه في فضائل الأعمال ” [11] .

والمفهوم من كلام ابن حجر رحمه الله تعالى : ” وهو فرد إلا أنه في فضائل الأعمال ” أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى له موقف في أحاديث الفضائل غير موقفه في أحاديث الأحكام .

ولا يخفى على من له نظرة غائرة في شروط الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع بأن هذا الضعف وإن كان خفيفاً غير    شديد ، لكن بالنظر إلى شروطه وتيقظه ، وتثبته رحمه الله تعالى في كتابه الجامع ، وإيراد مثل هذه الأحاديث فيه : لا يخلو عن أمر مهم ، وإشارة خفية ، ونكتة لطيفة وهو التساهل في أحاديث الفضائل ، وأنه لا يستغنى في باب الفضائل عن الأحاديث الضعيفة ، والله أعلم .

التنبيه :

هذان المثالان يتعلقان بالأحاديث التي أخرجهما الإمام البخاري رحمه الله تعالى بالسند المتصل في أصل الكتاب ، وإن طالب العلم قد بينهما أنموذجاً من لسان ابن حجر – رحمه الله تعالى – مع أن التتبع ينفي الحصر ، وأما التراجم ، والتعليقات ، والتوابع ، والشواهد ، ففيها حظ وافر من الأحاديث الضعيفة كما لا يغيب عن أهل العلم ، والمشتغلين بدرس البخاري سنداً ومتناً .

والله أعلم بالصواب وعلمه أكمل وأتم .


* جامعة العلوم الإسلامية ، كراتشي .

[1] الصحيح للإمام مسلم رحمه الله تعالى ، باب وجوب الرواية عن الثقات و ترك الكاذبين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ج 1 ، ص 22 ، دار المعرفة ، ط 9 ، س 1423 .

[2] انظر التفصيل : الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للكهنوي رحمه الله تعالى ، المتوفى 1304 ، جواب سوال الأول .

[3] الكفاية في علم الرواية ، باب التشدد في أحاديث الأحكام ، والتجوز في فضائل    الأعمال ، ص 124 ، دار الكتب العلمية ، ط 2 ، س 1433 .

[4] الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي المتوفى 365 ، باب من اسمه إدريس ، ج 2 ،         ص 35 ، الرسالة العالمية ، ط 1 ، س 1433 .

[5] الأذكار للنووي ، مقدمة ، ص 8 ، دار الفكر ، بيروت لبنان ، 1414هـ .

[6] الجامع الصحيح  للإمام البخاري ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ” تحت كتاب الرقاق ، ج 3 ، ص 1091 ، دار ابن كثير ،     ط 4 ، س 1410 .

[7] هدى الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر المتوفى ، 852  ، الفصل التاسع ، ص 613 ، دار الكتب العلمية  ، ط 4 ، س 1424 .

[8] هدى الساري ، رقم الصفحة سابقاً .

[9] الجامع الصحيح : باب ” من استعان بالضعفاء تحت كتاب الجهاد والسير ، ج 5 ،         ص 2358 .

[10] هدى الساري ، الفصل التاسع ، ص 615 .

[11] هدى الساري : رقم الصفحة سابقاً .