الجاحظ ومكانته العلمية والأدبية
سبتمبر 12, 2022الآراء النقدية للأمراء في العهد الأموي
سبتمبر 12, 2022دراسات وأبحاث :
المؤرخ ناصر الدين الأسد
ومصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية
الباحث محمد شمشاد عالم الندوي *
قضية الانتحال في الشعر العربي :
أذكر هنا آراء بعض النقاد والعلماء في قضية الانتحال بغاية من الإيجاز ، ابتداءً من محمد ابن سلام الجمحي ، وانتهاءً بالدكتور ناصر الدين الأسد كي نطلع على آرائهم ومدى مرونتهم وشدتهم في هذه القضية حتى تنكشف علينا حقيقة قضية الانتحال .
محمد بن سلام الجمحي :
إنه أول من كتب شيئاً قيماً عن الانتحال في الشعر الجاهلي ، وبذل كل ما كان في وسعه في سبيل تمحيص الشعر الجاهلي ووضعه على المحك كي يبقى ما يبقى على بينة ، فأما الزبد فيذهب جفاءاً .
يذهب ابن سلام إلى أنه لا شك في أن الشعر الجاهلي أصيب بآفة الوضع والنحل ، وكذلك يوجه أصابع الاتهام إلى رواة الشعر أيضاً ، فهو يقول : ” فلما راجعت العرب رواية الشعر ، وذكرَ أيامها ومآثرها ، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم ، وما ذهب من ذكر وقائعهم ، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم ، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار ، فقالوا على ألسن شعرائهم ، ثم كانت الرواة بعد ، فزادوا في الأشعار التي قيلت ” [1] .
ولكنه لا ينكر صحة الشعر الجاهلي على الإطلاق كما فعل مرجليوث وطه حسين .
مرجليوث :
أما الآن فأنا أتطرق إلى آراء مرجليوث التي أسسها لإثبات الوضع والنحل على بعض الأدلة الخارجية والداخلية ، أما الخارجية فهي ثلاثة أدلة .
الأول : غموض اللغة في الشعر قبل الإسلام ونفور الإسلام من الشعر :
فهو يعترف بأن الشعر كان موجوداً في العصر الجاهلي ولكنه لم يكن فصيحاً ، ويرى أن الشعر إذا كان قبل الإسلام بلسان عربي مبين فلماذا قال الله عز وجل عن القرآن الكريم : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) .
الثاني : عدم إمكان حفظ الشعر الجاهلي :
وهو يذهب إلى أنه لا يمكن الإيمان بأن الشعر الجاهلي قد تم حفظه بفصه ونصه ، لأنه لم تكن آنذاك طريقة لحفظ الشعر سوى الرواية الشفهية أو الكتابة ، والرواية الشفهية أكثر من الكتابة .
الثالث : إثارة الشكوك حول الرواة :
ويثير الشكوك في الرواة وإضعاف ثقة الناس بهم كي تضعف ثقتهم بالشعر الجاهلي ، ويذهب إلى أن العلماء الرواة كانوا يتبادلون الاتهام بالنحل والوضع وسوء الحفظ .
وكذلك بنى رأيه على ثلاثة أدلة داخلية أيضاً .
الأول : انتشار الكلمات الدينية في الشعر الجاهلي :
فيتحير عند ما يرى الشعراء في ذلك العصر على نظم أشعار تتفوح منها رائحة التوحيد وعبادة الله وحده ، وكذلك يعترض على الكلمات القرآنية التي وجدت في الشعر الجاهلي من أمثال الركوع و السجود والجحيم والمحشر والدنيا .
الثاني : عدم اختلاف لغة الشعر الجاهلي :
هو يرى أن القرآن الكريم – لا شك – قام بتوحيد لغاتهم وصفوفهم ، ولكن كيف يمكن أن تتوحد لغاتهم وتنسجم قبل نزول القرآن الكريم .
الثالث : انسجام موضوعات القصائد الجاهلية :
هو يبدي اعتراضه على أن الشعراء في العصر الجاهلي كيف اتفقوا على أن يبدأوا مطالع قصائدهم بموضوعات مماثلة وواحدة [2] .
الدكتور طه حسين :
لا يخفى على أحد أن الدكتور طه حسين انحرف مراراً وتكراراً من المسار الأدبي الصحيح والسليم ، فمن آرائه الجائرة أنه ينكر تقريباً صحة الشعر الجاهلي ، وحذا في هذا المجال حذو المستشرق مرجليوث .
وهناك دوافع دفعت الدكتور طه حسين على الشك في الشعر الجاهلي ، الأول هو أن الشعر الجاهلي لا يمثِّل الحياة الدينية والعقلية والاقتصادية .
والثاني هو أن اللغة تتغير جراء البعد الكثير من الزمان والمكان . ولكن أهلها كيف نظموا أشعارهم ولغاتهم وكلماتهم مماثلةً ومتشابهةً تماماً .
والثالث أن الفرق بين اللهجات كان موجوداً عندهم ، فكيف اتفق أن أشعارهم جاءت على البحر العروضي الواحد وقواعد القوافي المماثلة والألفاظ المتشابهة المعاني .
والرابع هو أنه أشار إلى أن العلماء اقترفوا الوضع في الشعر الجاهلي إذا لم يجدوا طريقاً غير ذلك لتعزيز آرائهم ومذاهبهم الكلامية حسب أهوائهم .
والدافع الخامس هو أن طه حسين والمستشرقين من أمثال مرجليوث لا يثقون بالعلماء الذين قاموا برواية الشعر الجاهلي .
” مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ” وتفنيد آراء مدعي الانتحال :
قام الدكتور ناصر الدين الأسد بدراسة شاملة للشعر الجاهلي بل الأشعار العربية إلى القرن الثالث الهجري ، ودقق النظر في روايات جميع العلماء الرواة وعرضها على المحك يعني وضعها على قواعد الجرح والتعديل ثم وضع لمسةً نهائيةً لكتابه ” مصادر الشعر الجاهلي وقيمته التاريخية ” .
هو يكتب مشيراً إلى أهمية هذا الكتاب : ” وكل دراسة قبل هذه إنما هي تجاوز عن الأصل الأول الذي لابد من البدء به ، وأحسب أن كثيراً من الخطأ الذي وقع فيه من ضعفوا وسيلة حفظ هذا التراث الخالد ، ووهنوا طريقة نقله وروايته ، إنما أتوا من هذا التجاوز والإغفال لنقطة البدء الصحيحة ” [3] .
حقيقة الانتحال عند الدكتور ناصر الدين الأسد :
إن موقف الدكتور ناصر الدين الأسد من قضية الانتحال موقف واضح جداً ، فعنده الانتحال لا يقتصر على الشعر فحسب بل أيضاً يعتري جميع أصناف الأدب ، يقول : ” ولم يكن الوضع أو النحل أو الانتحال مقصوراً على الشعر وحده ، بل لقد شمل كل ما يمتُّ إلى الأدب بسبب : كالنسب والأخبار منذ الجاهلية نفسها ” [4] .
وكذلك يؤمن الدكتور ناصر الدين أن الشك ليس قائماً في الشعر الجاهلي ، وذلك لأن العلماء الرواة قد فرزوا الأشعار المنحولة من الصحيحة . فهو يكتب : ” ولم يكن أمر الوضع والنحل في الشعر الجاهلي ليخفى على الرواة العلماء ، فقد تنبه له كثيرون منهم ، بل قلما نجد رواية عالم من القرن الثاني والقرن الثالث لا تذكر لنا الأخبار المروية عنه أنه نص نصاً صريحاً على أن بيتاً أو أبياتاً بعينها موضوعة منحولة ” [5] .
إثبات الكتابة والقراءة في العصر الجاهلي :
يعرف العارفون بأنه كان في الجاهلية عدد كبير من الناس يعلم الكتابة والقراءة ، ويعرف العارفون أن أحد بني أعمام خديجة رضي الله عنها ورقة بن نوفل ، وهو الذي كان يعرف الكتابة والقراءة . وهناك كثير من الوقائع تدل على أن العصر الجاهلي كان يحظى بعدد كبير من الرجال الكتاب والقراء . فهو يكتب : ” وكما كانت الكتابة في الجاهلية تدرس وتعلم في الكتاب ، كانت للعلم مجالس تعقد فتتدارس فيها الأخبار والأشعار والأنساب . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : ” كانت قريش تألف منزل أبي رضي الله عنه لخصلتين : العلم والطعام ، فلما أسلم أسلم عامة من كان مجالسه ” [6] .
الرد على ” الرواة ونحل الشعر ” :
إن طه حسين وأساتذته من المستشرقين لم يدخروا وسعاً في إثبات أن معظم الشعر الجاهلي قد تم قرضه بعد الإسلام ، فنظراً إلى ذلك هم اتهموا العلماء الرواة الذين يعتبرون ركيزة أولى لصرح الشعر الجاهلي بأنهم كانوا منحازين وتأثروا بملابساتهم ، فالرواة العرب تأثروا بمن حولهم والرواة من الموالي تأثروا بخلفياتهم وانتحلوا الأشعار حسب الضرورة ، كما هو يدعي أن الرواة كانوا يتبادلون التهم ، فكيف يمكن أن الأشعار التي رووها صحيحة غير منتحلة .
ولكن الدكتور ناصر الدين الأسد يؤمن بأن كل ذلك كان من أجل المعاصرة ، ولم يكن شيئاً فوق ذلك . فهو يكتب استناداً إلى الأستاذ محمد لطفي جمعة : ” وإن كان بعض المتعاصرين والأنداد طعن بعضهم في بعض ، فليس في الطعن حجة أو دليل على صحة التهمة ، لأن اتحاد الحرفة والمنافسة في الشهرة والمزاحمة على نيل الحظوة قد تدفع بعض الرواة إلى الحسد والعبرة ، ولهذا قال الأقدمون ” إن المعاصرة حجاب ” حتى إن رواة ثقاتاً كالأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد كانوا يتطاعنون ويضعف كل منهم رواية صاحبه ، ولكن المحققين ينزهونهم عن الكذب ” [7] .
الرد على ” السياسة ” :
عقد الدكتور طه حسين فصلاً عنونه ” السياسة وانتحال الشعر ” ولكن لم يذكر أي بيت من الأبيات العربية يدل على أنه تم قرضه بناءً على السياسة والعصبية ، مع أنه إذا ادعى كان عليه أن يقدم البينة لأن الدليل على من ادعى . ولذلك يرد عليه الدكتور ناصر الدين استناداً إلى الأستاذ محمد لطفي جمعة : ” وقد سوَّد المؤلف ( طه حسين ) تسع صفحات في هذه المسألة وحدها ( يقصد المهاجاة بين الأنصار وقريش ) وعنوان الفصل ” السياسة وانتحال الشعر ” اسم فخم وعنوان ضخم ، ولكن اللب منعدم والمقصد غامض ، أين السياسة من بحثه وأين الشعر المنتحل ومن واضع الشعر المحمول ” [8] ؟
الرد على ” سبب الدين ” :
وادعى الدكتور طه حسين أن الدين أدى دوراً مهماً في الانتحال في الشعر الجاهلي ، ويرجع سببه إلى الأشعار التي نظمت عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأبيات التي فرضت عن إثبات وجود الجن ، والأبيات التي ذكرها العلماء المفسرون .
ويدعي الدكتور طه حسين أن هذه الأبيات لم تقرض إلا بعد الإسلام ، واتهم العلماء المفسرين بأنهم وضعوا أبياتاً ونسبوها إلى الشعراء الجاهليين كي يستشهدوا بها على كل كلمة قرآنية لإثبات أن جميع كلمات القرآن الكريم عربية بلا شك . يكتب الدكتور ناصرالدين الأسد رداً عليه نقلاً عن الأستاذ الشيخ الخضري : ” وهذه الجملة فيها غلو وفيها خطأ : أما الغلو ففي قوله إنهم استشهدوا على كل كلمة منه ، بين أيدينا التفسيران الكبيران اللذان عنيا بهذا الاستشهاد أتم عناية ، وهما تفسير الإمام الكبير أبي جعفر الطبري وتفسير الكاتب العظيم أبي عمر الزمخشري ، ومع ما فيها من الشواهد الكثيرة ، فإن ادعاء الاستشهاد على كل كلمة لا يؤيده الواقع ” [9] .
ثم هو يكتب نقلاً عنه : ” وليس الاستشهاد لإثبات عربية القرآن كما يزعم ، وإنما هو لبيان مفهوم الكلمات التي يعدها الناس أحياناً غريبةً ” [10] .
الرد على ” القصص ونحل الشعر ” :
ادعى الدكتور طه حسين في كتابه ” في الشعر الجاهلي ” أن القصاصين أخذوا نصيب الأسد في ترويج وباء الانتحال في الشعر الجاهلي ، وهو أن القصاصين كانوا يسردون القصص للناس شفوياً وتحريرياً ، وإذا وجدوا أن عدد المستمعين إليهم يقل يوماً فيوماً ، وأن حالتهم في تدهور ، وتجارتهم ستركد استعانوا بشعراء مهرة فوضعوا لهم أبياتاً ونسبوها إلى الزمان الذي تتعلق به القصص كي لا يشك أحد أن الشعر قد قرض حالياً . ولكن الدكتور ناصر الدين نفى ذلك مدعياً أنه لم يكن ذلك على المستوى الكبير ، وبل وقع على صعيد غير واسع تنبه له العلماء النقاد وقاموا يفرزونها عن الأبيات الصحيحة .
يرد على ادعائه استناداً إلى الشيخ محمد الخضري : ” وهذا هو الذي نريد أن نقوله ، وهو أن النقاد في العصور الماضية لم يقصروا في تمييز طيب الشعر من خبيثه ، وقد عبدوا الطريق لمن يخلفهم حتى لا يزعجهم كذب كاذب ، أو تلفيق ملفِّق ، فيرفضون جميع ما روي من الشعر ، كما فعل مؤلف الشعر الجاهلي ، بل يتبعون سيرة أولئك الأسلاف في النقد الأدبي الذي أساسه الرواية والدراية ” [11] .
الرد على ” الشعوبية ونحل الشعر ” :
أثار الدكتور طه حسين قضية الشعوبية ، وادعى أنها أبلت بلاءً حسناً في تعميم آفة الانتحال في الشعر الجاهلي ، ولكنه أخفق في تقديم أي مثال يشير إلى أن الشعوبية أدت إلى الانتحال .
فيكتب الدكتور ناصرالدين رداً عليه نقلاً عن السيد محمد الخضر الحسين : ” وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال الشعر ، ولكنه لم يستطع أن يضرب مثلاً يريك كيف انتحلت الشعوبية شعراً جاهلياً ” [12] .
وبالجملة ، من يدرس بعض كتب ناصر الدين الأسد وخاصةً كتابه ” مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها الأدبية ” يتأكد أنه من رواد نقاد هذا العصر ، والذي وقف جل حياته لخدمة اللغة العربية والدفاع عن هويتها وتاريخها . فإنه أجاد في الرد على آراء طه حسين وأمثاله من مدعي الانتحال ، وأبدى في كتابه ” مصادر الشعر الجاهلي ” الحقائق ، وأثبت بالدلائل القاطعة أن الشعر الجاهلي ليس هو وليد العصر العباسي كما اعتقد بعض الأدباء المتنورين ، بل هو جاهلي يسمي نفسه .
* دهلي ، الهند .
[1] الأسد : الدكتور ناصر الدين ، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الخامسة ، 1978م ، ص 346 ، نقلاً عن طبقات فحول الشعراء : ص 39 – 40 ، لمحمد ابن سلام الجمحي .
[2] للتفصيل راجع الفصل الثالث لمصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الخامسة ، 1978م .
[3] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية .
[4] الأسد : الدكتور ناصر الدين ، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الخامسة ، 1978م ، ص ٣٢١ .
[5] نفس المصدر ، ٣٢٥ .
[6] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية .
[7] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، ص ٤٢٨ .
[8] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، ص ٤٢2 .
[9] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، ص ٤٢5 .
[10] نفس المصدر .
[11] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، ص ٤٢6 .
[12] مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، ص ٤٢6 .