ميزان الله عصمة من الضياع
أغسطس 28, 2022تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية
أكتوبر 17, 2022التوجيه الإسلامي :
الصراع بين الحق والباطل
في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة
( الحلقة الثانية )
بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
صاحب الجنتين :
ذكر الله تعالى في سورة الكهف قصة رجلين : كان أحدهما يؤمن بالله تعالى ، ويشكره على نعمائه ، وثانيهما كان يعيش في مجتمع مسلم ، ولمّا يدخل الإيمان في قلبه ، ولم يظهر أثره عليه ، فحينما غرس جنته وآتت أكلها ، فظن أنه كان نتيجةً لجهوده ومساعيه وتدابيره التي بذلها ، وقد قال له صاحبه : إن فكرته هذه تخالف الإيمان بالله ، لكنه لم يعترف به ، فأراه الله تعالى نتيجةً لذلك وقال : إنك إذا ظننت أن ما أوتيت من المال إنما أنتجه جهدك ، وأنت تدعي أنك تفعل ما تشاء من سعيك ، فاعلم أن ما تملك من الجنات والزرع ليس بخارج من قدرة الله تعالى ، فإن الله هو الفاعل الحقيقي في الأمور كلها ، فإذا أراد أن يحوّل جنات خضراء إلى ذرات يابسة فعلها حتى تذروها الرياح .
ما شاء الله :
أمر الله تعالى في القرآن الكريم في ضوء هذه القصة المؤمنين بأن يقولوا : ما شاء الله ، وهي دليل على أن الله الولي الحقيقي ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا نعلم عن المستقبل شيئاً ، وكل ما يكون في المستقبل قد قرره الله تعالى من قبل ، فلا بد أن ننسب كل شيئ إلى الله ، ونبدي هذه الحقيقة أن الله تعالى إذا شاء وقع ذلك الأمر ، وإذا شاء حصل لنا نجاح ، ونحن بجهودنا ومساعينا لسنا بشيئ ، وهذا هو شأن المؤمن أن تكون هواه تبعاً لما أمر الله به ، وليعتقد في كل شيئ أن الله إذا رضي بشيئ تحقق ذلك ، ونحن عباده مكلفون لكل ما أمرنا الله به ، هذه هي خلاصة الحياة الإيمانية أيضاً وهي أن لا يعتقد الإنسان سعيه أساساً لنجاحه ، بل يربطه بمشيئة الله ، وبما أن أمر الله ليس واضحاً أمامنا ، وهو بالغيب ، الذي يقع في المستقبل ، ولا يعلمه إلا الله ، فلا بد أن نقول عن كل شيئ في المستقبل : إذا شاء الله كان ، أو إذا قضى الله كان ، وجميع أمورنا تابعة لقضائه .
قصة موسى والخضر عليهما السلام :
مرةً سأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام : من أعلم الناس ؟ فظن موسى عليه السلام أن الله تعالى بعثه نبياً ، وأنزل عليه الوحي ، فمن يكون أعلم منه للشريعة الإلهية ، ومن يكون أكثر اطلاعاً عليها منه ؟ فأجاب موسى عليه السلام : أنا ، لم يرض الله تعالى بجواب موسى هذا ، وقال له : هناك أعلم الناس منك يا موسى ؟ ، فاذهب إلى مجمع البحرين ، تجد رجلاً أعلم منك ، فأخبره الله بعلامات لازمة للخضر عليه السلام ، وقال له : ضع في مزودك حوتاً ، فإذا غاب هذا الحوت في موضع ، وجدت هناك الخضر ، خرج موسى عليه السلام مع فتاه يوشع بن النون لزيارة الخضر ، فإن الموضع الذي يرجى فيه لقاء الخضر عليه السلام كان صخرةً ، لكن موسى عليه السلام جاوز هذه الصخرة ماشياً ، ولم يخطر بباله ، وقد وثب الحوت عند الصخرة في الماء ، ورأى ذلك فتاه ، لكنه نسي ، فلما وجدا في سفرهما نصباً ورهقاً ، شعر موسى عليه السلام بالجوع ، وطلب من فتاه الطعام ، ولم يكن موجوداً معه ، فقال له فتاه : قد وثب الحوت عند الصخرة ، وقد أنسانيه الشيطان ، فقال موسى عليه السلام : ذلك ما كنا نبغي ، وقد جاوزنا غايتنا التي سافرنا لأجلها ، فرجعا على آثارهما قصصاً .
يتجلى من ظاهر القصة أن الحوت الذي حمله موسى عليه السلام لم يكن حياً ، بل كان مشوياً ، أو أن هناك عدة حيتان ، بعضها للأكل ، وبعضها للعلامة ، رجع موسى عليه السلام إلى الصخرة ، فزار الخضر عليه السلام ، فتعارف كل واحد منهما ، وقال موسى عليه السلام : جئنا إليك لنعرف العلم الذي أكرمك الله تعالى به ، ونستفيد منه ، فقال الخضر عليه السلام : امش معي ، ولا تسأل عن شيئ أقوم به خلال السفر ، بل كن صابراً وهادئاً .
سفينة الملاح :
فانطلقا إلى جهة كان في طريقها بحر ، فركبا سفينةً ، كانت لبعض الفقراء والمساكين ، وكانت هذه السفينة بُلغة عيشهم ، وكانت جديدةً ، لكن الملاح أركبهما بدون أجرة ، ظنا منهما رجلين كريمين ، فلما جلسا على السفينة خرق الخضر عليه السلام بعض ألواح السفينة ، وأصبحت السفينة ذات عيب ، فقال موسى عليه السلام للخضر : لقد أتيت بعجب عجاب ، إن صاحب السفينة قد عامل معنا معاملةً حسنةً ، لكنك خرقت سفينته ؟ فقال الخضر عليه السلام : إنك لا تستطيع معي صبراً ، لا تسألني عن شيئ ، بل انظر إلى كل ما أفعل .
قتل الغلام الصغير :
فانطلقا ، فمرا بصبيان كانوا يلعبون ، دعا الخضر عليه السلام واحداً منهم ، وقتله ، فمات ، وكان موسى عليه السلام رجلاً ذا هيبة ، فلم يصبر على ذلك ، وقال للخضر : أقتلت نفساً زكيةً بغير نفس ، لقد جئت شيئاً إمراً ، فرد عليه الخضر : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ قال موسى عليه السلام : أجل ، إن سألتك عن شيئ فلا تصاحبني ، قد بلغت من لدني عذراً .
إقامة الجدار :
فانطلقا ، حتى أتيا قريةً ، وشعرا بالجوع ، ولم يكن هناك مطعم يأكلان منه ، وكان من عادة ذلك الزمان أن الضيوف إذا وصلوا إلى قرية ، كان من واجب أهالي القرية استضافتهم ، وتعتبر الاستضافة والقرى واجباً إنسانياً ، لكن لم يسألهما واحد من أهالي القرية ، فجلسا في موضع ، وأثناء ذلك رأى الخضر عليه السلام جداراً يريد أن ينقض ، فأقامه ، وصانه من الضياع والانهيار ، فقال موسى عليه السلام : هذا أمر عجيب ، لم يسأل سكان هذه القرية عن ضيافتنا ، لكنك أحسنت إليهم بإقامة جدارهم ، لو شئت لاتخذت عليه أجراً ، فأجاب الخضر عليه السلام لموسى : لا يمكن أن تُدرك هذا الواقع ، ولن تستطيع معي صبراً ، وسأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً .
حكمة هذه القصص الثلاث :
قال الخضر عليه السلام : أما السفينة التي خرقنا أحد ألواحها فذاك أنه هناك ملك يأخذ كل سفينة جديدة غصباً ، وبما أن هذه السفينة كانت لهؤلاء الفقراء والمساكين ، فكان يخشى أن يأخذها الملك ، فخرقنا فيها لئلا يأخذها عُمال الملك ، وقد ألهم الله تعالى في قلبي لتفادي هذه السفينة من الأيدي الآثمة .
ثم قال : أما الغلام فكان في قضاء الله تعالى وقدره سيئاً ، وإذا كان شاباً شكل خطراً على أبويه ، فأماته الله بيدي ، قبل أن يكون خطراً على والديه ، وكان والداه صالحين ، فكان صلاحهما سبباً لصيانتهما من هذه المصيبة ، ولعل الله يبدلهما خيراً منه زكاةً وأقرب رحماً .
هذه القصة تدل على أن الإنسان إذا كان صالحاً في نفسه ، ويعتبر عند الله صالحاً ، صانه الله تعالى من مصايبه ، ووقاه من الآفات ما لم يكن في الحسبان ، فلا بد من أن ينسب الإنسان كل شيئ إلى الله تعالى ، والخطأ كل الخطأ أن ينسب الإنسان النجاح إلى نفسه ، ويربطه بعلمه وتجربته ، ويقول : هذا مما أوتيته على علم عندي ، أو حصل لي ذلك صدفة ، الواقع أن كل شيئ يرتبط بالله تعالى ، فهو يراه ويراقبه ، ولا يقع إلا بإذنه ، فيتعجب الإنسان في كثير من المناسبات : كيف وقع ذلك ، ولا يكون ذلك في عامة الأحوال ، بل في مناسبات خاصة ، لكنه رغم ذلك كله يعتبره صدفة ، وقد تكون عناية الله بتبديل نظام الكون ، مثلاً يسيل الماء من الأعلى إلى الأسفل ، وهذا هو المعتاد ، لكن يمكن أيضاً أن الماء إذا سال من الأعلى صُرفت جهته إلى جهة أخرى ، فسال إلى تلك الجهة .
وذكر الخضر عليه السلام تأويل القصة الثالثة أن الجدار الذي أقمناه كان لرجال صالحين ، وقد انتقلوا إلى رحمة الله تعالى ، وكان لهم غلامان يتيمان ، وكان تحت الجدار كنز دفين ، وضعه أبواه لينتفع به أولادهما في حياتهما ، فإذا سقط الجدار انكشف الكنز ، وغصبه الناس ، فلا بد من إقامة جدار عليه ، فأراد الله أن يبلغ هذا الغلامان أشدهما ، ويستخرجا كنزهما رحمةً من الله تعالى .
لم يكن في قديم الزمان نظام البنوك ، فكان الناس يكنزون كنوزهم في الأرض ، ويجعلون لها علامةً ، يكتشفون بها وقت الحاجة ، فيمكن أن الموضع الذي دفن فيه الكنز كان يعرف الغلامان علامته .
غاية القصص الثلاث :
ذكر الله تعالى هذه القصص الثلاث في القرآن الكريم للناس كنماذج حية ، ليعرفوا أن الله لم يترك هذا الكون بعد ما خلقه ، بل يأتي فيه بأحوال وأمور حسب سلوكيات الناس ، ويأتي فيها العذاب من الله ، لكن من الأسف أن العذاب إذا نزل جعل الإنسان يؤول تأويلات ، ويعتقد أنه نزل فجاءةً لسبب مادي ، ورغم أنه يكون عذاباً ، وعقاباً من الله تعالى ، أو يكون صورةً من الله تثبت للإنسان أنه يقوم بتأويل مادي ، ويرجعه إلى ظاهرة كونية ، وهو غلط فاحش ، الواقع أن الكون كله بيد الله ، ألا له الخلق والأمر ، إذا شاء أطلق هذا النظام ، وإذا شاء أمسكه ، وقرر هذا النظام من قبل ، وأخبر بأن كل شيئ عنده بمقدار ، ولا بد من الاعتناء بهذا الجانب لأن الله لم يترك هذا النظام مستنداً إلى الوسائل ، بل أمسكه بيده ، وهو يراقب كل شيئ ، ويبدل في النظام كيفما شاء ، هذا هو السبب فيما إذا وضع الله تغيراً في نظامه .
عبرة لمن اعتبر :
يجري هذا النظام الإلهي تكوينياً ، ولكنه يغير الله تعالى فيه أحياناً كما ثبت من قصة موسى والخضر عليهما السلام ، تثبت هذه القصة أن كل ما يكون في هذا الكون يكون بأمر الله تعالى ، وأحياناً يقع فيه تغير بإذن منه ، وهذا التغير إما يكون عقاباً كما كان قتل الغلام بيد الخضر عليه السلام ، وإما يكون إنعاماً على الإنسان كما كانت إقامة جدار اليتيمين .
هذه القصص الثلاث ذات عبر وبصاير ، يتجلى من القصتين الأوليين عقاب من الله ، لكنه في الواقع فضل الله تعالى ، يبين أن الإنسان يكون دائماً في مراقبة الله تعالى ، إذا صدر منه أدنى خيانة أثر ذلك أيما تأثير ، وإذا أثار عمله غضب الله أنزل عليه عقاباً من عنده ، أو إذا رضي بعمل منه أكرمه برحمة منه وفضل ، فأولياء الله المخلصون إذا أصابهم هم أو حزن لا يشكون ، بل يقولون : زادنا الله مكانةً وأجراً بهذه المصيبة .
حكومة ذي القرنين :
ذكر الله في نهاية سورة الكهف قصة ذي القرنين ، من كان ذا القرنين ؟ وفي أي زمن كان ، اختلفت فيه آراء المفسرين ، وليس أسلوب القرآن أن يتعرض لبيانها ، إنه يتناول فيه ما يكون عبرةً ونصيحةً للإنسان ، ذكر القرآن الكريم أن ذا القرنين طاف العالم كله ، من الشرق إلى الغرب ، وقد وجد خلال سفره قوماً فقال الله لذي القرنين : إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً ، فقال : أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً ، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يسراً .
عرض الله تعالى في قصة ذي القرنين مثالاً للحكومة الإسلامية ، إذا حصلت لإنسان حكومة ، فكيف يعامل الناس ، وما هي مسئولياته التي تعود عليه نحو رعيته ، وما هي أساليب حكومته ، فلا بد له أن يراعي حقوق جميع رعاياه ، ويزيل عنهم العقبات والعوائق ، ويرفع منهم مشكلاتهم .