دراسة لفلسفة الفقر في ضوء شعر محمد إقبال
نوفمبر 3, 2021دور خريجي دار العلوم لندوة العلماء في اللسانيات العربية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
نوفمبر 3, 2021دراسات وابحاث :
أسلوب المتنبي وخصائصه
د . سبحان عالم خان الندوي *
الأسلوب هو الطريقة التي يصوغ فيها الأديب أفكاره ويفصح بها عما يجول في نفسه من العواطف والانطباعات والمشاعر ، سواء أكانت تلك الطريقة نثراً أم شعراً ، فهو بذلك وسيلة لإبراز الأفكار والتعبير عن العواطف والمشاعر .
ولكن اللغة ليست وسيلةً من وسائل التعبير عن أفكار الإنسان وأحاسيسه فحسب ؛ بل إن اللغات الحية تتضمن إلى جانب الإفادة ، خصائص جمالية تستروحها النفوس وتطمئن إليها الأذن ، وتسمو بها اللغة إلى مستوى الفنون الجميلة ، حتى تصير اللغة مظهراً من مظاهر الجمال ، كالرسم والنقش والتصوير والموسيقي وما شابه ذلك من سائر الفنون الجميلة .
العصر الذي عاش فيه المتنبي :
الأدب مرآة تعكس صورة الحياة السياسية والاجتماعية ، ويعتبر أدب المتنبي مثالاً حياً لذلك ، وصورةً بارزةً للحياة الفكرية والأدبية في عصره الذي عاش فيه ، حيث عاش المتنبي في بدايات القرن الرابع الهجري في الدولة العباسية ، فعاصر تفكك الدولة وتقسيمها إلى عدة دويلات ، وكانت بغداد مركزاً للخلافة العباسية ، غير أن السلطة الحقيقية كانت في أيدي عدد من الوزراء وقادة الجيوش من أصول غير عربية ، فسيطروا على البلاد والعباد ، فتحركت الفتن الداخلية ، وتعددت المذاهب فظهرت الثورات ، مثل الثورة القرامطية التي انضم إليها الكثير من أهل البصرة والكوفة بالإضافة إلى تعرض البلاد لغزو الروم في الشمال ، الذين تصدى لهم الحمدانيون ، بقيادة سيف الدولة الحمداني أمير حلب ، ويجدر بالذكر أن إمارته هي الإمارة الوحيدة التي ظلت تحت سيطرة العرب ، بعد أن سيطر الأعاجم على باقي الدويلات ، وقد عُرف الحمداني بشجاعته وحنكته السياسية ، وخلد المتنبي انتصاراته في حروبه مع الروم ، واعتبر شعره سجلاً تاريخياً لأحداث هذه الحروب .
نتيجةً للأحوال السياسية التي مر بها العصر العباسي ، تأثرت الحياة الاجتماعية ، ونشأت في المجتمع عدة طبقات ، هي : الطبقة العليا متمثلة بالخلفاء والوزراء وحاشيتهم وطبقة الإقطاعيين متمثلة بقيادة الجند ، وموظفي الدوواوين ، وكبار التجار ، والصناع ، والطبقة الدنيا ، وهي طبقة العامة ، المتمثلة بالمزارعين ، والحرفين ، والخدم والعبيد ، وكانت الطبقة الأولى والثانية تعيشان في القصور في رغد من العيش ، بينما الطبقة الثالثة كانت تكابد الفقر ، والظلم ، والاستبداد ، ورغم هذا الاضطراب في الأحوال السياسية والاجتماعية في ذلك العصر كانت الحركة الفكرية تشهد نشاطاً منقطع النظير ، فقد تعددت الثقافات ، وتنوعت الفلسفات ، نتيجةً لامتزاج العنصر العربي بغيره من العناصر الأجنبية الأخرى ، الأمر الذي أدى إلى امتزاج الثقافات ، فظهرت حركة الترجمة ، وامتزجت الحكمة اليونانية والفارسية والهندية بالحكمة عند العرب ، وقد تأثر المتنبي بهذا الازدهار الفكري ، لاسيما وهو يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء ، والفصاحة ، والبلاغة ، وقوة التعبير ، فتفرد عن سائر شعراء عصره بالحكمة والفلسفة التي امتلأ بها شعره .
أسلوب المتنبي :
اختلف النقاد في كلام المتنبي وأسلوبه اختلافاً كبيراً ، فمنهم من ينزههما عن مظنة العيب ويرى أن ألفاظه بلغت من الدقة وحسن الاختيار منزلةً يستحيل معها أن تغير كلمة من كلماته بسواها ، ثم تبقى للأسلوب طلاوته ورقته التي كانت له قبل هذا التغير ، وهذا رأي أبي العلاء المعري ، الذي اغمض عينيه عن كل ما بشعر المتنبي من مآخذ ، فقد قال الواحدي : ” قرأت على أبي العلاء المعري ومنزلته في الشعر ما قد علمه من كان ذا أدب ، فقلت له يوماً في كلمة : ما ضر أبا الطيب لو قال مكان هذه الكلمة كلمة أخرى أوردتها ، فأبان لي عوار هذه الكلمة التي ظننتها ، ثم قال ، لا تظن أنك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره ، بما هو خير منها ، فجرب إن كنت مرتاباً وها آنذا أجرب ذلك منذ العهد ، فلم أعثر على كلمة لما أبدلتها أخرى كان أليق بمكانها ” .
الخصائص الفنية في شعر المتنبي :
يحتوي كل نتاج أدبي على خصائص فنية يمتاز بها ، يتعلق بالشكل والمضمون متمثلة باللغة والبلاغة ، وقد امتاز شعر المتنبي بالعديد من الخصائص الفنية المقسمة إلى خصائص لغوية وأخرى بلاغية ، وفيما يلي توضيح لكل منها .
الخصائص اللغوية :
عرف عن المتنبي أنه شاعر طموح ، سعى دوماً إلى تحقيق وجوده رغم كل الصعوبات التي واجهها في حياته ، فكان شعره مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بحياته وشخصيته ، ومعظم قصائده ليست إلا ترجمةً لشخصيته المتميزة ومواقفه في حياته فأوجد لغةً جديدةً فريدةً خاصةً به ونوعيةً من الكلمات في مستوى طموحه ، لتلبي حاجات نفسه المتمردة ، ومثل هذه الكلمات ( ترج ، تهجم ، تتقدم ، تقهر ) في ذلك ذكر محمد ذكي العشماوي في دراسته عن المتنبي في كتابه ( موقف الشعر من الفن والحياة في العصر العباسي ) أن للغة المتنبي تشكيلات خاصة يتكون منها نسيجه الشعري ، والتي تبطل معها اللغة أن تكون مجرد مجموعة متألفة من الأصوات تدل اصطلاحاً على مقابل مادي فتصبح صورة صوتية وحدسية معاً ، والعلاقة بين معناها ولفظها تقوم إما على اقتران الصوت بالموضوع ، أو الموقف الفكري ، أو الروية ، واما على اقترانه بالحس والحدس ، سعي المتنبي إلى خلق نمط جديد في الشعر مغايراً للنمط التقليدي ، وقد نجح في ذلك ، إذ صاغ الحكمة بأسلوب بديع ظهر جلياً في شعره لاسيما في قصائده في مدح سيف الدولة الحمداني ، والتي عبر فيها عن حبه له وعن إيمانه بصفاته ، فجاءت مقدمات القصائد غاية في الروعة ، وذات لغة غريبة تدل على أن الشاعر متمكن من اللغة فيتصرف بها كيف يشاء ، فتارةً يقدم ، وتارةً يؤخر ، وتارةً يحذف ، مستخدماً المحسنات البديعية ببراعة ، والألفاظ القوية التي تظهر معاني الاعتزاز بالنفس والسمو بدلالة رائعة وإيقاع صوتي ، من ذلك قوله :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتــعظــم في عين الصغير صغارها وتـــصغـر في عين العظيم العظائم
ومن أهم الخصائص اللغوية التي امتاز بها شعر المتنبي ما يلي :
الخصائص البلاغية :
يفيض شعر المتنبي بلاغةً وصوراً بيانيةً ، وألفاظاً ، ومعاني غاية في الروعة ، حيرت النقاد واللغويين في تفسيرها ، ومعرفة مدلولاتها ، فالمتنبي شاعر عالم بكيفية جعل شعره مؤثراً ، فهو يعبر عما يختلج في النفس الإنسانية ، مصوراً لها في كل حالاتها ، وذلك من خلال بواعث الألم والظلم في حياته ، والتي كان لها أكبر الأثر في إبراز جمال شعره وتألقه ، وذلك الشعر الذي امتلأ ثورة على الظلم والاستبداد ، وامتلأ كبرياء وشموخاً ، إذ مدح به شاعر فارس شجاع ، امتلأت نفسه عزاً وأباً ، وقد استحق عن جدارة لقب ( ماني الدنيا وشاغل الناس ) ليس في عصره فحسب ؛ إنما في كل العصور ، وذلك لما اتسم به من جزالة في اللفظ وجودة في المعنى ، وقدرة على التصوير البياني بأسلوب شاعر بديع ، فنراه يقول :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جــفونـي عن شواردها ويسهر الـخلق جراها ويختصم
الخصائص المعنوية في شعر المتنبي :
تعرف الخصائص المعنوية بأنها المضمون وما يحويه من أفكار وخيال ، وما يقصده الشاعر من معان يعبر عنها بواسطة الألفاظ والصيغ الأدبية ، ومما لاشك فيه أن لكل عمل أدبي خصائص معنوية خاصة به ، وفيما يأتي أهم الخصائص المعنوية التي امتاز بها شعر المتنبي .
القوة والجزالة :
اتسمت المعاني في شعر المتنبي بالقوة والعظمة ، وظهرت هذه القوة أكثر ما ظهرت في شعر المدائح لاسيما في مدحه لنفسه ، مفتخراً بها ، ومدحه لسيف الدولة ، فقصائده في مدحه ووصفه لمعارك تعتبر ملحميات تضاهي ملحميات عنترة بن شداد ، وتعتبر القوة صفة يشترك بها كل من ممدوحيه ، فهو لا يصف أحداً إلا ويجعل القوة والشجاعة والإقدام ، وما إلى ذلك من مثل عليا من أساسيات وصفه ، إضافة إلى تغنيه بأمجاده وبطولاته وانتصاراته في المعارك ، وقد آمن المتنبي أن الشاعر يجب أن يدافع عن الوطن بالسيف والكلمة ، وألا يكتفي بمدح الملوك .
كان أبو الطيب شاعر المعركة ، فقد قالوا فيه : ” منذ أيامه الأولى في الشعر ، كان المتنبي ذلك الصوت الذي يرفض الاستكانة ، والخضوع ويحرض الإنسان على خوض المعركة من أجل كرامته وشرفه ” ، كما قال الشريف الرضي واصفاً إياه : ” إنه قائد عسكر ” ، فالمتنبي كان فارساً يشارك في المعارك ، ينتقل بين ساحات الوغي ، فلامه على ذلك أبو عبد الله بن إسماعيل ، وعلى اندفاعه وتعريض نفسه للمخاطر ، فرد عليه المتنبي بقصيدته هذه :
أمثلي تأخذ النكــبــات مـنه ويـــجزع مــن ملاقــاة الـحمام
ولو برز الزمان إلـــيّ شـخصاً لخضب شعر مفرقه حسامي
وما بلــــغـــت مــشيـتها الليالي ولا سادت وفي يـــدها زمـامي
إذا امتلأت عيون الخيل مني فويل في الـــتــيــقظ والـــمــنام
العاطفة في شعر المتنبي وأسلوبه :
نهج المتنبي في بداياته الشعرية أسلوب شعراء الجاهلية من حيث الوقوف على الأطلال في مطلع القصائد ، ووصف النافة قبل الدخول في موضوع القصيدة ، مع الالتزام بوحدة الوزن والقافية ، فقد كان هذا الأسلوب للمجددين الذين كانوا يدعون إلى التجديد في الشعر ، غير أن المتنبي بعد أن امتلك زمام الشعر أوجد لنفسه أسلوباً خاصاً تفرد به ، وتحرر من بناء القصيدة الجاهلية ومن مقدماتها ، فاستفتح قصائده بالحكمة بدلاً من الوقوف على أطلال الحبيبة أحياناً ، وأحياناً أخرى استهلها بالمدح مباشرة ، لاسيما في مدائحه لسيف الدولة ، إذ يقول في قصدة مطلعها :
لكل امرئ من زهرة ما تعودا وعادة سيف الدولة الطعن في العدى
وقد ظهرت في هذا الأسلوب قوة شخصية ، إذ كان لا يمدح أحداً إلا ومدح نفسه بقدر مدحه له ، وفي بعض الأحيان كان يبدأ القصيدة بالشعر الوجداني الغنائي مع شيئ من السخرية ، ومثال ذلك مدائحه لكافور الأخشيدي ، كما امتاز أسلوب المتنبي في قصائد المدح بمتانة البناء ، وترابط النسيج ، إلا أنه – وفي بعض الأحيان – كان يبني القصيدة على أكثر من غرض شعري ، بالإضافة إلى ذلك ظهر في شعره قدرة فائقة على التصوير والوصف الدقيق للصفات ، إلى جانب الإيقاع الموسيقي القوي ، استخدام التضاد والإيجاز ، وقوة الألفاظ والمعاني المناسبة مع شخصيته القوية .
وبالنسبة للعاطفة في شعر المتنبي ، فقد غلب على شعره عاطفة الألم الشديد التي تجلت في قصائد الشعر الوجداني الغنائي والتي تعدت العواطف الفردية ، وتجاوزتها لتعبر عن معاناة الإنسانية ، وقد اتسمت قصائده في مدح سيف الدولة الحمداني بالصدق بسبب حبه له ، على عكس مدائحه بكافور الأخشيدي التي اتسمت بالبهتان والتصنع بسبب بغضه له ، كما ظهرت في قصائده عواطف أخرى مختلفة كالحماسة ، والغضب ، وخيبة الأمل والإعجاب بالفضائل والقيم العليا ،أما عواطف العشق والهوى ، فقد كانت مقيدة عنده ، فلم يرتبط اسمه بحبيبة كغيره من الشعراء الذين شغف قلوبهم الحب ، وذلك بسبب انشغاله بهمومه ، لاسيما همومه في طلب المجد والشرف ، الأمر الذي جعل عواطفه قوية وثائرة ومثال ذلك قوله :
فاطلب العز في نطي ودع الذل ولو كان في جنان الخلود
المصادر و المراجع :
- الحكمة في شعر المتنبي : يسرى محمد سلامة
- المتنبي بين ناقديه في القديم والجديد : محمد عبد الرحمن
- الشعر والشعراء في العصر العباسي : الدكتور مصطفى
- في عالم المتنبي : عبدالعزيز السوقي
- تاريخ الأدب العربي العصر العباسي : عمر فروخ
- الوساطة بين المتنبي وخصومه : قاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني
- في الشعر العباسي : عزالدين إسماعيل
- مع المتنبي : طه حسين
- المتنبي دراسة عامة : جورج غريب
* رئيس قسم العلوم الشرقية بجامعة لكناؤ ، الهند .