الكعبة المشرفة وآثار تقديسها في وحدة الأمة

معروف الرصافي وتأثر شعره بالقرآن الكريم ( الحلقة الأولى )
يونيو 2, 2021
تعالوا إلى السعادة المفقودة !
يوليو 13, 2021
معروف الرصافي وتأثر شعره بالقرآن الكريم ( الحلقة الأولى )
يونيو 2, 2021
تعالوا إلى السعادة المفقودة !
يوليو 13, 2021

الدعوة الإسلامية :

الكعبة المشرفة وآثار تقديسها في وحدة الأمة

الشيخ الطاهر بدوي *

إن الكعبة أو البيت الحرام هو أول مسجد أسس للناس ، ويشير الله تعالى إلى ذلك في سورة آل عمران بقوله : ” إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىُّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ”      ( 96 – 97 ) .

والكعبة عبارة عن بيت صغير مربع البنيان تقريباً يقع في وسط الحرم الشريف ، وله أربعة أركان : ركن الحجر الأسود أو الأسعد ، ويقع ما بين الشرق والجنوب ، ومنه يبتدئ الطواف بمثابة تحية للمسجد . والحجر الأسود حجر صقيل ، بيضي الشكل ، غير منتظم ، ولونه   أسود ، يميل إلى الاحمرار ، وفيه نقط حمراء وتعاريج صفراء ، ويقال : إنه نوع من النيازك . وروى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف عند الحجر الأسود فقال : ” إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وقبّله ، ولما حج سيدنا أبوبكر الصديق وقف عند الحجر ، وقال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ، وكذلك فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند حجه بالناس رضوان الله عليهما وعلى أصحابه أجمعين ” .

والركن الشامي ما بين الشرق والشمال ، والركن الغربي ما بين الشمال والغرب ، والركن اليماني ما بين المغرب والجنوب . وقد ظلت الكعبة على البناء الذي وضعه سيدنا إبراهيم عليه السلام حتى آل أمر البيت إل قصي بن كلاب . فبناها من جديد ، وأذن لطوائف قريش أن يبنوا بيوتاً حول الكعبة من جهاتها الأربع ، فقال لهم :

” إنكم إن سكنتم الحرم حول البيت هابتكم العرب ، ولم تستحل قتالكم ، ولا يستطيع أحد إخراجكم ” . ولما تصدعت جدران الكعبة بسبب السيل العرم ، عولت قريش على هدمها وإعادة بنائها ، واشتغل جميع القرشيين في نقل الحجارة ، واستخدموا في بناء الكعبة مداميك من خشب السّاج والحجارة ، وغطوا سقفها بخشب الدوم وجهيد النخل ، وجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعاً بعد أن كان تسعة أذرع ، وأقاموا في داخلها ست دعائم في صفين . فلما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود حدث بين القبائل خلاف في أيها تختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا سيدنا محمد بن عبد الله عليه السلام ، وعمره خمس وثلاثون سنة أي قبل بعثته المباركة بخمس سنوات ، لما عرفوه من وفور عقله وسداد رأيه وأمانته . فطلب رداءً ووضع عليه الحجر وأمر القبائل فأمسكت بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو عليه الصلاة والسلام فوضعه حيث هو ، بيده الشريفة . وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءها على ما هي عليه الآن . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لزوجته عائشة رضي الله عنها :       ” لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشاً استصغرتها حينما بنت الكعبة ” .

وبشيئ من التفصيل نقول : إن شكل الكعبة مربع تقريباً ، مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة ، ويبلغ ارتفاعها ستة عشر متراً ، وطول ضلعها الذي فيه الميزاب والذي قبالته عشر أمتار وعشر سنتيمترا وطول الضلع الذي فيه الباب والذي يقابله اثنا عشر متراً وبابها على ارتفاع مترين من الأرض ويصعد إليه بالسلالم كسلالم المنابر .

وقبالة الميزاب يوجد الحطيم وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية والغربية ، ويبعدان عنهما بمترين وثلاثة سنتيمترات ، ويبلغ ارتفاعه متراً وسمكه متراً ونصف متر وهو مبطن بالرخام المنقوش وفي محيطه من أعلاه كتابة محفورة . والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سنتمترا ، والفضاء الواقع بين الحطم وحائط البيت وهو ما يسمونه بحجر إسماعيل . قد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم ، والباقي كانت زريبة [1] لغنم هاجر وولدها ، ويقال إن هاجر وإسماعيل عليهما السلام مدفونان به والله أعلم .

كان العرب يكسون الكعبة من عهد بعيد ، وأول من كساها تبع أبو بكر أسعد ملك حمير سنة عشرين قبل الهجرة . كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة وتبعه حلفائه فكانوا يكسونها بالجلد والقباط زمناً مديداً . ثم أخد الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض ، وكان إذا بلي منها ثوب وضع عليه سواه إلى زمن قصير ، فوضع على العرب رفادة لكسوتها سنوياً واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة بن المغيرة يكسوها سنةً وقبائل قريش تكسوها سنةً أخرى .

وقد كساها النبي صلى الله عليه وسلم بالثياب اليمانية ثم كساها عمر وعثمان رضي الله عنهما القباطي الذي كانت تستورده العرب من مصر . فلما ولي معاوية رضي الله عنه الخلافة كسى الكعبة كسوتين : إحداهما من القباطي ، والأخرى من الديباج ، فصارت تكسى بالديباج الأحمر في يوم التروية ( الثامن من ذي الحجة ) حتى إذا كان السابع والعشرين من رمضان كسيت بالقباطي . ولما حج الخليفة العباسي المهدي شكا إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة وذكروا أنه يخشى من سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية وإبدالها بكسوة واحدة كل سنة ، فجرى العمل على تلك العادة إلى الآن .

أما كسوتها من الداخل فأول من فعل ذلك أم العباس نتيلة بنت جناب بنت كليب . . . وكان العباس بن عبد المطلب ابنها قد ضل وهو صغير فنذرت إن وجدته لتكسون داخل الكعبة فلما وجدت ولدها وفت بنذرها[2] .

وكان العباسيون يبالغون في كسوتها ، فكانوا يكسونها بالحرير الأسود فلما ضعف أمرهم صار يكسونها تارةً ملوك اليمن وأخرى ملوك مصر إلى أن استقرت في سلاطين مصر فوقف عليها الملك الصالح ابن الملك الناصر بن قلاوون قريتي باسوس وسندبيس من مديرية القليوبية . ومن ثم صارت ترسل الكسوة الخارجية السوداء إليها ، وكان كلما يتجدد السلطان يرسل إلى الكعبة بكسوة داخلية . ومن هذا التاريخ صارت كسوة الكعبة ترسل سنوياً من مصر وهي ثمانية ستائر من الحرير الأسود المكتوب بالنسيج في كل مكان منه لا إله إلا الله محمد رسول الله . ولقد من الله على المملكة العربية السعودية بهذا الفضل العظيم حيث أصبحت الكسوة المباركة نفسها الآن تصنع داخل المملكة بإتقان بديع وباهتمام غير محدود .

كان للكعبة من المنزلة في أعين العرب ما ليس لمعبد غيره إذا كانوا يعتبرونه بيت لله .

ومن العجيب كما قال الأستاذ محمد فريد وجدي في موسوعته أن قدم هذا البناء ومقام بانيه حمل الأمم الأجنبية غير العرب كالفرس والهنود واليهود والنصارى على تعظيمه فكان الهنود يقولون : إن روح ” سيفا ” وهو الأقنوم الثالث من الثالوث البوذي قد حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز . وكان الصابئة وهم عباد الكوكب من الفرس والكلدانيين يعودونها أحد البيوت السبعة المعظمة .

وكان الفرس من غير الصابئة يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين إن روح هرمز حلت فيها وكانوا يحجون إليها .

وكان اليهود يحترمون الكعبة ويعبدون الله فيها على دين سيدينا إبراهيم الخليل كان بها صور وتماثيل منها تمثالا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام  وبأيديهما الأزلام تعالياً عن ذلك علواً كبيراً ، وصورتا العذراء والمسيح عليهما السلام . . . وكان للعرب بها ثلاث مأة وستون صنماً كما سبق ذكره .

فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة هدم الأصنام التي بها وطهرها لعبادة الإله الحق وحده .

وكان الناس يحجون إلى الكعبة من جميع أنحاء البلاد العربية ، وكانت أشهر الحج عندهم شوالاً وذا القعدة وذا الحجة ، وكانوا يحرمون الشهر الذي يكون فيه الحج وهو ذو الحجة والذي قبله والذي بعده .

وكانوا يحرمون شهر رجب أيضاً ويسمونه شهر الله الأصم أي الذي لا تسمع فيه قعقعة السلاح ، فكانوا في هذه الشهور الأربعة يلقون السلاح ولا يغزو بعضهم بعضاً . وقد أقر الإسلام حرمة هذه الأشهر .

وفي السنة الثانية من الهجرة جعل الله الكعبة قبلة المسلمين ، وكانوا قبل ذلك يصلون إلى بيت المقدس .

لقد أراد أبرهة حاكم اليمن من قبل الحبشة أن يجذب الحجاج العرب إلى كنيسته بصنعاء . بدلاً من حجهم إلى كعبة مكة المكرمة ، وأن يحول تجارة قريش والفوائد المادية التي تجنيها من ورائها إلى اليمن . فخرج من عاصمته صنعاء على رأس جيش كبير تتقدمه الأفيال ، وعسكر على مشارف مكة ، وكان زعيمها عبد المطلب بن هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم وبدأ الغزو ، فبرك الفيل الذي كان يمتطيه أبرهة  اللعين ، وبذل الأحباش جهودهم لينهضوه ، فكان ينهض حتى إذا وجهوه نحو مكة ، برك مرةً أخرى وإذا وجهوه إلى الشام أو اليمن أسرع في العدو ، وانتهت حملة أبرهة بهزيمة منكرة .

وعرفت بحادثة الفيل ، وكانت العناية الإلهية هي التي حمت الكعبة وقد ذكر القرآن الكريم هذا الحادث التاريخي في سورة الفيل قال جل ذكره : ” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ” .

وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة . فقالوا : ” خلأت  القصواء ” ، ( أي حزنت ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما خلأت القصواء . وما ذاك لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل ” . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : ” إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين . وأنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ” ، فهي حادثة ثابتة بنص الكتاب والسنة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل .

ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم  بحجارة من طين وحجر ، فتتركهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم ، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم  يسقط أنملةً أنملةً ، حتى قدموا به صنعاء ، فمات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات .

فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة .

وأول ما توحي به أن الله تعالى لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين . ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت ، ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه . ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية . وتدخلت القدرة سافرةً لتدفع عن بيت الله الحرام ، حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته ، بحميتهم الجاهلية ، ولعل هذه الملابسة كما قال الشهيد سيد قطب رحمه الله ، ترجح ترجيحاً قوياً أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة لا السنة المعهودة . . . فهذا أنسب وأقرب .

ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأن لا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم ، والتعجيب من موقفهم العنيد .

كذلك توحي دلالات هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب – أبرهة وجنوده – أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة حتى والشرك يدنسه والمشركون هم سدنته . ليبقى هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين ، مصوناً من كيد كل الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة لا يهيمن عليها سلطان ولا يطغى فيها طاغية ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الحكيم الخبير لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم  لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته المشركون ، سيحفظه إن شاء الله ويحفظ مدينة رسوله الكريم من كيد الكائدين ومكر الماكرين .

والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض ، بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة ، وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرةً وإما بإنشاء حكومة عربية تحت حماية الرومان . ولم ينج إلا قلب الجزيرة العربية من تحكم الأجانب فيه . ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية . وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنةً ، ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقةً ولا مجتمعةً ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .

وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش وتتولى قيادة البشرية بعد أن تزيح القيادات المزيفة الضالة .

ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ، نسوا نعرة الجنس وعصبية العنصر ، وذكروا أنهم مسلمون ، ومسلمون فقط ورفعوا راية الإسلام وراية الإسلام وحدها . وحملوا عقيدةً ضخمةً قويةً يهدونها إلى البشرية رحمةً وبراً بالبشرية ، ولم يحملوا قوميةً ولا عنصريةً ولا عصبيةً ، حملوا فكرةً سماويةً يعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه . وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده ، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطوريةً عربيةً ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكهم أنفسهم ، إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : ” الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ” .

عندئذ فقط كان للعرب وجود ، وكانت لهم قوة وكانت لهم قيادة .

ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله ، وقد ظلت لهم قوتهم ، وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة .

ورحم الله الإمام البوصيري حين قال بشأن هؤلاء الرجال :

تهدي إلـــــيــــك رياح النصر نشرهم    فتحسب الزهر في الأكمام كل كم

كــــأنـــهــم في ظهور الخيل نبت ربا    من شــــدة الـــحــــزم لا مــن شدة الحزم

طارت قلوب العدى من بأسهم فرقا    فـــــمــــــا تــــــفـــــرق بــــيــن الــبَهم والـبُهُم

ومــــن تــكــن بــــرسـول الله نصرته    إن تـــــلـــــقـــــه الأســــد في آجامــهـا تجم

من يعتصم بك يا خـــير الورى شرفا    الله حــــــافـــــــظـــــــه مـــــن كل مــنــتقم

ولن ترى من ولـــي غــــيـر منتصر به    ولا مــــــــن عـــــــــــدوغــــــــــيــــــر مـــنقسم

وما العرب بغير الإسلام ؟؟ وما الفكرة التي يقدمونها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة ؟

وما قيمة أمة لا تقدم إلى البشرية فكرةً ؟؟ إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرةً . والأمم التي لم تكن تمثل فكرةً كالتتار الذين اجتاحوا الشرق والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلاً إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية ، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وضيفة ولم يعد لهم في التاريخ دور . . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً والمسلمون على العموم إذا أرادوا الحياة وأرادوا القوة وأرادوا القيادة . . . اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا    والآخرة ، آمين .

* كبير علماء الجزائر .

[1] الزريبة : حظيرة الماشية ، ج زريبات وزرائب .

[2] انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ، م 3 ، للإمام عز الدين بن الأشير أبي الحسن علي بن محمد الجزري ، 555 – 630هـ رحمه الله .