العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية
مايو 3, 2021الوصايا العشر في كيفيات تعامل الداعية مع أحداث تاريخ البشر
يونيو 2, 2021الدعوة الإسلامية :
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم :
حاجة العالم البشري في كل زمان ومكان
بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
( رئيس ندوة العلماء العام )
إن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وسيرته المباركة التي يجب على الأمة الإسلامية الاستفادة منها إلى يوم القيامة ، تحتوي على جانبين : أحدهما تعاليمه وإرشاداته التي وجهها إلى أصحابه في مناسبات مختلفة ، وهي تسمى في المصطلح ” الحديث النبوي ” ، وآخرهما أحواله وأفعاله التي عمل بها بنفسه ، وهي تسمى ” السيرة النبوية ” ، وقد حفظ أصحابه ووعوا هذين الجانبين من حياته المباركة وبلغوهما إلى من أتى بعدهم من المؤمنين ، ثم بلغ هؤلاء المؤمنون إلى من أتى بعدهم ، واستمرت هذه السلسلة ، تدوَّن وتسجل حياته الطيبة بجوانبها المختلفة في الكتب والأسفار .
وإن هذه السيرة النبوية المباركة تشتمل على أحوال مختلفة ، ومرَّ صاحبها بمراحل مختلفة ، وظروف مختلفة ، ومنها مواجهة الأعداء الذين كانوا أكبر بكثير من المسلمين في العدد ، والعدة ، والعتاد ، والقوة الحربية ، وهم الذين بدأوا الحرب ، ولم يقصروا في القضاء على هذه الجماعة المؤمنة الوليدة القليلة العدد والعتاد ، برجلهم وخيلهم ، وكانت الحروب من قبلهم مفروضةً على المسلمين ، وكانت الأخطار تهدد كيانهم كل وقت ، فاضطر المسلمون إلى مواجهتهم بنفس القوة ، واستخدموا ما وجدوه من سيوف وأسلحة أخرى لم يحصلوا عليها إلا قليلاً ، في مقاومة الأعداء ، ثم استغل المؤرخون الحاقدون المعاندون الذين لم يرضوا بالإسلام ، هذه الحروب والمواجهات المسلحة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للدفاع عنهم ، أسوأ استغلال ، واتهموه بالظلم وسفك الدماء ، مع أنه لم يكن أي إجراء من إجراءاته الحربية لفرض السيطرة ، ونيل الغلبة والحكم في البلاد ، بل كانت كلها لنشر الخصال الحميدة ، وتبليغ أحكام رب العالمين إلى الناس الضالين عن الحق ، فاضطر إلى رد كيد الأعداء ، أو قمع الشر ، أو منع حملات الأعداء على المسلمين ، أو إذا أحس بخطر وقوع هجوم من جهة على المدينة أو المسلمين في مكان آخر ، وكلما انتصر في حرب أو غزوة عفا وصفح عن الأسرى من الأعداء ، وعاملهم معاملة الرحمة والشفقة حتى مع ألد أعدائه .
وكل محاولة وجهد يقوم به إنسان لمواجهة الخصم في سبيل الحفاظ على ما يراه حقاً ، يسمى مجاهدةً وجهاداً ، ومعناه بذل الجهد والسعي لمواجهة الخصم ، فبذل المؤمنين جهدهم لمواجهة شر الباطل ورده ومواجهة من يعاندون ويعارضون الجهود التي بذلها المسلمون للدفاع عن الحق وإعلاء كلمته ، وتنفيذه ، ونشر الخير والفضيلة ، ومنع الشر والرذيلة ، يسمى جهاداً ، والجهاد في الإسلام بهذا المعنى مقيد بأن يكون لطلب رضا ربهم ، ولا يكون لنيل غرض شخصي أو مادي ، أو لمجرد مصلحة ذاتية ، ويتحمل المسلمون فيه كل ما يعتريهم من أذى وتضحية بالنفس والنفيس ، سواء أكانت مثل هذه الجهود في حالة السلم والأمن أم في حالة الحرب والمواجهة ، ولكن المعاندين للإسلام شرحوا كلمة الجهاد شرحاً خاطئاً مضللاً ، إنهم قرروا معنى الجهاد استخدام القوة لطلب السيطرة المادية وحدها على بلد ، أو نيل الغلبة على شعب من الشعوب ، ولكسب متاع دنيوي ، وهذا تقرير خاطئ منهم ، افتعله الحاقدون للإسلام ، اتهموا في كتبهم الإسلام بتهمة الإرهاب والعنف ، ووصفوه بدين السيف ، مع أن الله لم يأمر المؤمنين بأن يقاتلوا إلا من يقاتلونهم ، وأن تكون نيتهم ابتغاء مرضاة ربهم ، وأن لا يمسوا بريئاً بسوء ، ولا يقاتلوا لكسب السمعة والغلبة والحكم في العالم ، بل يجب عليهم أن يقاتلوا لنصرة الحق وصيانته إذا اقتضت الظروف ، وإذا لم تستدع الأوضاع الحرب فعليهم أن يسلكوا طريق المصالحة والمسالمة والتعايش السلمي ، فقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نموذجاً مثالياً للتعامل الإنساني والسلوك الإنساني الحسن مع الأعداء في سائر الحروب والغزوات ، وعدد القتلى القليل جداً في هذه الغزوات خير دليل على ذلك .
وفي القرون المتأخرة قصر بعض الحكام المسلمين في الالتزام بالمبادئ الإسلامية المقررة والأخلاق الإسلامية ، لمصالحهم السياسية الشخصية ، ولكنهم بالرغم من ذلك لم يهلكوا من الأعداء إلا عدداً ضئيلاً ، بينما أهلك الأعداء عدداً أكبر من المسلمين ، وقد اعترف بذلك الأعداء بأنفسهم ، واعترافاتهم محفوظة في كتب التاريخ ، وعلى كل ، فإن ظلم أحد الحكام المسلمين فهو عمله الشخصي ، وليست له صلة بالإسلام ونبي الإسلام ، وكل من يطالع السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بذهن مفتوح منصف بعيداً عن العصبية والحقد والعداوة ، فإنه يعترف بأخلاق المسلمين العاملين بالمنهج النبوي وسلوكهم الحسن ومواقفهم الإنسانية الرحيمة ، وتعاونهم على البر والتقوى واستمساكهم بمكارم الأخلاق ، ولكن المؤرخين المعاندين للإسلام قد شوهوا صورة الإسلام والمسلمين المشرقة ، وطمسوا معالم حكمهم العادل ، ومسخوا تاريخهم المشرق ، وعرضوا السيرة النبوية وتاريخ الإسلام بأسلوب معاند ومضل ، يسبب حدوث أخطاء الفهم في النفوس والأذهان ، فنشأت فجوة عميقة بين المسلمين وغير المسلمين ، فتمس الحاجة إلى عرض صورة الإسلام الصحيحة الصادقة لإزالة ما علِق بالأذهان من شكوك ومفاهيم خاطئة بشأن الإسلام ونبيه العظيم في هذا العصر .
فتحقيقاً لهذا الغرض : غرض إزالة المفاهيم الخاطئة عن الإسلام ونبيه وعرض السيرة النبوية العطرة ، بدأ التأليف والتصنيف حول السيرة النبوية بجوانبها المختلفة ، وإنها حاجة إنسانية قصوى ؛ لتتجلى الصورة الحقيقية الصادقة الصافية المشرقة للإسلام والمسلمين ونبي الرحمة ، وتزول الشكوك والشبهات وأخطاء الفهم من النفوس والأذهان ، وتدرك حقيقة الإسلام وصدقه وعدله ، فاعتنى العلماء بتدوين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتأليف الكتب حولها حسب الضرورة واقتضاء البيئة والطبيعة السائدة في عصورهم .
بدئ هذا العمل الجليل في العهد الأموي ؛ فلما كانت أيام أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، فإنه أحب أن يدون في التاريخ كتاب ، فاستقدم عبيد بن شرية الجرهمي من صنعاء ، فكتب له كتاب الملوك وأخبار الماضيين ، ثم اتجه بعد هذا أكثر من واحد من العلماء إلى علم التاريخ من ناحيته الخاصة لا العامة ، وهي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعلهم وجدوا في تدوين ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم شيئاً يحقق ما في أنفسهم من تعلق به ، وحب لتخليد آثاره ، ولم يبدأ هذا العمل في العهد النبوي مخافةً أن تختلط السيرة بالقرآن الكريم ، الذي كان بدأ تدوينه وكتابته في المصحف في عصر الخلفاء الراشدين ، ثم بدأ تدوين الأحاديث النبوية ، فمنعوا في البداية من تدوين السيرة مخافةً أن تختلط أجزاؤها بأجزاء القرآن الكريم ، وظلوا متورعين أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، وبعد مضي قرن حينما زال الخوف من اختلاط القرآن بالحديث والسيرة بكونه محفوظاً في صدور مئات من النفوس ومدوناً في المصحف بعناية الخليفة الثالث بتدوينه بوجه خاص ، بدأ عمل تدوين السيرة ، فجاء أكثر من واحد من العلماء ، ودونوا في السيرة كتباً .
بدأ أولاً بتدوين الأحاديث التي جمعها بعض الصحابة الكرام عن السيرة النبوية ، ومن أبرزهم : عبد الله بن عباس ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، رضي الله عنهم أجمعين ، وأما من أتوا بعدهم من التابعين الذين ركزوا عنايتهم على تدوين السيرة النبوية ، ورواياتهم محفوظة في كتب السيرة ، فنذكر منهم فيما يلي :
عروة بن الزبير ( م 94هـ ) ، وأبان بن عثمان ( م 105هـ ) ، ووهب بن منبه ( م 110هـ ) ، وعاصم بن قتادة ( م 119هـ ) ، وشرحبيل بن سعد ( م 123هـ ) ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ( م 124هـ ) ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ( م 135هـ ) ، وهؤلاء الأربعة الأخيرة ممن عنوا بأخبار المغازي وما يتصل بها .
ثم جاء بعدهم موسى بن عقبة ( م 141هـ ) ، ومعمر بن راشد ( م 150هـ ) ، ومحمد بن إسحاق ( م 152هـ ) ، وزياد البكائي ( م 183هـ ) ، ومحمد بن عمر الواقدي صاحب المغازي ( م 207 هـ ) ، وأبو محمد عبد الملك بن هشام ( م 213 هـ ) ، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى ( م 230 هـ ) وابن حزم صاحب جوامع السيرة ( م 456هـ ) وتناول هؤلاء جوانب السيرة المختلفة بالشرح والتفصيل ، أو الاختصار ، أو النظم ليسهل حفظها [1] .
وقد جمع الإمام البخاري أهم الروايات والأحاديث التي تتعلق بالسيرة النبوية ، وهي تتطابق مع شروطه ومقاييسه لصحة الحديث ، وشرح الحافظ ابن حجر العسقلاني كتاب المغازي من صحيح البخاري ، فجاء شرحه كتاباً مستقلاً في السيرة ، ووضع الإمام مسلم في صحيحه باباً خاصاً بالسيرة باسم ” الجهاد والسير ” .
وقد اعتنى أصحاب السير الأوائل بالمغازي ، أي جمعوا الروايات والأخبار التي تتعلق بالجهاد والغزوات ، ولكن في القرن السابع والقرن الثامن الهجري بدأ تدوين سائر أحوال السيرة النبوية وما يتصل بها ، وألفوا فيها كتباً مفصلةً مرتبةً منسقةً ، وفاق منهم ابن إسحاق والسهيلي ، وقد عُدَّ ابن إسحاق إمام الدور الأول لتدوين السيرة ، واعترف المتأخرون بفضله وسبقه ، وأخذوا منه ، ونقلوا رواياته في كتبهم ، ثم اختصر ابن هشام سيرة ابن إسحاق ، وشرح السهيلي سيرة ابن هشام . نذكر فيما يلي عدداً من كتب السيرة :
- جوامع السيرة النبوية للعلامة علي بن أحمد بن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456هـ .
- الدرر في اختصار المغازي والسير للإمام يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي المتوفى سنة 463هـ .
- الروض الأنف لعبد الرحمن السهيلي المتوفى سنة 581هـ .
- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس البصري الشافعي المتوفى سنة 734هـ .
- زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ .
- الفصول في سيرة الرسول للحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774هـ .
- إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون ( السيرة الحلبية ) لعلي بن برهان الدين المتوفى سنة 975هـ .
- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية لأحمد بن محمد بن أبي بكر خطيب القسطلاني .
وقد ذكر ابن جرير الطبري والحافظ أبو شجاع شيرويه في كتبهما التاريخية سيرة الرسول بشيئ من التفصيل والاستفاضة .
[1] مقدمة سيرة ابن هشام : 1/ 5 – 8 .