الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي : أكبر شخصية في عصره ( 1898م – 1982م )
يناير 6, 2021الأستاذ أنور الجندي : أحد رواد الاتجاهات الدينية في القرن العشرين الميلادي
فبراير 21, 2021رجال من التاريخ :
علم فريدلم ينصفه جيله
( المفكر الإسلامي والأديب الموسوعي الأستاذ أنور الجندي )
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الأستاذ محمد خالد ضياء الصديقي الندوي *
صفاته وأخلاقه :
كان الأستاذ نقي السريرة ، عف اللسان ، غني النفس ، سهلاً ميسوراً ، إلفاً مألوفاً ، دمث الخلق ، يتسامح مع الجميع ، ويعطي الجميع من واسع معرفته ، ويفتح باب داره لطلاب العلم من كل مكان . كما كان سليم الصدر ، مترفعاً عن الحسد والتعالي ، سامياً عن السفاسف والدنايا ، بعيداً عن زخارف العيش مع قدرته على أن يشق الطريق إلى الجاه والمال .
الزهد شارته والتجرد أمارته :
أما التواضع والزهد ، والقناعة والبساطة ، فكان نموذجاً فريداً في هذا الباب ، حتى أصبح الزهد شارته والتواضع أمارته .
ولقد اتفقت كلمة الكاتبين عنه على هذه الصفة المتميزة الأساسية التي تنورت بها حياته وتجملت بها شخصيته ، تقول ابنته الوحيدة السيدة الفاضلة الأستاذة ” فايزة ” :
” كانت الصفة الأساسية في شخصيته هي التواضع الشديد والبساطة الشديدة في ملبسه ومأكله وحديثه . . . . ولم يكن يملك سيارةً ولم يفكر فيها أبداً ؛ بل كان يستخدم وسائل المواصلات العادية ، ولم يفكر في شقة راقية وأثاث فخم ، ولو أراد لكان أفضل مما عند الكثيرين ؛ ولكنه ظل بسيطاً يسكن في هذا المنزل المتواضع في منطقة شعبية مزدحمة ، ولم يكن متأففاً من ذلك ؛ بل سعيداً به ؛ لأن الدنيا لم تشغله أبداً ، ولم يجر في يوم من الأيام وراء زخرفها ” .
وأضافت قائلةً : ” لم يكره المال ؛ بل يحب المال الحلال البسيط الذي يعينه على أمور دينه ودنياه ، نعم ربما كان يكره كثرة المال ، وكان يحب أن يكون بسيطاً ، عنده ما يكفيه فقط ، وأن يحيا مستوراً بين الناس ” [1] .
والغريب أنه لم يكن لديه حساب في البنك ؛ لأنه لا رصيد له أصلاً ، فالأستاذ كان ينفق رَيع كتبه القديمة على كتبه الجديدة ؛ ليساعد في نشرها ، وحتى لا يقف نشرها عند قلة المورد المالي [2] .
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي عن زهده وتجرده من الدنيا وزخارفها :
” كان الأستاذ الجندي زاهداً في الدنيا وزخرفها ، قانعاً بالقليل من الرزق ، راضياً بما قسم الله له ، لا يطمع أن يكو ن له قصر ولا سيارة ، حسبه أن يعيش مكتفياً مستوراً ، وكان بهذا من أغنى الناس … وكان أربه من الدنيا محدوداً ، فليس له من الأولاد إلا ابنة واحدة … كانت رغباته تنحصر في أن يقرأ ويكتب ، وينشر ما يكتب .
ويقول : ” لم يجر خلف بريق الشهرة ، ولم يسع لكسب المال والثروة ، أو الجاه والمنزلة ، وإنما كان أكبر همه أن يعمل في هدوء ، وأن ينتج في صمت ، وألا يبحث عن الضجيج والفرقعات ، تاركاً هذه لمن يريدونها ويلهثون وراءها ” [3] .
وقد بلغ من الزهد والتجرد مبلغاً عظيماً ، حتى كان يعاف المناصب ، ويتنزه عن الإغراءات ، ويزهد في الشهرة والأضواء ، ولا يقبل شيئاً على محاضراته وأفكاره ؛ بل حتى الجوائز التقديرية كان يرفضها ويأباها . وعند ما سئل عن ذلك ، قال : ” أنا أعمل للحصول على الجائزة من الله ” ملك الملوك ” [4] .
ويدل على زهده وتجرده ما قال هو لابنته ( أم عبد الله ) قبل رحيله : ” تعلمين أن لي مآت الكتب والمؤلفات عند الناشرين في الشرق والغرب ، فإياك أن تمدي يدك لأحدهم لطلب شيئ من المال ، فمن أعطاك منه شيئاً فخذيه وتنفلي منه وتصدقي ما شئت ! ومن كف يده ، وأنكر حقي فتصدقي عليه ! ” [5] .
ويحلو لي أن أقدم هنا إليك قصتين من زهده وبساطته ، وتواضعه وقناعته ، حكاهما بعض أقرانه ومعاصريه . فقد وصف الأديب الداعية الشيخ عبدالسلام البسيوني ما رآه بأم عينيه وصفاً يذرف العيون حين ذهب هو إلى الأستاذ الجندي ليلقاه ويجري معه حواراً ، يصف فيقول :
” رأيته مرةً واحدةً قبل عقدين من السنين ، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية ، في جيزة مصر ، فلقيت رجلاً من النادرين ، بسيطاً بساطة عاميّ خام ، متواضعاً تواضع زاهد ، ليناً لين أب رحيم ، واقعياً لدرجة تدعو للأسى والغضب … رأيت ويا سوء ما رأيت !! بيته المتهالك في قلب ( سوق الخضار ) إي والله ! ومن الصباح الباكر تُقضّ مضجعَه نداءاتُ الباعة – عبر مكبرات الصوت – على ما لديهم … فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلاً ، لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته وكلامهن المنتقى ، ولم ينقطع ضجيج ( العيال ) العفاريت ، الذين يتقاذفون الكرة ( صدة ردة ) في عز نقرة الحر ، والمتبادلين لما لذّ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة .
دخلت حين يسكن ، ومعي فريق للتصوير التلفزيوني بعد أن أنهكنا البحث ، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة ، أو القصور المحندقة … وأخذنا نسأل المكوجي ، والجزار ، والجار ، فإذا هم يقولون في استفهام : من أنور ؟ لا نعرف أحداً بهذا الاسم !
وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك ، لم نجد مكاناً يصلح لأن نجلس به ، بسبب قدم المكان ، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال ، وسألته :
– ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق ؛ لنتمكن هنالك من التصوير ، حيث المكان أوسع ؟
– لا بأس … كما تشاؤون … تفضلوا ، وسألحق بكم .
وبشيئ من الانفعال قلت : كيف ستقود سيارتك ؟
– لا … لا أملك سيارةً … سألحق بكم بالأتوبيس ، وكأنما لسعني بكرباج ، فهتفت : الله أكبر … بالأتوبيس ؟ أنت العالم الكبير ( تتشعبط ) ونحن نسبقك بسيارة خاصة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله … الرجل العظيم … بعلمه ، وسنه ، وضعف جسمه ، ومؤلفاته التي تزيد على المأتين ( يتشعبط ) في الأتوبيسات ، بينما ( هلافيت ) الثقافة ، وتجار الصنف يركبون الشبح ، والزلمكة ، ويلعبون ( بالأنارب ) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة ؟! يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها !!
ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا ، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذا العصر ، وعن العروبة ، واليسار الإسلامي ، والعقلانية ، والتراث ، وغيرها من الآفاق التي طوفناها فيها . وبعد أن أتعبنا الأستاذ وأزعجناه ، قدم مدير الإنتاج له ظرفاً ، به مبلغٌ من المال وهو يعتذر : ” سامحنا يا أستاذ على التقصير ، المبلغ لا يليق بكم ؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم ، فنرجو أن تقبلوه مكافأةً رمزيةً فقط ” .
– مكافأة ؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة ، ولم أقل شيئاً يستحق أن أتقاضي عنه أجراً .
– يا أستاذ : هذا مبلغ بسيط من التلفزيون ، وليس منة من جيب أحد ، وهو من حقك وليس تفضلاً .
– لن آخذ شيئاً ؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة ، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر .
– يا أستاذ… هذا حقك … نرجوك .
– لن آخذ قرشاً واحداً … اسمحوا لي بالانصراف . وأوصلناه ونحن في حياء منه ، ومن تواضعه وورعه ، ونحن – أيضاً – في خجل من أنفسنا ، وحرصنا على الراحة و ( النفخة الكدابة ) .
كان هذا منذ أكثر من عشرين سنة ، وأنور الجندي ليس مجهول المكان ، فكتبه تخرج تترى ، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية ، والحال هو الحال [6] .
هذه قصة أولى من زهده في الدنيا ، أما القصة الثانية ، فيرويها لنا الأستاذ جمال سلطان ، فيقول :
” عند ما دخلنا إلى بيته شديد التواضع في ذلك الحي الشعبي ، وهو بيت قديم متهالك ، لا تحس فيه أية مسحة من الترف ، حتى إن ابنته الوحيدة قالت لنا : إن الأستاذ أنور لم يكن لديه حتى سخان للمياه على كبر سنه وشدة برد الشتاء في مصر .
أعجب من ذلك ما حكته ابنته وبعض جيرانه عن أن الرجل كان يخرج لصلاة الفجر ، وأحياناً كان يجد خط الماء وقد تعطل ، وانقطعت المياه عن المنطقة ، فيحمل معه أوعيةً للماء ” جراكن ” ويملؤها ثم يضعها أمام باب كل جار ، ويقول لابنته عندما تعاتبه : ” إن الله سائلني عن هؤلاء ” .
كان الرجل فقيراً لا عن عجز ، وإنما عن زهد وقناعة ، حتى إنه كان يوزع الجوائز التي يحصل عليها من بعض أعماله على فقراء منطقته ، رغم أنه منهم [7] .
هكذا عاش الأستاذ الجندي حياته كلها زاهداً في الدنيا ، متخففاً منها ، لا يعني بجمع المال ، ولو أراد لكان هذا سهلاً ميسوراً .
ومن صفاته أنه كان – حسبما قال الدكتور القرضاوي – رجلاً ربانياً ، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه أنه كان يحب أن يكون متوضئاً دائماً ، فيأكل وهو متوضئ ، ويكتب وهو متوضئ ، وكان ينام بعد العشاء ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد ، ويصلي الفجر ، ثم ينام ساعتين بعد الفجر ، ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه [8] .
كما كان – على ما قال الأستاذ محمود خليل – ينفر بطبعه من المدح والمبالغات التي تعج بها حياتنا قديماً وحديثاً ، ويعدّ ذلك واحداً من أهم أمراض الأمراض ، ويرى أنه لا قيام لأمتنا إلا بشفائها منه ، حيث كان يرى أن مشواره الجبار الذي قطعه حسبة لوجه الله تعالى ، كان مفروضاً عليه ” [9] .
ثناء العلماء عليه :
ولمعرفة حجم شخصيته وعظمته معرفة تامة يجب أن نعرف ماذا قال عنه العلماء وشوامخ أهل الفكروالعطاء ، فإليك فيما يلي بعض الشهادات والأقوال التي قالها عنه كبار العلماء والمفكرين .
قال الدكتور مصطفى الشكعة : ” أنور الجندي علم ساطع مرموق في سماء الفكر العربي الإسلامي ” [10] .
وقال : ” حسبه أنه وقف بمفرده مدافعاً عن العربية السليبة والشريعة الغراء ، والتي تربص بها الرويبضة والمنافقون ، ولأن الجندي من معدن نفيس ، معدن ورثة الأنبياء وحملة الهدى والحق والفضيلة إلى البشرية ، وهو مثال واضح للعمل الدؤوب ، والتخطيط المنظم ، والتأصيل غير المسبوق ، وغزارة الإنتاج ” [11] .
وقال الدكتور شوقي ضيف : ” إن أنور الجندي لا يقل في كتاباته وما توصل إليه من نتائج باهرة عن العلماء الأفذاذ في تاريخنا مثل الجاحظ والأصمعي وابن تيمية وابن القيم في موسوعية المعرفة والجهاد الطويل بالنفس والروح والوقت لنصرة الإسلام وقضاياه المصيرية ” [12] .
وقال الأستاذ عبد المنعم يونس : ” ولقد قيضه الله للأمة الإسلامية في هذه الفترة الزمنية التي حفلت بكثير من الأفكار الوافدة التي أرادت تشويه الإسلام ” [13] .
وقال الدكتور حسين مجيب المصري : ” كان الجندي جامعةً قائمةً في رجل واحد ، تخرج منها آلاف المثقفين ” [14] .
وقال الدكتور عبد الحليم عويس : ” كان أنور الجندي فارساً في مدرسة إسلامية كانت مهمتها أن تواجه الحملة الشرسة التي شنها المستغربون ” [15] .
وقال الدكتور يوسف القرضاوي : ” كان واقفاً بالمرصاد لكل دعاة التغريب ، يكشف زيفهم ، ويهتك سترهم ، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا ” [16] .
وقال : ” عاش عمره راهباً في صومعة العلم والثقافة ، يقرأ ويكتب ، ولا يبتغي من أحد جزاءً ولا شكوراً ” [17] .
وقال الأستاذ عصام تليمة : ” إنه عاش للإسلام ، وعاش بالإسلام ، عاش للإسلام ينافح عنه ويدافع عن مبادئه ” [18] .
وقال الأستاذ عبد الصبور شاهين : ” دافع عن قضايا أمته ، فكان أفضل المحامين ” [19] .
وقال الأستاذ جمال عبد الهادي : ” كان أنور الجندي زاهداً في معيشته ودنياه ” [20] .
وقال الدكتور محمد يحيى : ” ومن مميزات الجندي أنه اطلع على الفكر الغربي ولم ينبهر به ؛ بل نقده بقدم ثابتة … ولقد التزم الجندي بثوابت الأمة ولم يخرج عنها ” [21] .
وقال الأستاذ جمال سلطان : ” مثّل في مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين كتيبة فكرية كاملة العتاد والسلاح في وجه تيارات التغريب ، وما زلت أذكر أن كتبه ورسائله التي أخرجها في ذلك الوقت كانت تمثلّ زاداً متجدداً ، يحمي عقولنا نحن أبناء ذلك الجيل من التيه وتزييف الوعي ” [22] .
وقال الأستاذ محمود خليل : ” كان أنور الجندي بحق هو الأمين الأول على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة : جيل البناء والتأسيس ، وجيل الصبر والجهاد ، وجيل التكوين والانتشار ، وجيل التربية والمستقبل ” [23] .
وقال الأستاذ الداعية عبدالسلام البسيوني : ” سمه راهب المعرفه … سمه الورع العفيف … سمه التقي الخفي … سمه الزاهد في الدنيا كلها … سمه الرجل الأمة … سمه حامي الثغر الفكري للإسلام … سمه حائط الصد ضد العلمنة والتغريب والانبطاح … وستكون في تسميتك هذه محقاً ، فالرجل ذلك ، وأكثر من ذلك … ولا أزكي على الله تعالى أحداً ” [24] .
وقال الدكتور عبد الله الجبوري : ” إنه من الكتاب البررة ، الذين حملوا أمانة العلم ، ورفعوا لواء الجهاد الفكري ” [25] .
ولكن لم تنصفه أمته و جيله :
” هذا كاتب ملأ آفاق الفكر العربي إنتاجاً وعلماً وأبحاثاً ، فما كاد يموت حتى نسيه الناس ، كأنما لم يكن له من قبل ذكر أو أثر ” .
هذا ما قاله الأستاذ أنور الجندي عن ” زكي مبارك ” معرباً عن أسفه الشديد على تجاهل القوم له ؛ ولكن الأستاذ الجندي لم يكن يدري – حين كتب هذه الكلمة المكلومة – أنه ستعامله الأمة نفس المعاملة ، وأنه سيكون أيضاً يوماً من الأيام مجهولاً ، مظلوماً ، منسياً ، كأنما لم يكن له من قبل ذكر أو أثر . فعلى الرغم من نبوغه وعبقريته التي كان يتمتع بها ، والتي جعلته بحقٍ معلمة فريدة للإسلام ، وبوأته محلاً رفيعاً من العظمة والاحترام ، وبالرغم من عظيم قدره ، وحجم شخصيته ، وغزارة إنتاجه ، وكثرة مؤلفاته لم ينل من أمته – الذي أنفق على حمايتها ودفاعها عمره وعقله – ومن جيله – الذي بذل لأجله مهجته وروحه ، نفسه ونفيسه – من الإنصاف والتقدير والوفاء ما يستحق به ، لا في حياته ولا بعد وفاته .
نحن نتساءل هنا ، هل كان يجوز لأمة الإسلام أن يتجاهلوا مثل الأستاذ الجندي ولا يقدروه ؟! لماذا كان ” خفياً وأشخاص في ربع قامته يتطاولون ؟! …. ولماذا كان منسياً ومساكين يذكرون ويبرزون ؟! …. ولماذا تجاهله كثير من أصحاب اللافتات الإسلامية حياً وميتاً ، في حين أن مجاهيل يبكي عليهم ويؤبنون ؟! ” .
هل من الإنصاف أن ينسى الذي أدى دوره في صمت وإخلاص ، وقام بمفرده بعيداً عن أضواء الشهرة بمنجزات وأعمال ، تعجز عنها المؤسسات والمجامع ، وتقصر دونها عشرات الميزانيات والخطط ؟!
أليس من العجائب والغرائب أن يقضي مثل الأستاذ الجندي نحبه وينتقل إلى جوار ربه ، ولا تكتب عنه صحيفة ، ولا تتحدث عنه وسائل الإعلام ؟!
لقد أبدى الدكتور يوسف القرضاوي سخطه الشديد على تجاهل الأمة لهذه المعلمة ، وإعراض وسائل الإعلام عن هذه الشخصية الغالية بقوله :
” علمت بالأمس أن الكاتب الإسلامي المرموق الأستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم ، وانتقل إلى جوار ربه منذ الإثنين الماضي 28/1/2002م ، بلغني ذلك أحد إخواني ، فقلت : يا سبحان الله ! يموت مثل الكاتب الكبير ، المعروف بغزارة الإنتاج ، وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم ، والذي سخر قلمه لخدمة الإسلام وثقافته وحضارته ، ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن ، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام ، لا تكتب عنه صحيفة ، ولا تتحدث عنه إذاعة ، ولا يعرّف به تلفاز ، كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروةً طائلةً من الكتب والموسوعات في مخلتف آفاق الثقافة العربية والإسلامية ، وقد كان عضواً عاملاً بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة ، ومن أوائل الأعضاء في نقابة الصحفيين ، وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960م .
لو كان أنور الجندي مطرباً أو ممثلاً لامتلأت أنهار الصحف بالحديث عنه ، والتنويه بشأنه ، والثناء على منجزاته الفنية .
ولو كان لاعب كرة ، لتحدثت عنه الأوساط الرياضية وغير الرياضية ، وكيف خسرت الرياضة بموته فارساً من فرسانها ؛ بل كيف خسرت الأمة بموته كله نجماً من نجومها ، ذلك أن أمتنا تؤمن بعبقرية ( القدم ) ولا تؤمن بعبقرية ( القلم ) .
مسكين أنور الجندي ! لقد ظلمته أمته ميتاً ، كما ظلمته حياً ، فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه ، كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء الباهرة ” [26] .
وقال الأستاذ عبد السلام البسيوني ناقماً على الأمة والإعلام بأسلوب ، فيه تهكم شديد ، ونقد لاذع :
” لقد أذنب أنور الجندي ذنباً فظيعاً لا يغتفر … أنه عفيف ، قارّ في بيته ، لا يطرق الأبواب ، ولا يزاحم الأتراب ، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب !
كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره ، مستغرق في مشروعه ، غير مهتم كثيراً بلافتة محددة ….
أزعم أن أنور الجندي لو علق ( بادجاً ) واضحاً على صدره لكان له شأن آخر ، ولوجد من يدعوه في المناسبات ، ويقدمه في الاحتفالات ، ويثنى عليه غائباً وحاضراً .
وأزعم أن هناك ( عيال ) جهالاً ، لا وزن لهم من علم أو سنّ أو دعوة ؛ لكنهم منتمون … فصاروا بذلك ( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) … ناهيك عن أن يكون واحداً من المستنيرين أو الذين كانوا – زمان – رفاقاً مناضلين ، فهؤلاء تفتح لهم صالات كبار الشخصيات ، وأبواب الجامعات ، وتسود عنهم الصحف ، وتكتب المجلدات عن عبقريتهم وتميزهم وإبداعهم ، وتستر عوراتهم التي يعرونها دون خجل أو حياء ، فكشف العورات إبداع أيضاً عند ( ولاد الحمرة ) [27] .
ويقول الأستاذ الدكتور حلمي القاعود :
” لقد رأيت الرجل الواعي المجاهد فقد ظُلم ظلماً شديداً من الحياة الثقافية في بلادنا ، بينما تحتفي بكل أعداء الإسلام وخصومه ، ومن لا طعم لهم ولا لون ، وتمنحهم جوائزها ، وتنشر لهم كتبهم ودراساتهم الهزيلة ، وتقيم لهم السرادقات على الطريقة الفرعونية ” .
وقال : ” لم يمنح الرجل جائزةً حكوميةً ولم يتولّ منصباً ثقافياً كما أتيح لمن لهم أقل منه علماً وفضلاً ؛ بل إنه في الصحيفة الحكومية التي كا ن يعمل بها ، حُرم من النشر ، ومُنع أن يتجاوز منصب سكرتير التحرير الذي يعمل في الظل ( الديسك ) ” [28] .
أما حان لنا أن نرفع الأستاذ العبقري إلى المكانة التي تليق به !! ألا يكون من الحيف والظلم أن يظل مثل الأستاذ أنور الجندي مجهولاً ، لا يعرف الجيل الجديد عنه وعن ما خلف وراءه ثروةً طائلةً من الكتب والموسوعات ؟!! أليس من حق الجيل الجديد أن يتعرف على حياته ، وأدبه ، وفكره ، وعلى ما قام به من خدمات تشكر في مجالات الأدب ، والتاريخ ، والفكر ، والسياسة ، والاقتصاد ؟! أليس من واجبات الجامعات الرسمية والمدارس الدينية أن تقوم بتحضير الرسائل الجامعية والمؤلفات العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراه ، التي تتناول الجوانب المختلفة من حياته وجهوده ؟! نحن نناديكم ، فهل من مجيب ؟!
كيف عاش الأستاذ الجندي أخريات أيامه :
” عاش الأستاذ الجندي سنواته الأخيره حلس بيته وطريح فراشه ، يشكو بثه وحزنه إلى الله ، كما شكا يعقوب عليه السلام ، يشكو من سقم جسمه ، ويشكو أكثر من صنيع قومه معه ، الذين كثيراً ما قدموا النكرات ، ومنحوا العطايا للإمعات ، كما يشكو من إعراض إخوانه ، الذين نسوه في ساعة العسرة ، وأيام الأزمة والشدة ، والذين حرم ودهم وبرهم أحوج ما كان إليه .
( وفي آخر زمانه ) أقعده المرض عن الحركة ، وهو يعيش وحيداً ، لا يكاد يراه أحد ، أو يسأل عنه أحد ، بالرغم من عطائه الموصول طول عمره لدينه ، ووطنه ، وأمته العربية والإسلامية ” [29] .
وفاته :
وفي مساء الإثنين 13 ذي القعدة سنة 1422هـ الموافق 28/يناير 2002م توفي الأستاذ الجندي إلى رحمة الله عن عمر يناهز 85 عاماً ، قضى منها في حقل الفكر الإسلامي قرابة 70 عاماً ، يقاتل من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة ، ورد الشبهات الباطلة ، والأقاويل المضللة ، وحملات التغريب والغزو الفكري [30] .
وللأمانة نذكر أن فقيد الإسلام والمسلمين الجليل الراحل … كان دائم الترديد في ساعات الاحتضار : بأبي أنت وأمي يا رسول الله !
رضي الله عن معلمة الإسلام المعاصرة ، ورائدة الأصالة الفكرية الأمين ، وعوّض أمته عنه خيراً ، وأنزله منازل الأبرار ، وأعلى قدره في الصادقين [31] .
* الباحث بمركز الإمام البخاري للبحوث والدراسات الإسلامية ، بعلي جراه ، بأترابراديش ، بالهند .
[1] laha on line.com
[2] موقع إسلام أون لاين ، بعنوان : ” أنور الجندي … رجل بكته الأرض والسماء ” .
[3] في وداع الأعلام : 16 و 18 .
[4] www.ikhwanwiki.com بعنوان : ” الأستاذ أنور الجندي … قائد الكتيبة الإسلامية للمقاومة الفكرية ” .
[5] www.alarabnews.com بعنوان : ” أنور الجندي … رائد الأصالة والتنوير ” .
[6] www.masress.com almesryoon بعنوان : ” أنور الجندي راهب الفكر … وحارس الثغرة ” .
[7] نفس المصدر .
[8] في وداع الأعلام : 17 .
[9] www.alarabnews.com بعنوان : ” أنور الجندي … رائد الأصالة والتنوير ” .
[10] صحيفة روز اليوسف ، بعنوان : ” أنور الجندي … رائد من رواد الأدب الإسلامي ” .
[11] www.masress.com almesryoon بعنوان : ” أنور الجندي راهب الفكر … وحارس الثغرة ” .
[12] صحيفة روز اليوسف ، بعنوان : ” أنور الجندي … رائد من رواد الأدب الإسلامي .
[13] www.masress.com almesryoon بعنوان : ” أنور الجندي راهب الفكر … وحارس الثغرة ” .
[14] نفس المصدر .
[15] نفس المصدر .
[16] في وداع الأعلام : 18 .
[17] نفس المصدر : 14 .
[18] موقع إسلام أون لاين ، بعنوان : ” أنور الجندي … رجل بكته الأرض والسماء ” .
[19] صحيفة روز اليوسف ، بعنوان : ” أنور الجندي … رائد من رواد الأدب الإسلامي ” .
[20] نفس المصدر .
[21] www.masress.com almesryoon بعنوان : ” أنور الجندي راهب الفكر … وحارس الثغرة ” .
[22] نفس المصدر .
[23] موقع إسلام أون لاين ، بعنوان : ” أنور الجندي … الزاهد الرباني الدؤوب ” .
[24] نفس المصدر .
[25] alwatanvoice.com بعنوان : ” مع أنور الجندي في دفاعه عن الفكر العربي والإسلامي .
[26] في وداع الأعلام : 13 – 14 .
[27] www.masress.com almesryoon بعنوان : ” أنور الجندي راهب الفكر … وحارس الثغرة ” .
[28] الزاهد ، في صحبة الأستاذ أنور الجندي : 9 .
[29] في وداع الأعلام : 20 – 21 .
[30] أنور الجندي ، ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة .
[31] www.alarabnews.com بعنوان : ” أنور الجندي … رائد الأصالة والتنوير ” .