من دلالات فتح مكة المكرمة

القرآن الكريم : آداب تلاوة القرآن ، والاستماع إليه ، فضل حامل القرآن وما ينبغي له من الأدب ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
نوفمبر 10, 2020
مواجهة الكوارث والأوبئة من خلال الهدي النبوي ( جائحة كورونا أنموذجاً )
ديسمبر 15, 2020
القرآن الكريم : آداب تلاوة القرآن ، والاستماع إليه ، فضل حامل القرآن وما ينبغي له من الأدب ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
نوفمبر 10, 2020
مواجهة الكوارث والأوبئة من خلال الهدي النبوي ( جائحة كورونا أنموذجاً )
ديسمبر 15, 2020

الدعوة الإسلامية :

من دلالات فتح مكة المكرمة

بقلم : الشيخ الطاهر البدوي *

(1) مايتعلق بالهدنة ونقضها :

يدلنا سبب فتح مكة على أن أهل العهد والهدنة مع المسلمين إذا حاربوا من هم في ذمة المسلمين وجوارهم صاروا حربا لهم بذلك . ولم يبق بينهم وبين المسلمين من عهد . وهذا ما اتفق عليه علماء المسلمين .

تدلنا الطريقة التي قصد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة على أنه يجوز لإمام المسلمين ورئيسهم أن يفاجئ العدو بالإغارة والحرب لدى خيانته العهد ونبذه له . ولا يجب عليه أن يعلمهم بذلك . أما إذا لم تقع الخيانة وإنما خيف منهم ذلك بسبب علائم ودلائل قوية فلا يجوز حينئذ للإمام أن ينبذ عهدهم ويفاجئهم بالحرب والقتال بل لابد من إعلامهم جميعاً بذلك أولاً بدليل قوله تعالى : ” وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ ” ( الأنفال : 58 ) أي أعلمهم كلهم عن نبذك لعهدهم .

وفي عمله صلى الله عليه وسلم أيضاً دليل على أن مباشرة البعض لنقض العهد بمثابة مباشرة الجميع لذلك ما لم يبد الآخرون استنكاراً حقيقياً له . فالنبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بسكوت عامة قريش وإقرارهم لما بدر من بعضهم من الإغارة على حلفاء المسلمين ، دليلاً على أنهم قد دخلوا بذلك معهم في خيانة العهد ، وهذا لأنه لما دخلت عامة قريش في أمر الهدنة تبعاً لكبارهم وممثليهم اقتضى الأمر أن يخرج أيضاً هؤلاء العامة عن الهدنة ، تبعاً لما قام به كبارهم وزعماؤهم وممثلوهم .

وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع مقاتلة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة النبوية دون أن يسأل كلاً منهم هل نقض العهد أم لا . وكذلك فعل ببني النضير فقد أجلاهم كلهم بسبب خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين المسلمين ( في السنة قبلها وفيها نزلت سورة   الحشر ) وإنما كان الذين باشروا الخيانة بضعة أشخاص منهم فقط .

(2) حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله :

إننا نجد أنفسنا أمام مظهر جديد آخر لنبوته صلى الله عليه وسلم وما كان يؤيده به الوحي من قبل ربه جل جلاله . لقد قال لبعض أصحابه اذهبوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ضعينة معها كتاب فخذوه منها . فمن الذي أخبره بأمر هذا الكتاب وأطلعه على ما دار بين الضعينة         ( المرأة ) وحاطب بن أبي بلتعة في شأنه ؟ إنه الوحي . . وإذاً فهي النبوة . وهي التأييد من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى يتم المخطط الإلهي للفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين .

هل يجوز تعذيب المتهم بمختلف الوسائل حملاً له على الاعتراف ؟ لقد استدل بعضهم بما قاله علي رضي الله عنه لتلك المرأة : ” لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب ” استدلوا بذلك على أنه يجوز للإمام أو نائبه أن يسلك من الوسائل ما يراه كفيلاً بكشف الجريمة وإظهارها . كما استدلوا على ذلك بما روى من أن اليهود غيبوا أموالاً في غزوة خيبر لحيي بن أخطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه : ” ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ” ؟ فقال : أذهبته النفقات والحروب . فقال : ” العهد قريب والمال أكثر من ذلك ” .

فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب فقال لهم : قد رأيت حيي يطوف بخربة هنا ، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة . . وبعض الباحثين اليوم يسندون مثل  هذا الرأي إلى الإمام مالك رضي الله عنه .

والحق الذي عليه كل الأئمة الأربعة وجمهور الباحثين والعلماء أنه لا يجوز تعذيب المتهم الذي لم تثبت عليه الجريمة ببينة شرعية كافية ، حملاً له على الإقرار . فالمتهم بريئ ما لم تثبت جريمته بدلائل قطعية لا شبهة فيها . وخبر الضعينة التي أرسلها حاطب إلى مكة ، وتهديد علي رضي الله عنه ليس من هذا في شيئ وذلك لسببين اثنين :

أولاً : ليست تلك المرأة مجرد متهمة بما وجهت به ، بل هي حقيقة ثابتة ، دل عليها خير أصدق الناس قولاً وعملاً صلى الله عليه وسلم وهو أقوى في دلالته من بينة الاعتراف والإقرار . فكيف يقاس عليها من حامت حوله التهم لمجرد ظنون وشكوك من أناس غير معصومين ؟ وما يقال عن هذه المرأة يقال أيضاً عن حيي بن أخطب .

ثانياً : ليس إلقاء الثياب للتفتيش عن الكتاب كأمر التعذيب أو الحبس فالفرق بينهما كبير واضح . وإذا ثبت أن الكتاب معها لا محالة ولم يكن من سبيل إلى الوصول إليه إلا بالتنقيب في ثيابها فذلك أمر مشروع ولا ريب ، بل هو واجب استلزمه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من دفع الضر عن المسلمين .

وأما تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب فهو أولاً قائم كما قلنا على الحقيقة لا التهمة ، ثم هو ثانياً متعلق بأمر الجهاد والحرابة بين المسلمين وغيرهم ، فكيف يقاس عليه تعامل المسلمين بعضهم مع  بعض . وما زُعم أن هذا مذهب ذهب إليه مالك رضي الله عنه في فقهه ، فهو زعم باطل مخالف لما هو معروف واضح من مذهبه .

جاء في المدونة وهو من رواية سحنون عن مالك رضي الله عنه   قوله : ” قلت أرأيت إذا أقر بشيئ من الحدود بعد التهديد أو القيد أو الوعيد أو الضرب أو السجن . أيقام عليه الحد أم لا ؟ قال مالك : ” من أقر بعد التهديد أقيل . فالوعيد والقيد والتهديد والسجن والضرب تهديد عندي كله وأرى أن يقال ” ثم  قال : ” قلت فإن ضرب وهدد فأقر فأخرج القتيل أو أخرج المتاع الذي سرق ، أيقيم عليه الحد فيما أقر به أم لا وقد أخرج ذلك ؟ قال لا أقيم عليه الحد إلا أن يقر بذلك آمناً لا يخاف شيئاً ” .

أنزل الله قرآناً بسبب حاطب ابن أبي بلتعة ، على أنه لا يجوز للمسلمين في أي الظروف كانوا أن يتخذوا من أعداء الله تعالى أولياء لهم يلقون إليهم بالمودة أو أن يمدوا نحوهم يد الإخاء والتعاون وذلك رغم ما كان قد اعتذر به حاطب من أنه لصيق بقريش ليس له فيها شيعة تدافع عنه أو يحتمي بها . فهو يريد أن يتخذ عندهم يداً يحتمي بها عندما يحتمي غيره بما له بينهم من قرابة وأهل .

إن الآيات القرآنية نزلت صريحةً تأمر المسلمين أن يجعلوا ولاءهم لله وحده وأن يقيموا علاقاتهم مع الناس أياً كانوا على أساس ما يقتضيه ولاؤهم لهذا الدين الحنيف والإخلاص له ، وإلا كيف يتصور أن يضحي المسلمون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى ؟ فيشعر الحق عز وجل المومنين بأنهم منه وإليه يعاديهم من يعاديه فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض وهم أوداؤه وأحباؤه فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه . ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم .

” وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ ” ( الممتحنة : 1 ) . فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة ؟ كفروا بالحق وأخرجوا الرسول والمؤمنين لا لشيئ إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم ؟ فهي قضية العقيدة دون سواها وقضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه والإيمان الذي من أجله أخرجوهم . . فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهاداً في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله وهو عدو الله وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم : ” إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِى ” ( الممتحنة : 1 ) ، ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها  ” تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ”  ثم يهددهم تهديداً مخيفاً ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة ” وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ”       ( الممتحنة : 1 ) وهل يخيف المؤمن شيئ ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول ؟؟

وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيئ البقية : ” إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ”            ( الممتحنة : 2 ) فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل ، ويوقعوا بهم مايملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل . والأدهى من هذا كله والأشد والأنكر : ” وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ” . وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد واللسان  فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز ، كنز الإيمان ويرتد إلى الكفر هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان .

والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر ويهتدي بنوره بعد الضلال ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار كما جاء جلياً في الحديث الصحيح . فعدو الله هو الذي يريد أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان ، وإلى خراب الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور .

(3) تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح :

رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استفتح خطابه بقوله : ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ” ثم أعلن أمام قريش والجموع الغفيرة عن المجتمع الإسلامي الذي يقوم على المساواة والعدل بين الناس ، وشعاره قوله تعالى : ” يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ ” ( الحجرات : 13 ) وإذا فالتدفن تحت أقدام المسلمين بقايا تلك المآثر الجاهلية العتيقة العفنة من التفاخر بالآباء والأجداد والتباهي بالقومية والقبلية والعصبيات والاعتداد بفوارق الشكل واللغة والأنساب فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب .

لقد طويت منذ اللحظة جاهلية قريش فالتُطو معها سائر عاداتها وتقاليدها ، ولتُستعد عما قليل للموعد الحاسم عند إيوان كسرى وداخل بلاد الروم . فأصبحت مكة بعد اليوم مشرق حضارة ومدنية جديدتين تلبس منهما الدنيا كلها حلة من السعادة الإنسانية الشاملة . وهكذا دفنت فعلاً في تلك الساعة بقايا المآثر الجاهلية تحت الأقدام وبايعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام على أنه : ” لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ” وعلى أنه لا تعاظم إلا بحلة الإسلام ولا مباهاة إلا بالتمسك بنظامه . وبناءً على ذلك ملّكهم الله زمام العالم وأخضع لهم الدنيا .

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس بسبب أنهم من أصل واحد كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته لواء التقوى في ظل الله  وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس وللأرض وللقبيلة وللبيت وكلها من الجاهلية وإليها وإن تسمت بشتى الأسماء واكتست شتىّ الأزياء . فهذه الجاهلية التي يحاربها الإسلام جاهلية تحمل رايات عديدة ، رايات زائفة لا يعرفها الإسلام . وقال صلى الله عليه وسلم عن هذه العصبية الجاهلية ” دعوها فإنها منتنة ” .

وا آسفا نرى أن هذه العصبية استيقظت من سباتها وأخذت تفتك ذرعاً بالمؤمنين وذهبت بدينهم ومقدساتهم فهل من فتح جديد ؟؟؟ ألا إن نصر الله قريب .

(4) بيعة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم :

تدل بيعة النساء رضوان الله عليهن للرسول صلى الله عليه وسلم على أن المرأة شقيقة الرجل تشترك معه في جميع مسئوليات الحياة التي ينبغي أن ينهض بها المسلم . ولذلك كان على الخليفة أو الحاكم المسلم أن يأخذ عليهن العهد بالعمل على إقامة المجتمع الإسلامي بكل الوسائل المشروعة الممكنة كما يأخذ العهد في ذلك على الرجال بأن ليس بينهما فرق ولا تفاوت .

ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تتعلم شؤون دينها كما يتعلم الرجل وأن تسلك كل السبل المشروعة الممكنة إلى التسلح بسلاح العلم والوعي والتنبه إلى مكامن الكيد وأساليبه لدى أعداء الإسلام الذين يتربصون به ، حتى تستطيع أن تنهض بالعهد الذي قطعته على نفسها وتنفذ عقد البيعة الذي في عنقها .

وواضح أن المرأة لا تستطيع أن تنهض بشيئ من هذا إذا كانت جاهلةً بحقائق دينها غير منتبهة إلى أساليب الكيد الأجنبي من حولها . . ورحم الله حافظ إبراهيم الذي يقول :

الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددت شعبا طيب الأعراق

فلها ما للرجال وعليها ما عليه في إطار مقوماتها وتكوينها العضوي ، وإذا ساهمت في بناء المجتمع ساهمت من خلال بيت زوجها لا على حساب واجباتها العائلية أو الاجتماعية أو على حساب أخلاقها ، وان استطاعت أن توفق بين البيت والمجتمع فلها ما أرادت ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم .

* كبير علماء الجزائر .