هيهات لا يأتي الزمان بمثله !

الإسلام الصادق دافع عن كل بلاء نازل !
مارس 14, 2023
الحج ودعائم الوحدة الإسلامية !
يونيو 23, 2023
الإسلام الصادق دافع عن كل بلاء نازل !
مارس 14, 2023
الحج ودعائم الوحدة الإسلامية !
يونيو 23, 2023

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

هيهات لا يأتي الزمان بمثله !

فأجأنا هذا النبأ المفجع وملأنا كمداً وغماً أن سعادة أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي قد انتقل إلى رحمة الله تعالى ، ظهر يوم الخميس في 21/ رمضان سنة 1444هـ ، الموافق 13/ أبريل 2023م ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وكان الشيخ نازلاً في دار الضيافة لندوة العلماء منذ أسبوع لمرض عادي ، وكان يشكو النزلة والحمى كعادته في هذا العمر ، وما كان يُخشى أنه سيفارقنا على عجل ، وقد كنت عنده بعد صلاة الظهر في ذلك اليوم ، وكان مضطجعاً على فراشه ، لا يتكلم شيئاً ، كأنه مغشي عليه ، فما إن وصلت إلى البيت حتى سمعت هذا النبأ الحزين ، المفتِّت للأكباد ، وقلت بلسان الشاعر :

يا نفس أجملي جزعا فإنك ما تحذرين قد وقعا

لا شك أن الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي كان خليفة إمامنا ومربينا الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، وقد خلفه في جميع الشئون العلمية والإدارية في ندوة العلماء ، وكان موفقاً كل التوفيق في أعماله ونشاطاته ، ذلك لأنه تربى على يديه ، ودرس عليه ، ورافقه في سفره وحضره ، وحله وترحاله ، وقد نال من شفقته وعنايته ما جعله جديراً بالمؤهلات العلمية والدينية ، وكان الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي يجمع في شخصيته صفات متنوعةً ومزايا مختلفةً ، فكان في جانب عالماً ربانيا ، وقائداً دينياً ، وأستاذاً شفوقاً ، وواعظاً قديراً ، وصحافياً بارعاً ، وإدارياً خبيراً . وفي جانب آخر كان متميزاً بمكارم الأخلاق ، إنه رأس ندوة العلماء ، وقاد هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند ، وأشرف على هيئة التعليم الديني لولاية أترابراديش ، كما راقب عن كثب نشاطات وفعاليات رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وكانت مشوراته السديدة ، وأقضيته المبرمة تقود الأمة الإسلامية الهندية على خطى حثيثة ، وكان سكوته مثل البحر ، وتواضعه مثل الأرض ، وقوته وصلابته مثل الجبل ، وعلو همته مثل السماء ، ففاق بهذه الميزات بين أقرانه ، وليس في عصره من يشاركه في هذه الصفات .

كانت رسالة حياته الدعوة والإصلاح ، وبناء الإنسانية ، فاستخدم لذلك طرقاً شتى من التأليف والوعظ والتدريس والصحافة ، وكان مطلعاً على نفسيات المستمعين والمخاطبين ، وخبيراً بأحوال الأمم والشعوب ، وقد زار البلدان ، وجال في الأقطار ورأى أوضاعها ودرسها دراسةً واعيةً ، فكانت كلماته وخطبه حول الموضوع حديثاً عن تجارب موسعة ، فكل من زاره أو لقيه أو سمع كلامه تأثر به للغاية .

كانت مجالسه العلمية والإصلاحية تعقد بعد صلاة العشاء في  دار الضيافة لندوة العلماء ، يحضرها أساتذة الدار وطلابها ، وكنت أيضاً من المستمعين إلى هذه المجالس ، وهذه السلسلة ليست حديثةً من نوعها ، فقد كان الإمام العلامة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي يعقد أمثال هذه المجالس لإفادة الأساتذة والطلاب وعامة الناس ، وكان الناس من المثقفين والعلماء في مدينة لكناؤ يحضرون هذه المجالس الدينية ، ويستفيدون منها ، وظل على هذا الدرب الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي بعد ما عُين رئيساً لندوة العلماء ، فأحياناً تُقرأ كتب علمية ودينية في هذه المجالس ، وأحياناً يقدم أمام الحضور ما بدا له من الأمور الدينية والإصلاحية .

وكان من فضل الله تعالى على نفسي أني التحقت بدار العلوم لندوة العلماء كطالب علم منذ 1952م ، ومن أول يوم تعرفت على أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ، ثم توثقت هذه الصلة به إلى آخر أنفاس حياته بحمد الله وفضله ، ويغطي ذلك مدة زمانية حوالي 75 عاماً ، وكنت خلال هذه المدة أمام أستاذنا كمحب وتلميذ ومسترشد له ، أتشاور معه ، وأساعده في شئونه العلمية والإدارية ، وقد درست عليه في السنة الأولى للتخصص في الأدب العربي كتاب رنات المثالث والمثاني لأبي الفرج الأصبهاني ، ( وهو تلخيص للأغاني ) ، وكان أسلوب أستاذنا أسلوباً جميلاً رائعاً ، حينما يشرح الكلمات والمفردات فيخوض في فقهها وباطنها ، وردت مرةً خلال الدرس كلمة : حِين في معنى الوقت ، فقال : حان يحين حِيناً معناه قرب ، مثلاً : حانت الصلاة ، وحين جمع أحيان ، قال الشاعر العربي :

وأحياناً على بكر أخينا  إذا ما لم نجد إلا أخانا

وحان يحين حَينا بفتح الحاء في معنى : هلك ، والحَين بفتح الحاء : الهلاك والدمار ، قال العرب : نحن في يد الحَين بين البحرين ، وقالوا : حيَّنه الله : أهلكه الله تعالى .

وحينما بدأ أستاذنا تأليف كتاب منثورات من أدب العرب فكلفنا أن نقوم بشرح الكلمات الصعبة الواردة في هذا الكتاب ، فقمت بهذا الواجب امتثالاً لأمره ، ولا يزال هذا العمل في حاشية الكتاب ، ولا ننسى أبداً مساهمته وتشجيعه البالغ على إصدار مجلة البعث الإسلامي الصادرة من ندوة العلماء منذ عام 1955م ، فإنه أفادنا ( أنا وزميلنا الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله ) بتوجيهات قيمة ، وما زالت المجلة تنال عطفه ودعمه العلمي منذ أول يومها ، ففي ملفاتها نشرت له مقالات أدبية ، بحيث لو جُمعت في مجموعة لأخذ ذلك صورة كتاب أدبي قيم ، وفي آخر سنوات حياته لا تزال تنشر مقالاته حول مواضيع متنوعة إما مترجمةً أو أصلاً تعميماً لنفع القراء .

صدرت صحيفة الرائد باقتراح أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ، وهو المؤسس ورئيس تحريرها الأول ، فإنه جعلنا من مساعديه ومستشاريه ، وكلفنا أن نكتب كلمةً أو قصةً في عمود الأطفال ، وحينما أصبح الرئيس العام للصحيفة جعلنا نائب الرئيس لها ، والحمد لله على ذلك ، ولا أزال أكتب في صحيفة الرائد منذ أول يومها ، وقد خصص لنا أستاذنا عموداً باسم : كلمة الرائد ، وهو عمود معروف في الصحيفة ، يعرفه كل من يقرأ الصحيفة أو يطالعها .

كم أذكر لأستاذنا من مآثر وحسنات في حياته ، فإن حياته حافلة بالإنجازات العلمية والأعمال الجليلة ، ومن سعادة حظي أنه قدم لعدد من كتبي ومؤلفاتي ، ولا سيما شعراء الرسول في ضوء الواقع والقريض الذي كان مشرفاً عليه إلى إنجازه لنيل شهادة الدكتوراه ، وقد شرفني أن أقدم لبعض كتبه ومؤلفاته ، فكتبت تقديمات وكلمات تعريف بعدد من مؤلفاته ، وهي تطبع وتنشر من دور النشر والتوزيع ، وقد كتبت شيئاً حول مؤلفه القيم الذائع الصيت المعروف : الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية :

” ظهر في كل عصر وزمان علماء العربية بدراسة القرآن الكريم والتعمق في معانيه ودقائقه ، وتلقاه الناس بغاية من الاحترام والإعجاب والتقدير ، واستفادوا مما جاء فيه من إشارات وبيانات لنزول السور والآيات وشرح مفاهيم التشريع والتطبيق العملي الذي احتوى عليه كلامهم ، وقد كان في الزمن الأخير مؤلفات كثيرة عن فضل كتاب الله تعالى وعظمة بيانه وشرفه وتطابق معناه مع طبيعة الإنسان والكون ، فكان لسماحة العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي كتاب حول انطباعاته عن كتاب الله تعالى في ضوء أقوال وآراء علماء التفسير ، وما فيه من دعوة تبليغية إلى دين الإسلام والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وما فيه من أفكار وآراء علمية وبيانية تعين على فهم خلود الدين وشموليته ، وتثير في النفس عواطف الحب والاستسلام لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللقرآن الكريم وشريعته الباقية النامية الخالدة ”    ( تقديم الكتاب 31 – 33 ، طبع دار القلم ) .

نالت ندوة العلماء في حياته صيتاً حسناً ، وشهرةً فائقةً ، وقد وصل صوتها إلى جميع القارات ، وتوسعت دوائرها ، وتشبعت ، حتى ازداد عدد خريجي دار العلوم لندوة العلماء في عهده بكثرة كاثرة ، وكان يركز كثيراً على تربية الطلاب ليتحلى الطلاب بالثقافة الدينية ، فيجمع الطلاب أحياناً في جامع ندوة العلماء باقتراح مني كمدير        لدار العلوم ، ويخطب خطباً وكلمات نابعةً من قرارة القلب ، تؤثر تأثيراً كبيراً ، وقد كان يتخول أساتذة دار العلوم ومدرسيها بالموعظة والنصح ، لكي يكونوا نشطاء في إعداد الطلاب ، وتعليمهم وتربيتهم ، ولا يتغافلوا عن وظائفهم ومسئولياتهم ، وكان عهده في رئاسة ندوة العلماء عهداً زاهراً ، بدأت رئاسته لندوة العلماء بعد إمامنا العلامة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، وكان على طرازه ، لا يأخذ من الرواتب المادية شيئاً ، غير أنه وقف حياته كلها لندوة العلماء وأعمالها ، وكان يزهد في حطام الدنيا ، وكان مثالاً للسلف الصالح ، وكان يقضي حياةً نموذجيةً بسيطةً حتى جاءه الأجل المحتوم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وحينما انتشر نعي وفاته سارع الناس إلى رحاب ندوة العلماء ، وقررت صلاة الجنازة عليه بعد صلاة التراويح ، فجاء محبوه وتلامذته وعامة الناس للحضور في صلاة الجنازة ، وتم أداء صلاة الجنازة في الساعة العاشرة والنصف ليلاً بإمامة كاتب هذه السطور ، ثم نُقل جثمانه إلى زاوية الشيخ علم الله الحسني وصُليت عليه صلاة الجنازة الأخرى صباحاً في الساعة الثامنة ، ثم وري جسده في القبر : على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هذه بعض انطباعاتي حول أستاذنا وفقيدنا ، وتعلن أسرة المجلة أن عدداً ممتازاً للمجلة حول أعمال وإنجازات الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي سيصدر بإذن الله في مدة قريبة ، وقد صدق الشاعر :

هيهات لا يأتي الزمان بمثله      إن الزمان بمثله لبخيل

وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب .

سعيد الأعظمي الندوي

5/شوال/1444هـ

26/أبريل/2023م