من مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم

مسؤولية الوالدين في العصر الراهن في ضوء الكتاب والسيرة النبوية
أغسطس 28, 2022
الالتفات أسلوب إعجازي للقرآن الكريم
أغسطس 28, 2022
مسؤولية الوالدين في العصر الراهن في ضوء الكتاب والسيرة النبوية
أغسطس 28, 2022
الالتفات أسلوب إعجازي للقرآن الكريم
أغسطس 28, 2022

الدعوة الإسلامية :

من مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم

الأستاذ رفيع الدين حنيف القاسمي *

كلّ واحد منا يدّعي أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويكرمه ، ويجّله ، ويتبنى أسوته ، ويصف حياته بالسيرة النبوية الشاملة ؛ ولكن إذا قمنا بالموازنة بين قوله وعمله وجدنا بينهما بوناً شاسعاً ، وهو يختار لنفسه المناهج الأرضية ، والقوانين الوضعية تاركاً سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهديه ، وأسوته ، ونابذاً لها وراء ظهره ، سلوكه هذا المأساوي الشنيع هو ما تنقض به دعواه بأنه يكرم سيد البشرية ، ويتأسى بذات السيرة في كل قوله وفعله ، الحب الصادق له مقتضيات ، الحب الصادق له شروط ، فمن يمتثلها ويطبقها في حياته فهو محب صادق حقّاً ، فيقول الشاعر ما معناه : من يدعي حب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يفد من هديه فقوله سفاهة وهراء ، وكما قال الإمام الشافعي :

تعصى الإله وأنت تظهر حبــه هذا لعمري في القياس بديعُ

لو كان حبّك صادقا لأطعته إن الـــمــحــب لمن يحب يطيع

إن من أحب شيئاً آثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ، وكان مدعياً فقط ، فالصادق في حب النبي صلّى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه ، قد تحدث علماء الأمة عن علاماته ، فيقول القاضي عياض : ” ومن محبته نصرة سنته ، والذب عن شريعته ، وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه ” . ويقول الحافظ ابن حجر : ” ومن علامة الحب المذكور أن يُعرض على المرء أن لو خيِّر بين فقد غرض من أغراضه ، أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنةً ، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنةً – أشد عليه من فقد شيئ من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة ، ومن لا فلا ، وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد ، بل يأتي مثله في نصرة سنه ، والذب عن شريعته ، وقمع مخالفيها ، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ” [1] .

أولاً : لزوم محبته صلى الله عليه وسلم :

ومن مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حبه أزيد من حبه أولاده وأمواله ، وسائر دنياه ، فقد قال الله عز وجل : ” قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ” [2] . فيكفي هذه الآية الكريمة دلالةً وشهادةً في وجوب حب الرسول صلى الله عليه وسلم والتزام محبته أكثر من كل شيئ في الدنيا ، وإلا أوعدهم الله عز وجل بقوله : ” فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ” وقال عنهم : وهم الذين حادوا عن طريقة الهداية وسلكوا في طريق الغواية .

وهناك أحاديث أخرى تشير إلى فرضية حب الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن أنس رضي الله عنه : ” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ” [3] .

وكذلك عن زهرة بن معبد عن جده قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيئ إلا نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه ، فقال عمر : فلأنت الآن والله أحب إلي من نفسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر [4] .

ثانياً : الاقتداء به ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى : ” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ ” [5] . لا بد للمحب أن يقتفي آثاره صلى الله عليه وسلم واتبع  هديه ، وإيثار ما شرعه ، والحض عليه وتقديمه على هوى نفسه وموافقة شهوته .

ثانياً : وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم :

إن الله عز وجل جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعته ، ووعد على طاعته صلى الله عليه وسلم الثواب الجزيل ، والأجر الوفير ، كما أوعد على مخالفته بسوء العقاب ، فأوجب امتثال أمره واجتناب نواهيه ، فقال الله عز وجل : ” مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ” [6] . كما جاء في الكتاب المجيد : ” وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ” [7] . وقال السمرقندي في ذلك : أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سننه ، وقيل : أطيعوا الله فيما حرم عليكم ، والرسول فيما بلغكم ، ويقال : أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية ، والنبي بالشهادة له بالنبوة ، نحن نقدم هنا بعض الأحاديث في وجوب إطاعته ، فقد ورد في الخبر : عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً ، فقال : يا قوم ! إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء ، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبَّحهم الجيش ، فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق [8] . وفي حديث آخر :         ” كمثل رجل بنى داراً ، وجعل فيها مأدبةً ، وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة . . . فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن أطاع محمداً صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله ومن عصى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس ” [9] .

ثالثاً : وجوب اتباعه وامتثال سنته ، والاقتداء بهديه :

ومن مقتضى حب النبي صلى الله عليه وسلم وجوب اتباعه ، وامتثال أوامره ، والاقتداء بهديه في الأمور كلها ، لأن المحب لمن يحب يطيع ، وأنه يسعى إلى فعل ما يحبه حبيبه ، واجتناب ما يبغضه ، فقد قال الله عز وجل : ” قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ” [10] . يعني يغفر الله لكم إذا اتبعوه وآثروه على أهوائهم ، وما تجنح إليهم نفوسهم ، وقال في موضع آخر : ” فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ” [11] . يقول ابن كثير في مقتضى الآية وفحواها : ” يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة : أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً ؛ ولهذا قال : ” ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ” أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن ، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : ” والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ” [12] .

كان الصحابة والسلف الصالحون حريصين في اتباع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أن يبحثوا عن الدلائل ، ومن دون تردد واستفسار .

وفي رواية البخاري أن قوماً من الأنصار أسرعوا في تولية وجوههم نحو الكعبة وهم ركوع في مسجد قبا عند ما سمعوا عن تحويل القبلة [13] . هناك لم يترددوا في التمسك به ، بل بادروا بالتوجه إلى حيث توجه الحبيب .

كذلك في رواية البخاري لما حرمت الخمر ، ونادى المنادي ” ألا إن الخمر قد حرمت ” فأهرقوها ، فجرت في سكك المدينة [14] . تم ذلك كله من غير قيل وقال ، وتردد واستفسار ، يا له من استلام وانقياد ؟

عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله ، فقال : إني أعلم أنك حجر ، لا تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبّلك ما قبلتك [15] .

رئي عبد الله بن عمر رضي الله عنه يدير ناقته في مكان فسُئل عنه فقال : لا أدري إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ففعلتُه [16] .

وهذه سيرة الصحابة والصالحين من الأمة المحمدية أنهم يتبنون سيرته في الفرائض والواجبات ، والسنن ؛ حتى في المباحات والأمور التافهة من البول والبراز وملامسة النساء ، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة ، فما زلت أحبّ الدباء من يومئذ ، وهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وابن جعفر أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ( وهي جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال ) ويصبغ بالصفرة إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك نحوه [17] .

يقول الحسن بن أبي الحسن : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة ( المرجع السابق ) ، وقال سهل التستري : أصول مذهبنا ثلاثة : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأفعال ، والأكل من الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال ، وجاء في تفسير قوله تعالى :   ” والعمل الصالح يرفعه ” [18] . أنه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم [19] .

وهذا أحد السلف وهو الجنيد بن محمد يقول : ” الطرق إلى الله – تعالى – كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته ؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه ، ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ” [20] [21] .

رابعاً : ترك مخالفة أمره ، وتبديل سنته :

ومن مقتضيات حب الرسول أن يتبع سنته ، ويتأسى بسيرته ، ويقتدي بهديه كما كانت ، فمخالفة أمره وتبديل سننه بدعة وضلالة ، يستحق العبد على ذلك العذاب والخذلان من الله عز وجل ، فقال الله عز وجل : ” فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ” [22] . وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ” ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال . فأناديهم ألا هلموا إنهم قد بدلوا بعدك ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم ، فأقول ألا سحقاً سحقاً ” [23] .

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” فمن رغب عن سنتي فليس مني ” [24] .

خامساً : كثرة ذكره له صلى الله عليه وسلم :

ومن مقتضيات حبه كثرة ذكره ، فمن أحب شيئاً يذكره ، ويزداد شوقه إلى لقائه ، فكل محب يحب لقاء حبيبه ، ويرغب في صحبته ، ويحرص في مرافقته في الدنيا والآخرة ، كيف فرح الأنصار بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا موقف السيرة النبوية يسترعي انتباهنا ، يخرجون في كل صباح إلى الحرة منتظرين قدومه صلى الله عليه وسلم ويجلسون هناك حتى تشتد حرارة الشمس فيعودون إلى بيوتهم ، ويصف البراء بن عازب فرح أهل المدينة بمقدم الحبيب صلى الله عليه وسلم إليهم بقوله : ” فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ” [25] .

هناك صحابي جليل ، يذكر موته وموت الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فيخشى من عدم تمكنه من النظر إلى وجهه الكريم في الجنة ، وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنك لأحب إلي من نفسي ، وإنك لأحب إلي من أهلي ومالي ، وإنك لأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك ، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك . فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل – عليه السلام – بهذه الآية ” وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ ” [26] .

قال ابن القيم : ” لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب ، واستحضاره في قلبه ، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه ، تضاعف حبه وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه ، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه ولا شيئ أقر لعين المحب من رؤية محبوبه ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه ، فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه ، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه [27] .

خامساً : تعظيمه وتوقيره ، وإظهار الخشوع له :

ومن مقتضيات حب الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمه وتوقيره ، وإظهار خشوعه ، قال إسحاق التُجيبي : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم ، وبكوا ، وكذلك كثير من التابعين ، ومنهم من يفعل ذلك محبةً له وشوقاً إليه ، ومنهم يفعله تهيّباً وتوقيراً [28] .

ولقد حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على تعليم الناس تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كتعظيمه حياً ، وذلك من تمام وفائه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه روى البخاري : عن السائب بن يزيد قال : كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال : من أنتما أو من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه  وسلم [29] .

وقال مصعب بن عبد الله : ” كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوماً في ذلك : فقال : لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ” ، وذكر مالك عن محمد بن المنكدر : – وكان سيد القراء – ” لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه ” ، ولقد كنت أرى جعفر ابن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم ، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرّ لونه ، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة [30] . فمن تعظيم صلى الله عليه وسلم أن لا يذكر اسمه مجرداً ، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة ، وهذا كان أدباً للصحابة ، في نائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره ، فلا يقال : محمد ، ولكن : نبي الله ، أو الرسول ، ونحو ذلك ، كذلك كلما يذكر اسمه يصلى ويسلم عليه .

سادساً : شفقته ورأفته على أمته :

ومن مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم شفقته على أمته ونصحه لهم ، وسعيه في مصالحهم ، ورفع المضار عنهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أمته ، ولقد لاقى الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى والكيد من المشركين في مكة والطائف ، ولقد قال الله عز وجل : ” لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ” [31] . وقوله تعالى : ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ” [32] .

سابعاً : محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم وبغض من أبغضه :

ومن مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه من  أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، وعداوة من عاداهم وبعض من أبغضهم ، لأنه فمن أحبّ شيئاً أحب من يحب ، فمن إجلال أهل البيت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر مناقبهم ومحاسنهم ، والذود عنهم ، والدعاء لهم في الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : ” قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ” [33] .

فمن محبة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذكر محاسنهم ، وفضائلهم ، والكف عما شجر بينهم ، يخشى الخسارة ممن يلمز أصحابه ويلومهم في الدنيا والآخرة ففي الحديث : ” لا تسبوا أحداً من أصحابي ، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ” [34] .

ومن مقتضى حب النبي صلى الله عليه وسلم أن يبغض من أبغضه الله ورسوله ، وأن يعادي ويجانب من عاداه وجانبه ، من مخالف السنة والمبتدع في دينه ، فيقول الله عز وجل : ” لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ” [35] . وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبنائهم في مرضاة الله ، لما خالفوا الله والرسول في مواقع الحرب والسلم .

خلاصة القول :

نحن الآن قد تباعدنا كثيراً عن متابعة سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعظميه ، وتوقيره ، والمحبة القلبية الخالصة له ، وعدلنا عن سيرته وسننه ، وتشبثنا بأذيال عظماء الشرق الغرب ، وأنهجنا منهجهم ، في القيادة والسياسة ، وفي الفكر والفلسفة ، وفي الأدب والأخلاق ، ما اكتفينا بذلك ؛ بل نحن نعتز ونفتخر بالانتساب إليهم ، وباختيار أسلوبهم وطريقهم المضل ، أين نحن من سيرة الصحابة والأسلاف ؟ وأين حالنا من حالهم ؟ وما أثر الحب عندنا ، وما أثره عندهم ، ولقد قام قلوبهم ما قصرت هممنا عن أن تقوم بأقلّه ؟ فيرزقنا الله بما يحب ويرضى .

* وادي مصطفى ، شاهين نغر ، حيدرآباد ، الهند ، rafihaneef90@gmail.com

[1] فتح الباري : قوله باب حب الرسول : 1/59 ، دار المعرفة ، بيروت .

[2] التوبة : 24 .

[3] بخاري : حب الرسول صلى الله عليه وسلم ، حديث : 15 .

[4] مسند أحمد : حديث عبد الله بن هشام ، حديث : 18076 .

[5] آل عمران : 31 .

[6] النساء : 80 .

[7] الحشر : 7 .

[8] بخاري : باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث : 6854 .

[9] بخاري : باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث : 6852 .

[10] آل عمران : 31 .

[11] النساء : 65 .

[12] تفسير ابن كثير ، سورة النساء : 2/349 ، دار الطيبة للنشر والتوزيع .

[13] صحيح البخاري : باب ما جاء في إجازة خبر الواحد ، حديث : 6825 .

[14] صحيح البخاري : باب صب الخمر في الطريق ، حديث : 2464 .

[15] أبو داود : باب في تقبيل الحجر ، 1875 .

[16] الشفا : 2/10 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

[17] المرجع السوابق : 2/18 .

[18] فاطر : 10 .

[19] المرجع السابق .

[20] الأحزاب : 21 .

[21] حلية الأولياء : 10/257 ، دار الكتاب العربي ، بيروت .

[22] النور : 63 .

[23] ابن ماجة : باب ذكر الحوض ، حديث : 4306 .

[24] صحيح البخاري : باب الترغيب في النكاح ، حديث : 4776 .

[25] صحيح البخاري : باب مقدم النبي وأصحابه المدينة ، حديث : 3925 .

[26] مجمع الزوائد : من يطع الله والرسول ، حديث : 10937 .

[27] جلاء الفهم : 1/447 ، دار العروبة ، كويت .

[28] جل ( شفاء : 12/17 ) .

[29] صحيح البخاري : باب رفع الصوت في المساجد ، 458 .

[30] حلية الأولياء : 2/147 ، وسير أعلام النبلاء : 5/354 ، محبة النبي وتعظيمه ، عبد الله بن صالح الخضيري ، عبد اللطيف بن محمد الحسن ، مكتبة الملك فهد .

[31] التوبة : 128 .

[32] الأنبياء : 107 .

[33] الشورى : 23 .

[34] مسلم : باب تحريم سب الصحابة ، حديث : 222 .

[35] المجادلة : 22 .