من التفاوت والتمييز إلى العدل والمساواة

الحضارة القرآنية : عناصرها وقيمها العليا
أكتوبر 12, 2021
الرسول الخاتِم هو محمد أبو القاسم صلى الله عليه وسلم
نوفمبر 3, 2021
الحضارة القرآنية : عناصرها وقيمها العليا
أكتوبر 12, 2021
الرسول الخاتِم هو محمد أبو القاسم صلى الله عليه وسلم
نوفمبر 3, 2021

الدعوة الإسلامية :

من التفاوت والتمييز إلى العدل والمساواة

بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

إن شهر ربيع الأول هو في واقع أمره ربيع شهور السنة كلها ، وذلك بما امتاز به من عطاء وإغاثة للإنسانية بميلاد شخصية فذة في التاريخ الإنساني كله ، شخصية أعادت إلى الإنسانية كرامتها المسلوبة ، وانتشلتها من حضيض التفسخ والذلة ، هي شخصية خاتم الرسل محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، محبوب رب العالمين الذي ختم به رسالات السماء إلى الأرض ، وأكمل به دينه الذي شرعه للبشرية ، وأتم به نعمته على الإنسانية .

لقد كانت الإنسانية قبل هذا الرسول العظيم محمد بن عبد الله الأمين في فوضى شديدة للأخلاق وقهر وإذلال للفقراء والمستضعفين في الأرض رغم ما كان من تقدم للمدنية ، وبلوغ الإنسانية في العلم والمعارف البشرية إلى الكمال ، ورغم ما كان أحرزه الإنسان من رغد في العيش ، وقوة وعتاد للحياة ، فقد كان كسرى لا يرتاح إلا باستخدام آلاف الطُهاة لطعامه وآلاف الخادمين لخدمته ، وكان يصبر على العطش ، ولا يحتمل الشرب في أواني الخزف أو المعادن الرخيصة ، ولم يكن يلبس تاجاً إلا بقيمة تبلغ إلى المستوى الخيالي ، ولم يكن وحده في هذا الرغد وعظيم الترف ، بل كان قواده وأمراؤه وأثرياء مملكته أيضاً على هذا الطور من الحياة من أكل لذيذ وعيش رغيد ، ولبس لأغلى الملابس والتظاهر بالأمة والشوكة ، وبجانب آخر كانت كفة أخرى لميزان مستوى الحياة طائشة ، فقد كان عامة البشر في جهد مضن وفقر مدقع وحرمان وعذاب ، يعملون كالبهائم ، ويعيشون كالسوام ، ويواجهون القمع والبطش والتعذيب على أدنى تكاسل في خدمة الأثرياء ، ولم يكن ذلك في المملكة الكسروية فحسب ، بل كان مثله في المملكة القيصرية كذلك ، لقد كان أثرياؤها وأمراؤها يحرقون الأسرى والعبيد في مآدبهم الكبيرة ، ليتمتع الضيوف بالتفرج على اشتعال النيران في الجسد الإنساني المتحرق ، وأنه كيف يتململ ويتلوى ألماً من تأثير لظاها وأوارها ، وكان الضيوف المترفون يضحكون ويفرحون من هذه النزهة الحمراء الدامية ، لقد قامت مدنيات زاهرة مزركشة بفنونها وأهوائها في التاريخ الإنساني ، ولكن زركشتها هذه كانت تحصل من ألوان دماء الفقراء والمستضعفين ، ولقد نبغ في هذه الأدوار الراقية عقلاء وفلاسفة صغار وكبار ، ولكنهم كانوا يرضون بكل ذلك فيبقون صامتين أو ساهين ، مشتغلين بفلسفاتهم وآرائهم ، وقد نظر رب العالمين نظرةً إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ( كما ورد في الحديث النبوي الشريف ) ، ولكن هؤلاء البقايا من أهل الكتاب وصلوا أخيراً إلى آخر درجات النقص والتضاءل ، فجاشت رحمة الله على عباده البائسين بالشقاء والعذاب ، وأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في العرب وهم غير أهل الكتاب ، وبذلك نقل مسئولية الرسالة منهم إلى غيرهم ، فقد كان أهل الكتاب قد بالغوا في إضاعة مسئوليتهم وإهدار كرامتها ، فقد كانت تقع عليهم مسئولية الإصلاح ، ولكنهم تهاونوا فيها ، وأضاعوها ، فنقل الله المسئولية إلى أمة كانت أميةً فضلاً عن أن تكون حاملةً لكتاب الله عز وجل ، وبعث رسوله فيها وأعطاه الكتاب الأخير العظيم الذي حمل تعليمات الدين في أكمل صوره ، فهو هدى ونور ، وهو كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، وهو الذكر الحكيم ، والقرآن الكريم والفرقان الحميد الذي حمل ميزةً وكمالاً لم يعهده أي كتاب سماوي قبله ، وهو قول الله تعالى : ( ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً ) ( المائدة : 3 ) .

ونقرأ القرآن فنجد فيه هدايةً لكل جوانب الحياة ، وتسديداً وتقويماً لكافة الآراء والأخلاق ، فهو دستور جامع للحياة ، وهداية كاملة للأخلاق ، وتصحيح بليغ لمسار حياة الإنسانية ، فهو رحمة للبشرية جمعاء ، ما وراءها رحمة ، وأنزله الله تعالى على خاتم رسله ليكون نبراساً للإنسانية إلى يوم القيامة ، لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الأمة العربية أولاً ، وكان قد ولد ونشأ فيها ، وكانت هذه الأمة على أفسد طور من أطوار الحياة ، يعبدون الأصنام ، ويأكلون الميتة ، ويئدون البنات ، ويتقاتلون فيما بينهم لأدنى أحوال الأنفة والحمية وأخف دواعي الغيرة والكبرياء ، فجاءت معجزة من أعظم المعجزات أن أنشأ رسول رب العالمين من هذه الأمة الفاسدة التائهة أمةً من أصلح الأمم في التاريخ الإنساني ، وأقواها همةً وأعظمها وحدةً وأشدها شكيمةً وصموداً أمام الفساد والطغيان فغيّر بها في نصف قرن وجه التاريخ الإنساني ، وملأ بتعاليمه السمحاء نفوس الناس وقلوبهم بروح المساواة والمواساة والبر والإحسان ، وظهرت أمثلة من العفاف والزهد في زخارف الحياة من إيثار خير الحياة الآجلة على راحة الحياة العاجلة ، ففي الوقت الذي كان رجل الدنيا يلبس قلنسوةً يبلغ ثمنها إلى أقصى حدود الإسراف والبذخ كان الرجل الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم يحمل تاج كسرى المحلى بالذهب واللآلي الثمينة تحت ذيل قميصه ، ويوصله بكل أمانة وزهد إلى أمير المؤمنين ، ويخفي حتى اسمه ويستر عمله بالصمت والإخفاء ، وفي الوقت الذي كان أمراء المدنيات الكافرة يحرقون عبيدهم وأسراهم ليتمتع ضيوفهم بمنظور احتراق الإنسان الحي بقلوبهم الحجرية الهامدة ، كان الأمراء التابعون لمحمد صلى الله عليه وسلم يساوون بينهم وبين عبيدهم إلى الحد الأقصى ، حتى شهد التاريخ الإسلامي مراراً أن العبيد المسلمين وصلوا إلى الحكم والسلطان ، آمرين وناهين لشعوبهم ، وفيها أبناء أسيادهم الذين لم يستنكروا ذلك ، ولم يعدوه إلا عملاً سياسياً لا عمل إهدار كرامة ، لأن الإسلام يساوي بين الإنسان والإنسان رغم اختلاف الألوان والسلالات ، واختلاف حالة الفقر والغنى ، فقد نادى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته الأخيرة ، وذلك في حجة الوداع بقوله : ” كلكم من آدم ، وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ” ( رواه الإمام أحمد في مسنده ) ، وأوصى لدى وفاته بالإحسان بالأرقاء والعبيد وبالنساء لأنهن ضعيفات بالنسبة إلى الرجال ، في الوقت الذي كان الرجال في أمم أخرى ولا يزالون فيها يستضعفون النساء ويكلفونهن بالأعمال الثقيلة ، ويستخدمونهن لمآرب ترفهم ومتعهم ، ويبخسون حقوقهن الإنسانية ، ويخدعونهن بالإغراءات الكاذبة ، وينعتونهن بالنعوت المستهوية الخادعة ، ويستعملونهن كالبضاعة وأدوات ترف ومتعة ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعاد إليهن حقوقهن ، ورفعهن من حضيض الحمأة والرذيلة ، فقد أعطاهن حق القبول والرفض في الزواج ، وحق طلب الطلاق من زوجها ، وإذا لم يرض فمن السلطة الشرعية ، وصان كرامتهن بالعفاف والحجاب ، وأوجب أن يكون مستوى معيشتهن من أكل ولباس ومباشرة نفس مستوى أزواجهن ، وعلى أزواجهن التكفل لنفقاتهن ، وأثبت لهن الحق في نيل تراث الأبوين والأقارب ، وساواهن مع الرجال في مجالات عامة من الحياة ، لقد أعطى الإسلام المرأة الحق في الانفصال عن زوجها إذا وجدت بقاءها معه غير قابل للاحتمال ، وذلك بالعكس مما في الأديان الأخرى التي تصبح فيها المرأة بعد أن تدخل في زواج رجل مثل الرقيق الذي لا يستطيع الخروج من ملكه ، فلا تملك حيلةً للانفصال ، ولقد قام بعض الأديان أخيراً بشيئ من التعديل في ذلك ، وأوسع الأمر للانفصال بين الزوجين ، وذلك تأسياً بما رأوه في الإسلام ، هذه حالة المرأة مع زوجها ، أما في بيت والديها فلا تكون فيه أيضاً في حالة مشرفة لأنها تكون ملزمةً بخدمة إخوتها ، وتنال كرامةً أقل منهم ، ثم إنها لا تساهم إخوتها في الاستفادة بحقوقها مثلهم ، وحصول الميراث من أبويها ، ولكن الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أعطت المرأة كل حقها في تقرير أمورها حسب مصالحها الدينية والدنيوية ، ونيل حقها في مال والديها ، بل وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصول الأجر والثواب على رعاية البنت أكثر من رعاية الابن ، وبذلك زاد من أهميتهن على أهمية إخوتهن .

إن أعظم عطاء جاء به الإسلام إلى أتباعه هو الجمع بين الدين والدنيا بالعكس مما عرفه الناس في الأديان الأخرى التي لا تعتني إلا بأمور العبادة فحسب ، فإن الإسلام في هذه الأديان يكون في داخل بيته حراً لدنياه ، ويكون دينه منحصراً في مكان عبادته ، ولكن الإسلام جمع الدين مع الدنيا ، فالدعاء الذي علمه القرآن أتباعه فهو : ( رَبَّنَآ آتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ) ، وقال الله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ) ( الأعراف : 32 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لنفسك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه ” ( رواه البخاري ) ، وأعلن بالحصول على الأجر في الآخرة إذا تلطف الزوج مع زوجته ، وكذلك إذا قام بتهيئة أسباب الراحة والعطف لأولاده .

على كل حال ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بدين من ربه يعترف بحاجة الإنسان في دنياه ، ويأمره بالعمل بها ، لينال بذلك الجنة في الآخرة ، إنه يعلمه حينما يدخل في المسجد أن يدعو الله لنيل الثواب والأجر في الآخرة ، وحينما يخرج من المسجد فعليه أن يدعو بالحصول على خير الدنيا كذلك وما ينفعه فيها ، وبذلك كله كانت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمةً للبشرية جمعاء بعد أن كانت البشرية تعاني من ظلم المترفين والأثرياء ، والذين ألزموا الناس بطقوس ظالمة وعادات مرهقة وتقاليد مجحفة باسم المدنية والحضارة .

إن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم غيَّرت مجرى حياتهم ، وجعلت آدابها سهلةً ميسورةً لهم ، فكانت نعمةً للفقراء والمستضعفين لأنها سهلت لهم طرق الحياة ، ويسَّرت لهم القيام بالعمل ، وكانت نعمة للمرأة بتحريرها من أغلال رقها لزوجها ، ومن كونها مكروهةً لدى أبويها وأقاربها . ومن كونها سلعةً رخيصةً في سوق الجنس ، وأداة انتفاع للرجال ، إن الإسلام قرر للمرأة الكرامة ، والشرف مثل الرجال ، لقد كانت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمةً عاليةً خالدةً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعاليمه الكريمة وتربيته السمحاء رحمةً للعالمين كما أخبره الله رب العالمين ، في كتابه الحميد وقرآنه المجيد : ( وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء : 107 ) .

فكلما يأتي شهر ربيع الأول الذي وُلد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهاجر فيه من مكة إلى المدينة ليقوم هناك بهداية الإنسانية ، ولتقرير أحكام الدين والدنيا وآداب الحياة التي تحرر الإنسان من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة ، فكلما يأتي هذا الشهر في كل سنة يملأ الأجواء بمسرات ونفحات ونعم وبركات ، فتستنير الأرض والسماء ، ويعم إشعاع الخير والنور ، وما أصدق الشاعر العربي شوقي حين يقول :

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفــم الــــزمـــان تـــبســم وثناء